Print
حسام أبو حامد

الشعبوية: "نحن الشعب، فمن أنتم؟".. من المصطلح إلى المفهوم(2)

21 سبتمبر 2019
هنا/الآن
ما هي ماهية الشعبوية؟ هل هي خطاب فكري، أم مهارة معينة في اجتذاب الناس؟ هل نحن أمام شعبوية أم شعبويات؟ هل الحركات الموصوفة بالشعبوية هي حقا كذلك، وتشكل خطرا على الديمقراطيات الغربية، أم أن الحركات الموصوفة بالشعبوية في تلك الساحة السياسية إنما هي في حقيقتها حركات نتجت عن أزمة الديمقراطية التمثيلية لانتزاع مزيد من المطالب الجماهيرية؟ ما هي ملامح الشعبوية السياسية عربيا وإسلاميا وكيف تختلف عن الشعبوية في الغرب؟ ما هي امتداداتها إعلاميا وثقافيا (فنيا وأدبيا)، وهل تلغي الشعبوية في هذا السياق القيمة الأدبية؟

نتابع في "ضفة ثالثة" ملفا بدأناه حول الشعبوية سياسيا وثقافيا، فقصدنا عددا من الباحثين والكتاب المهتمين بالظاهرة في تجلياتها المتنوعة، وما يتصل بها نظريا وعمليا، وطرحنا عليهم تلك التساؤلات وغيرها، بهدف مزيد من التأمل الفكري يكون مفيدا على طريق التأسيس لجهد بحثي قادر على الانتقال بالشعبوية من مستوى المصطلح إلى مستوى المفهوم، حتى يتيح القبض المفهومي على الظاهرة القدرة على التعامل معها وتوجيهها. وهي دعوة لا تزال مفتوحة لكل من يرغب في إثراء هذا النقاش.
في هذا الجزء الثاني تتمحور الآراء حول الإجابة عن السؤال: ما هي الشعبوية؟ والأسئلة المشتقة منه: هل هي خطاب فكري، أم مهارة معينة في اجتذاب الناس؟ وهل نحن أمام شعبوية أم شعبويات تختلف باختلاف السياقات الجيوسياسية والاجتماعية والتاريخية؟



سامي داوود، باحث وناقد كردي سوري:
الشعبوية في علاماتها البنيوية
لا، مفهوم الشعبوية ليس ملتبسا بالنسبة لي، رغم وجود رؤى متعارضة، تسحبُ كل منها تعينات الشعبوية إلى دلالات فضفاضة وفقا لأطر تاريخية ومجتمعية غير متماثلة، كالتعارض القائم في شعبوية الأميركيتين الجنوبية والشمالية، أو مقارباتها التي تحاول عزلها عن الإرث الديماغوجي الأوروبي، الذي زاوج بين الإرهاب المسلح والحدّة الأخلاقية، من أجل غايات لاعقلانية.
تنتظم الشعبوية في علامات تتكرر كبنية: مجموعات بشرية مصابة بحالة من التمركز على

الذات (هيغل). لديها خطاب كراهية موجه. ومتوهمة بتوفرها على تجانسٍ كتلوي، مهما كانت صيغه المختلطة، عرقية – أيديولوجية، كشعارات مارين لوبين حول إحساسها بـ "البيت الفرنسي". أو خليط ديني عرقي، كالتحديث العثماني في شعبوية أردوغان. وترتبط هذه المجموعات بعلاقة تنويمية مع زعيم كاريزمي عنيف دون شفقة. يقدم خطابا أهبل، ويكتشف علاقات غيبية بين الانتكاسات الاقتصادية المحلية، وبين عدوهم المتربص بهم، الذي يتكفل اليوم البحر المتوسط في توفير إحدى أكثر تجلياته "العدو القادم عبر البحر"، المهاجر الذي يأتي من بلادٍ تحكمها نُخب فاسدة، وتشتغل كعصابات في خدمة الاقتصاد الغربي أو الصيني. مع وجود إحساس بالانضواء في ظل بابوية قمعية مُلهمة، تجلت في ارتماء قادة هذا التيار في عباءة المثال الروسي، بوتين، هذا الوجه المجرد من الشعور بأي شيء، والذي يضع قائمة أسعار أسلحته فوق مأدبة كل إبادة.
لذلك أجد تناقضا في مقاربة آرنيستو لاكلاو حول هذا المفهوم، إذ أنه يخلط بين الشعبوية كتنظيمات "ولاؤها هو شرفها" كما كان ينادي هملر، وبين مفهوم الشعب الذي يعتبره تجريدا يأخذ زخمه الجماهيري من خلال ما يتكون في حالة التنازع السياسي، إذ ينطبق هذا الأمر على الأحزاب السياسية أكثر من تمثيلها لتصورنا عن الشعب. ورغم ادعاء الشعبويين أنهم يمثلون الشعب، كعبارة أردوغان التي استخدمها ضد خصومه السياسيين، بعد اعتبارهم أعداء بالقول: "نحن الشعب، من أنتم"، إلا أن الشعب كمفهوم سياسي مرتكز بالضرورة على فكرتي الحق والعدل، لا يتقاطع مع الشعبويين.
لقد سبقت الأحزاب مفهوم الشعبوية في الظهور، حينما ظهرت هذه الهيكليات بالتزامن في كل من فرنسا وأميركا سنة 1800، كضرورة لتنظيم المشاركة الجماهيرية في الحياة السياسية عبر فكرة التمثيل، ما حصل لاحقا في تطور الدول، واقتصاداتها، وفشل الديمقراطية في لجم جشع النخب الفاسدة في السلطة، وظهور حركات أكثر فسادا بذريعة المطالبة بتعويض الشعب عبر تنظيمات شعبوية. في هذه المجابهة فسدت فكرة التمثيل السياسي، ومعها أيضا مفهوم التنازع السياسي المنتج للسلطة.
أجد المقاربة الأدق لهذا المفهوم في القراءات التي تناولت مجمل الأنساق المؤسسة لما أطلق عليها إدغار موران "بربرية أوروبا". ودعوته إلى عدم التفكير في النازية والفاشية كتمثلات وحيدة لمنتهى الإرهاب المنظم. وكذلك فيما ذهب إليه بورديو في" الرمز والسلطة" حول الكيفية التي حلَّ بها استخدام اسم" الشعب" محل اسم "الله" لإيجاد مسوغات مخادعة، لتكريس المصالح الذاتية. وكذلك في قراءة كاستورياديس في استعادته لجملة سقراط الذي أصبح رئيسا لمدة يوم واحد، وواجه فيه شعبه المهتاج لإعدام بعض الضباط، قائلا "أيها الشعب، أنت على خطأ"، وذلك حينما تكون مطالب الشعب متوافقة مع كراهية العقل. لذلك كانت قوانين صولون (400 ق.م) تعاقب من يستغل عواطف الجماهير من أجل مصلحته الخاصة. وكذلك في قراءة آرندت لتحالف الرعاع والنخب، واستثمار الفشل السياسي والاقتصادي من أجل استمالة الجماهير المستلبة.
يظهر الخطاب الشعبوي في العالم العربي كامتياز انتخابي. لاحظ فقط الخطاب الانتخابي في المنطقة ككل، سيظهر كأنه كاسيت مسجل لهتلر وهو يخاطب الشرطة قائلا: "كل ما أنتم عليه، تكونونه عبري، وكل ما أنا عليه، أكونه من خلالكم".



محمد حلاّق الجرف، باحث سوري:
التأسيس لأيديولوجيا لا أساس لها
لا يمكن الحديث عن الشعبوية بدون تذكّر كتاب "سيكولوجيا الجماهير" للفرنسي غوستاف لوبون، الصادر في العام 1895، فهذا الكتاب كان عبارة عن دراسة نفسية لـ "الجموع" لفهم طبيعتها أولاً، ومن ثمّ توجيهها من خلال الخطابات التي تستثير غرائزها الروحية والحسيّة، ذلك أنّ لوبون أدرك أنّ الأفكار لا تكون فاعلة إلاّ إذا تحولت إلى عواطف، ولا يمكن للقائد أن يحرّك الجمهور إلا عبر عاطفته المتطرفة، وبأنّ النّاس لا يمكنها أن تعيش بدون وهم، أو أمل. وفي لحظات كثيرة فإنّ النّاس لا تفضّل معرفة الحقيقة.
مرّ وقتٌ طويل ما بين كلمات لوبون وظهور وسائل التواصل الاجتماعي (FTY)، لكنّ "التقنية" بقيت نفسها، وبقيت الكلمات التي تمتلك القدرة على التأثير والفعل هي الكلمات التي يصعب تحديد معانيها بشكل دقيق، فالوقوف مع أو ضد مصطلحات كالديمقراطية، والعلمانية، والمواطنة، وحقوق الإنسان يجعلها ذات أثرٍ سحري ويُعطي إحساساً وكأنّها الحل المناسب لكلّ المشاكل، والتأكيد والتكرار يحوّل هذه المقولات إلى حقائق غير قابلة للجدل والشكّ. ويصبح العقل النقدي معطلاً لحركة الجماهير ووعيها!
بالعموم يتمّ النّظر إلى هذا المصطلح من خلال ثلاث زوايا: أولها يرى أنّ الشعبوية هي أسلوب، فيما يتعامل معها آخرون على أنها استراتيجية، فيما يقترح كاتب هذه السطور القول بأنّ الشعبوية هي مجموعة أفكار تشكّل أساساً لأيديولوجيا بلا أساس! مع التناقض الظاهري لهذا التعريف المقترح إلاّ أنّ تفكيكه يبدو سهلاً، فمجموعة الأفكار التي يتعامل بها الشعبويون تبدو هشّة للدرجة التي لا يمكن لها أن تُنتج أيديولوجية ثابتة أو متماسكة. وبالنهاية فإنّ الشعبوية هي شيئان اثنان: اعتبار النخب فاسدة حكماً في مقابل شعب مثالي حكماً (وذلك بغضّ النظر عن كون هذه النخب هي نخب ثقافية أو سياسية، معارضة أو في موقع السّلطة)، وتالياً لا مكان سوى للإرادة الشّعبية. والغريب في هذا السياق أنّ الشعبوية تُفرز نخبها، وأنّ نخب الشعبويين يتهمون خصومهم بالنخبوية، ويتهرّبون هم منها!

يعتبر الكثيرون من متابعي الشأن الغربي أنّ "الشعبوية" عادت للظهور بقوة في أوروبا مع انتخابات مايو/ أيار العام 2014، فقد تميّزت هذه الانتخابات بتراجع الأحزاب الحاكمة الرئيسة وصعود القوى السياسية "الطرفية"، وفي بلدان مثل فرنسا، والمملكة المتحدة، والدانمارك، والنمسا، أدّت هذه الظاهرة أساساً إلى بروز اليمين المتطرّف الشعبوي مثل الجبهة الوطنية FN، وحزب استقلال المملكة المتحدة UKIP، وحزب الشعب الدانماركي DF، وحزب الحرية النمساوي FPÖ، وبما أنّ هذه البقعة المحظوظة من العالم تحظى بمعظم التغطيات الإعلامية فإنّ ذلك أعطى الانطباع بأنّ الشعبوية هي صنو اليمينية.  ولكن بقليل من التأنّي نستطيع أن نرى أنّ ميكانيزمات الشعبوية هي واحدة تقريباً لدى اليمين واليسار. ففي الأساس نستطيع فهم صعود الشعبوية في أوروبا من خلال العلاقة بين الناخبين والمؤسّسات السّياسية إذ يُشكّل عدم الرّضى المؤسّسي لدى ناخبي اليمين واليسار المؤشّر الأساس للتصويت الشعبي، وبحسب الصحف الفرنسية في فترة الانتخابات الماضية فإنّ الناخبين الشعبويين، يساراً ويميناً، أقلّ ثقةً بالأحزاب والمؤسّسات وأجهزة الدولة في مقابل ناخبي أحزاب وسط اليمين واليسار. إذاً لدينا مؤشّر مهم لا يتعلق بأيديولوجية المرشحين.
يعتقد شعبويو اليمين الأوروبي أنّ التصدّي للتهديد الثقافي هو ما يجب أن يحتل الأولوية، لذا فإنّهم يطالبون بفكّ الارتباط مع أوروبا لأنّ البقاء فيها يُشكّل خطراً على الهوية القومية، خصوصاً في ظلّ الحدود المفتوحة، وما يرونه تساهلاً حكومياً في موضوع الهجرة. فيما يعارض شعبويو اليسار استمرار الاتحاد الأوروبي لأنّ سياسات قاطرة أوروبا، ألمانيا وفرنسا، تنتهج طريقاً اقتصادياً نيوليبرالياً سيؤدي في نهاية المطاف إلى ترسيخ حكم الأثرياء، أو ما يُعرف بالبلوتوقراطية Ploutocratie، ويتخذون من وصول ماكرون لسدّة الرئاسة دليلاً. مرة أخرى نرى أنّ الأساسيين مختلفين لكنّ النتيجة واحدة: لا لأوروبا.
الأمثلة الأوروبية طازجة وكثيرة، ولكن في سورية من الأمثلة ما لا يُمكن حصره أيضاً. فعند انفجار الحدث الكبير قبل تسع سنوات، سمح النظام السّوري - في خطوة بدت غريبة- للسوريين باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي (FTY)، وباتت المعلومات والتحليلات، والجرائم أيضاً، تُبنى مباشرةً على بوستات وتغريدات لا تتجاوز السطرين أحياناً. وباتت الشعبوية ثقافة مسيطرة في ظلّ تنامي لغة الكراهية والمظلومية واختفاء الخطابات النقدية. لا يملك السوريون ترف الأوروبيين في مناقشة الوحدة أو الانفصال القوميين، أو دولة العدالة في مقابل توحش النيوليبرالية. ولكنّ نقاشاتهم بين العلمانية والإسلام، بين اليسار والجهاد لا تقلّ شعبوية عن خطابات الأوروبيين، وتستخدم ذات الميكانيزم: كلمات فضفاضة بلا معنى واضح، كلمات تقول كلّ شيء ولا شيء في الآن نفسه، ورفضٌ للنقد والثقافة والنخبة في مقابل شعار "الشعب على حق دائماً".



عمار ديوب، كاتب سوري:
كلام عن الشعب وصمت عن الرأسمالية
هناك استسهال في استخدام المصطلح في وسائل الإعلام، حيث يتم تعميمه ليشمل أحداثاً تاريخية ومن عدّة قرون. أخيرا، وبعد أن كان التوصيف يتكلم عن أنظمة قومية تمثل رأسمالية

متوسطة صاعدة، صارت صفة الشعبوية تشمل بعطفها أنظمة عبد الناصر والقذافي وصدام حسين وحافظ الأسد وسواهم. هذا النمط للمصطلح، يوضّح ضرورته عند مطلقيه، أي هو من أجل إخفاء مفاهيم أخرى، وهي بالتحديد الاشتراكية والرأسمالية، وما تعنيه من رؤى ومشاريع وبرامج وصراعات كلية. تزايد الكلام عن الشعبوية، بعد التسعينيات، عندما انهار الاتحاد السوفييتي، وتعاظمت العولمة وطبقت سياسات الليبرالية الجديدة عالمياً. العالم إذاً يفتقد "شيوعية" ديمقراطية، والرأسمالية لم تعد معنية بالديمقراطية والمكتسبات الاجتماعية، وصارت تتململ من كل آثار الحرب العالمية الثانية والتزاوج غير الشرعي بين الرأسمالية والطبقة العاملة (الخروج عن الرأسمالية كتشكيلة إنتاجية)، وبالتالي لا بد من التراجع عن تلك الحقوق، والعودة إلى علاقة مباشرة بين الرأسمالي والعامل، الليبرالية الجديدة وكل سياساتها تتجه نحو ذلك بالشق الاجتماعي، ونحو تتفيه الديمقراطية بالشق السياسي، ونحو الرأسمال المالي والمضاربات ونهب العالم بالشق الاقتصادي، وضمن ذلك لا بد من العودة إلى الأحاديات، والشعبويات، وسياسات الأعراق والهويات والأديان؛ الشعبوية كما أرى تخدم السياسات الليبرالية الجديدة، ومن الخطأ، إعادتها إلى حوادث قديمة، ويتم هذا لتمييع النقاش، ومنع ضبط المصطلح، والأخير يفيد، وبوضوح شديد وإضافة لما ذكرنا، في ضرورة الاستعانة بمفاهيم جديدة، وذلك لإنقاذ الرأسمالية وليس المالية منها فقط من أزمتها، التي بدأت في 2008، ولم تنته بعد، ولن نتكلم عن الاشتراكية والشيوعية فأزمتهما سابقة، وهي تتهمش تباعاً. الشعبوية ليست بديلاً عن الحداثة والليبرالية والديمقراطية والعقلانية والنخب، وليست بديلاً عن الاشتراكية المتحققة والمفلسة بآن واحد، هي حركات سياسية تتوسل مفاهيم كبرى، لإثارة غرائز الناس وشحذهم، والسيطرة عليهم وضبطهم وتفريغ مطالبهم الحقيقية، سيما أنهم يغرقون أكثر فأكثر بأزمات اجتماعية وسياسية كبرى. الكلام عن التمثيل الحقيقي للشعب، وعن فساد النخب، يقابله صمتهم عن الدولة الرأسمالية بكل منظوماتها، وكافة الشعبويات لا تعارض ذلك بالأصل.

ربما يظل المصطلح قيد التداول، وسيظل ضمن الفكر السياسي. لكن أن يصبح مفهوما سياسياً، وبواسطته نحلل ونقيم حوادث تاريخية، أو يتضمن برنامجاً تتمثل فيه مصالح الشعب، فهذا استخدام خاطئ كما أظن، والأفضل العودة لربط الشعبوية بأزمة الرأسمالية من الناحية الثقافية والسياسية والاقتصادية، ولنقل بعامة، والأمر ليس مرتبطاً فقط بنتائج العولمة الكارثية، وكل فصل بينهما، وتصوير الشعبوية بأنها تمثل الشعب، يعمي العقل عن تفسير الظواهر الثقافية والاجتماعية التي تظهر هنا وهناك.
هناك من يصف بوتين وترامب وأردوغان بالشعبوية، وكذلك رئيس البرازيل وسواه، أليس هذا التوصيف تعمية عما يدور من أزمات اجتماعية واقتصادية عاصفة؟ أليس تعمية عن استخدام أدوات التحليل الماركسية خاصة، ومفاهيم علم الاجتماع والعلوم الإنسانية الحديثة عامة، لفهم ما يجري من أزمات عالمية؟
ما سمح بتلك السيادة للمفهوم، بالإضافة إلى ما تقدم، هو غياب اليسار، وضعف المنظمات المناهضة للعولمة، وفشل الديمقراطيات الحديثة، والثورات العربية، عن الانتماء لمشروع تاريخي جديد، يقدم أفقاً للبشرية خارج إطار الثنائية "رأسمالية اشتراكية".
سيظل المصطلح مستخدماً، طالما يتم تعميم مستمر لسياسات الهوية العرقية والدينية، ولن يتوسع ليشمل التعددية الثقافية، فهو بالأصل ضد النخب والديمقراطية والسياسة عامة. هذه الشعبوية ستسقط حينما تتقدم الأحزاب والقوى والثقافة بمشاريع تاريخية جديدة، وببرامج واضحة، وتمثل مصالح ليس الطبقات فقط، وإنما كذلك الشعوب والعالم.
بناء على كل ما سبق، لا يستحق مصطلح "الشعبوية" أن يصبح مفهوماً.



جمانة دحمان، كاتبة فلسطينية:
فنّ الخطاب الشعبوي
رومانسيّة ثوريّة، دغدغة مشاعر الشعب، دونيّة، فلسفة سياسيّة.. الخ، تتعدد الإجابات في الإجابة على سؤال: ما هي الشعبويّة؟ ويغيب تعريف يوضح دلالة مصطلح " الشعبويّة" الذي يشتق عموما من "الشعب"، فتحيلنا الشعبويّة إلى الشعب أولاً، أو هي وسيلة استخدمها البعض للتحدث باسم الشعب عامةً.
وحين نتحدث عن الشعبويّة، نخصَّ بالذكر الحملة الانتخابية التي فازَ بها رئيس الولايات المتحدة الحالي دونالد ترامب، الذي تعمد في خطبه الانتخابية دغدغة مشاعر الشعب، ومحاكاة الطبقة المتوسِّطة الغالبة، ولم يتكبد عناء التحدث بلغة سياسيّة ومصطلحات قد يصعب على البعض فهمها، أو يسأم البعض الآخر من جملها المعقّدة، وطريقة إلقائها المملّة والمكررة، مثلما يسأم الطلبة، ولا يثير فضولهم، محاضر يلقي عليهم محاضرة يشبه مضمونها مجلداً ضخماً مبهم المصطلحات والتعابير مهما كان محتواها على غاية من الأهمية، لينحازوا إلى محاضر آخر أقل أهمية، لكنه يجيد الطابع الاستعراضي، ولديه طريقة جذّابة في الإلقاء، بمصطلحات شبابية يمازحهم أحيانا خارج الإطار الأكاديمي الجاف. الطالب الذي يتبع مشاعره لا عقله، قد يتغيب عن محاضرة ما بسبب طريقة إلقاء المحاضر الباردة التي تبعثُ على النعاس، ليحضر بشكل دائم محاضرة أخرى مركزا على شكل المحاضرة الجذاب بغض النظر عن مضمونها.
هذا مثال مبسط للشعبوية، التي ينحاز معها الشعب لمشاعره قبل عقله. فترامب روّج نفسه بطريقةٍ مسرحيّة ساخرة، وبلهجةٍ تحاكي لغة الأطفال. خطاب مسل لم يتطرق فيه إلى مشكلات سياسية حقيقية، وبمعطياتها وأسبابها ونتائجها المتوقعة. بل إنه كان يعرج على ذكر المشكلة والإشارة الى حلول متعجلة متفائلة لها، ولم ينسَ أبداً رفع الشعارات التي تهيّج المشاعر الوطنية وأن "أميركا أولاً"، وما يصاحب ذلك من بيع لوطنيات زائفة.
يقول الشاعر المصري الراحل عبد الرحمن الأبنودي في قصيدته (أنا الدرويش): "ملعون أبوها الحمامة أم غصن زيتون/ معمولة لجل الضحايا يصدقوا الجلّاد".
فالشعبوية في عالمنا العربي لا تقتصر على الخطابات، بل تمتد من السياسة، إلى الفن، إلى

الدين، إلى الجامعات، إلى الشوارع. وتنتشر صور أشخاص هم أبعد ما يكونون عن الوطن والوطنية مزينة بعبارات مؤثرة عن حب الوطن. الشعبويون في عالمنا العربي أشخاص يعرفون جيداً كيف يستهدفون مشاعر الشعب عن طريق الخطب الدينية، أو الألبومات الغنائيّة التي تتغزل بالبطل المغوار حاكم الشعب بل إلههم. التعليم الشعبوي يربي جيلاً كاملاً على شعارات وتاريخ من انتصارات كاذبة. إن أسوأ ما قد يقدمه الشعبويون للجيل الجديد خاصةً هو تلقينهم مقولات مزيّفة جاهزة، ويدربونهم على قول جمل بتقنية (نسخ، لصق) دون فهم المعنى أو الهدف المراد.جاء في تقرير "Human Rights Watch" المعنون بـ "التزايد الخطير في النزعة الشعبويّة"، أن الديماغوجيين يتاجرون في الكلام، ويحشدون الدعم بالتلاعب بالتفسيرات الخاطئة، والحلول الكاذبة، لمشكلات حقيقية، وأنه يتوجب على وسائل الإعلام المساعدة في تسليط الضوء على هذه الميولات الخطيرة، وحثت الحكومات على إعلان التزامها باستمرارية الدفاع عن حقوق الإنسان، وشددت على أهمية دور منظمات المجتمع المدني، وضرورة بناء تحالفات بين مختلف الفئات تؤكد على المصلحة المشتركة في الدفاع عن حقوق الإنسان. أخيراً دعا التقرير لأن يتحمل الشعب المسؤولية، فالحد من انتشار الشعبوية والشعبويين هو مسؤوليتنا جميعاً.




جلنار برهاني، إعلامية سورية:
مهارات شعبوية
تؤثر الشعبوية على عقول ومشاعر عامة الشعب، فيحاول الخطاب الشعبوي استغلال ظروف اجتماعية قلقة أو أوضاع اقتصادية سيئة، ليصدح عبر المنابر باسم الشعب مدعياً أنه المخلص، واعدا بحياة رغيدة، ورفاه اجتماعي، ومساواة بين جميع طبقات المجتمع. وصاحب الخطاب الشعبوي يدعي البساطة والتواضع، وربما أنه ترعرع سابقاً في حواري شعبية يعرف معاناة أصحابها، بعدما خبرها بنفسه، يعتمد على عنصر المفاجأة، فنراه يوماً مع الفقراء في منازلهم، ويوماً في الملاعب، وأماكن العبادة، والحدائق العامة...
تختلف أسباب صعود الحركات الشعبوية بين بلد وآخر بحسب اختلاف وتباين الثقافات والديانات والظروف الاجتماعية والاقتصادية. وفي بلدان العالم الثالث فإن وضع الشعب الاقتصادي المتدني بالإضافة إلى الموروث الثقافي والديني يتحمل مسؤولية عن صعود الشعبوية، والشعبوية التي مثلتها الثورة الإسلامية في إيران انتصرت انتصاراً ساحقاً حين استغلت الموروث الديني، والحالة الاقتصادية المتدنية لعامة الشعب الإيراني، والفروقات الاجتماعية الكبيرة بالإضافة إلى التباين الطبقي والثقافي بين فئات الشعب. الصحوة الدينية والوقوف في وجه الظلم والفساد كانا من أهم المبادئ المرسومة في الخطاب الشعبوي.
يقود الفقر إلى تدني الثقافة مما يؤدي الى مجتمع سهل القيادة والتأثر بالكلام المعسول والوعود الوردية، ومن هنا نفهم حساسية أصحاب الخطابات الشعبوية من وسائل نشر الوعي سواء كانت صحفا، أو وسائل إعلام، أو كتبا.. كم مرة سمعنا عن كتب منع نشرها وبيعها في أحد البلاد العربية؟ يقضي صاحب الخطاب الشعبوي على أعدائه من خلال تخوينهم، واتهامهم بالتبعية والعمالة لدول أخرى، ويصل حتى إلى استباحة دمهم، ولا يكتفي باقتلاعهم فكريا بل حتى تصفيتهم جسديا. ويبرع صاحب الخطاب الشعبوي في ترهيب الشعب وتهويله من أخطار داخلية وخارجية، وأحياناً يختلق الخطر ليضع الناس في حالة رعب وخوف من المجهول، ليظهر عند زواله بطلا حقيقيا استطاع حل المشكلة من خلال ذكائه وبراعته في اجتياز المحن التي حلّت في الدولة.
غالباً ما ينجح أصحاب الفكر الشعبوي باحتكار الإعلام المرئي والمسموع، أو استمالته،

ومحاربة منصات الإعلام المضاد أو المعارض، حيث أن للإعلام دورا رئيسا في حشد الشعب وترويضه، وزرع أفكار أيديولوجية معينة في عقول أفراد المجتمع، بالإضافة إلى التركيز على محاربة الفكر المعارض وتخوينه ومحاولة إثبات انتمائه إلى أجندات أجنبية.رغم صعود تيارات شعبوية في بعض الدول الأوروبية إلا أنها لا تصمد دائما في الجولات الانتخابية اللاحقة لوجود وعي بالنتائج السلبية التي نتجت عن صعودها (هزيمة اليمين الشعبوي في الدانمارك عام 2019)، في حين أنه لا يزال من الصعب هزيمة الشعبوية في دول العالم الثالث، لانعدام المعارضة ودورها، نتيجة محاربتها بشتى الطرق من قبل الشعبويين. الشعبوية أحد أشكال التطرف السياسي، وداء خطير كان ولا يزال يهدد المجتمعات في كل مكان، وشكّل عائقا أمام تقدمها.