Print
حسام أبو حامد

الشعبوية: "نحن الشعب، فمن أنتم؟".. من المصطلح إلى المفهوم(3)

25 سبتمبر 2019
هنا/الآن

نتابع في "ضفة ثالثة" ملفا بدأناه حول الشعبوية سياسيا وثقافيا، استطلعنا فيه آراء عدد من الباحثين والكتاب المهتمين بالظاهرة في تجلياتها المتنوعة، وما يتصل بها نظريا وعمليا، بهدف مزيد من التأمل الفكري يكون مفيدا على طريق التأسيس لجهد بحثي قادر على الانتقال بالشعبوية من مستوى المصطلح إلى مستوى المفهوم، حتى يتيح القبض المفهومي على الظاهرة إمكان القدرة على التعامل معها وتوجيهها. وهي دعوة ستبقى مفتوحة لكل من يرغب في إثراء هذا النقاش.
في هذا الجزء الثالث تتمحور آراء المشاركين حول الظاهرة الشعبوية المتأرجحة بين الخطاب القومي والوطني، وبين الخطاب الديني والطائفي، وذلك في سياق بحثهم في نماذج متعددة تتمظهر فيها الشعبوية سياسيا أو دينيا أو قوميا أو في تقاطعاتها مجتمعة.
*****



عمر كوش، كاتب سوري: 
البوتينية بوصفها المثال الأسوأ للشعبوية
لن يكون رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، آخر زعيم أوروبي يلحق بقطار الشعبوية، الذي يجتاح عالم السياسة في أيامنا، إذ تجلب هذه النزعة، بحلتها الجديدة، المزيد من الشخصيات السياسية إلى سدّة الحكم في دول عديدة، سواء من الشرق أم الغرب.
ولعل أسوأ نسخة من الشخصيات الشعبوية الحاكمة في عالم اليوم هي الشعبوية البوتينية، ممثلة في الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يحكم روسيا الاتحادية منذ العام 2000 وإلى يومنا هذا، حيث تنهض شعبويته على مقولة بناء روسيا العظمى، وجعلها عظيمة، وتعويض الشعب الروسي عما لحق به من ألم وغبن، خلال تاريخه المظلم، المليء بالأزمات الكبرى، والكوارث العامة والوطنية، جراء أنظمة حكم سابقة على حكم النظام البوتيني، ومؤامرات القوى الأجنبية، التي أهانت الشعب الروسي ودولته، طوال سنين عديدة ومريرة.

وقد وصل فلاديمير بوتين إلى حكم روسيا، بوصفه زعيماً منقذاً من حالات الانهيار والخراب، الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، التي عرفتها روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وخصوصاً خلال فترة حكم الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين، حيث وصلت روسيا في عهده إلى حافة الانهيار والإفلاس، نظراً للأزمات الاقتصادية والمالية التي عصفت بها خلال فترة التسعينيات من القرن العشرين المنصرم، وأدت إلى تخريب الاقتصاد الروسي، وإلى فقدان روسيا لدورها الدولي ومكانتها العالمية، لتصبح مجرد دولة ضعيفة تنتظر دعم الدول الغربية.
غير أن بوتين سعى للقبض على الحكم، والبقاء فيه إلى ما لا نهاية، الأمر الذي جعله يدخل في لعبة تبادل الأدوار على كرسي الرئاسة الروسية مع رئيس الوزراء الحالي ديمتري ميدفيديف، حتى بات بإمكانه البقاء في قمة السلطة حتى عام 2024، على الأقل. ولعل مبرره في ذلك يستند إلى براثن شعبويته الممزوجة ببراثن شوفينية قومية روسية، بعد أن ركبه الهوس الشوفيني، وبلغ حداً جعله مهووساً بأصحاب راكبي الدراجات النارية، أو ما يعرفون بنادي ثعالب الليل، المعروفين بأشكالهم المميزة والمخيفة، تجسيداً لنزعته الشعبوية الشوفينية المتغطرسة، وذلك بعد أن استبدت ببوتين نزعتا القوة والعظمة، وادعاء إعادة بناء مجد روسيا الجديد، المشدود إلى قيصرية غابرة، والقائمة على استدعاء الماضي وأمجاده المندثرة، خاصة بعد أن سادت مشاعر الاحباط لدى غالبية الروس إثر السقوط المدوي للنموذج السوفييتي، وسيادة مظاهر انتصار وغطرسة النموذج الغربي.
ولجأ بوتين إلى دغدغة مشاعر الروس بادعاء إعادة بعث القومية الروسية وأمجادها، ورفع شعارات تؤكد ذلك المسعى، وخاصة شعار "روسيا فوق الجميع"، الذي استدعى تحقيقه العودة إلى أساليب وممارسات النموذج السوفييتي في القمع والإكراه والقوة، من خلال اجتراح مفهوم غامض هو "الديمقراطية السيادية".

وبدلاً من أن يقف هذا المفهوم الغائم حائلاً أمام تدخل القوى الأجنبية في الأمور السيادية لروسيا، تحول إلى حائل أمام الروس أنفسهم، وحقهم في التعبير عن الرأي، والعيش بحرية، وممارسة الديمقراطية التي حلموا بها، فراح النظام البوتيني يشدد من قبضته الأمنية على كافة مفاصل المجتمع، ويحدّ من الحريات العامة، وتدجين الفضاء العام، ومسخ حراك المجتمع، وقولبة الثقافة والسياسة على مقاسه، مقابل تمتع أركان النظام وأزلامه بمختلف الامتيازات من خلال الفساد المستشري والإفساد العام، لذلك لم يتردد النظام البوتيني في بداية 2015 من اغتيال المعارض بوريس نيمتسوف في وضح النهار وبالقرب من الكرملين، عقاباً على قيادته موجة الاحتجاجات غير المسبوقة، التي شهدتها الحملة الانتخابية لفلاديمير بوتين في 2011-2012 عندما كان مرشحا لولاية رئاسية ثالثة.
وتدعي الشعبوية البوتينية الحكم باسم الشعب الروسي، بعد أن تصوره ميتافيزيقاها بوصفه كياناً كلياً متجانساً ومقدساً، واحداً موحداً، ومعصوماً من الخطأ. وعليه لا بد أن تحكم البوتينية روسيا، بوصفها حكم المقدس، المستند إلى دعم كنيسة أرثوذكسية ممالئة له، الأمر الذي وظف كي يبرر احتكار بوتين حق التكلم باسم الشعب، ولا مانع من أن تردد حاشية النظام السياسية ما ينطق به الزعيم الأوحد للشعب، وأن تزايد على الجميع في امتلاك النظام البوتيني ناصية القول والأمر، بما يعني إنكار حق الآخرين في القول، وسلبهم حق الاختلاف في القول والرأي، لذلك ليس مستغرباً أن تعادي الشعبوية البوتينية الأحزاب والنخب السياسية الأخرى، وتهزأ بالمفكرين وأصحاب الرأي الآخر، وتسلب المؤسسات الديمقراطية حقها في الوجود والنشاط، وتعمل على احتكار فسحات تبادل الرأي، وتضيّق الفضاء العام.
بالمقابل، لا تطرح البوتينية وأجهزتها أي برامج واضحة الملامح، بل تقوم بالتلاعب بعقول الجماهير، واستجداء وإثارة عواطفهم القومية، عبر إثارة الرهبة والمخاوف وبناء المزيف من الآمال، والترويج الدعائي لأطروحات وأفكار للأزمات والإشكاليات المعقدة، من خلال طرح حلول بسيطة لمختلف القضايا الداخلية والخارجية، حيث تستند إلى مقولة الانقسام، التي تنهض على بدهية وجود انقسام وصراع بين الشعب وأعدائه في الداخل والخارج، وتضخم وجود مؤامرات داخلية وخارجية، تستهدف سلامة وأمن روسيا وشعبها، مع مراهنتها الدائمة على حتمية انتصار الشعب الروسي، التي تستدعي وحدة الشعب وتماسكه حول قيادته البوتينية، بما يتطلب عدم السماح بوجود تنافس أو معارضة داخلية للزعيم الأوحد، المُلهَم، والقادر على إنقاذ روسيا ومحاربة الأعداء ودحر مؤامراتهم.


عبد الناصر حسو، باحث سوري:
أردوغان الشعبوي جداً
الشعبوية مفهوم سياسي واسع، مراوغ، ومضلل، رغم استعماله على نطاق واسع في توصيف الحركات الدينية والقومية واليسارية. وفي قاعدة البيانات العالمية تُصنف خطابات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأنها الأكثر شعبوية، ووصفته صحيفة الغارديان بـ"الشعبوي جداً"، لافتة إلى تبنيه خطابات ذات صبغة قومية إسلاموية تعمل على شيطنة الخصوم السياسيين داخل البلاد بهدف تسويق نفسه كقائد إسلامي، وسلطان عثماني مفترض، باستطاعته التصدي للدول الكبرى واستنهاض تاريخ المعارك، مؤكداً أن "العالم أكبر من خمسة" منتقداً هيكلية مجلس الأمن الدولي.
تمسكَن أردوغان بلبوس الليبرالية حتى تمكن من إدارة معركة سياسية ممتهناً خطاباً شعبوياً مع معارضيه في الداخل والخارج، ولم تشفع في الوقت ذاته توسلاته المتكررة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وكان تحالفه مع حزب الحركة القومية التركية انعطافاً تاريخياً للتوجه نحو روسيا الأوراسية، وعدم قطع الخيط الرفيع مع أميركا.
يعتمد أردوغان على لغة تستنهض المشاعر الدينية لدى بسطاء الناس من المسلمين في جميع البلدان الإسلامية وخاصة أكراد شرق تركيا، الذين يرجّحون كفة الميزان لصالحه في الانتخابات. لقد تبنى خطاباً شعبوياً قومياً تجاه الأكراد عامة، فهو لم يصعّد لهجته تجاه أوروبا وأميركا فحسب، بل أيضاً تجاه الأكراد والحزب الديمقراطي الكردي، لاستثمار العنصر القومي والديني في سياساته الداخلية والخارجية، والهجوم على عفرين واحتلاله ضماناً لأمن تركيا، من خلال خطاباته المتناقضة، وهو يرفع القرآن في كل مناسبة مثيراً عواطف مستمعيه بخطابات حماسية وأغان وطنية وتعابير محبوكة، مستخدماً خطابات مغرقة في الشعبوية، ضمن ثنائيات: نحن/هم، أنا /أنت، الأتراك الجيدون/الأتراك السيئون، والتوظيف البنيوي للمقدس الديني، الذي يشكل في جوهر الأصولية الدينية رافداً أساسياً للشعبوية السياسية، مؤمناً بأنه يمثل إرادة الناس الحقيقية، وأن الله إلى جانبه في معركته ضد المؤامرات المحبوكة، كونه يدافع عن الإسلام والأتراك الجيدين، مؤكداً أن "لا صديق للتركي إلا التركي".

ينوس أردوغان في خطابه السياسي بين الشعبوية وبين القومية الإسلامية، ويستخدم مهارة كلامية في خطاباته الدينية التعبوية موظفاً المقدس الديني لدى البسطاء في تغييب العقل محرضاً على الكراهية في سبيل الظهور كبطل معلناً جملته: "نحن الشعب.. من أنتم؟"، مسقطاً عن خصومه السياسيين صفة الانتماء إلى الوطن والدين، وانطلاقاً من قول الفيلسوف الفرنسي بيير تاغييف: الشعبوي يبدأ بتضليل نفسه قبل الآخر، فأردوغان يعاني من أزمة فكرية قبل أن تكون أزمة سياسية، بدأت أزمته الفكرية منذ أن أطلق شعارات تحريضية: "المساجد ثكناتنا، والقباب خوذاتنا، والمآذن حرابنا، والمؤمنون جنودنا"، مبشراً بفاشية دينية لا تقل عن فاشية الحركات الراديكالية، كداعش والنصرة.
يستغل أردوغان في جميع خطاباته الهجوم على خصومه الافتراضيين، يكلّف تصريحه الشعبوي تركيا الدخول في توترات مجانية مع دول أخرى، مثلاً، ينسحب من مؤتمر دافوس بعد مشادة كلامية مع شمعون بيريز حول الحرب على غزة، موظفاً موقفه وهجومه لمصالحه السياسية، ومهدداً العالم: "إن فقدنا القدس، فلن نتمكن من حماية مكة والمدينة، وإذا سقطت مكة فسنخسر الكعبة". ينعت إسرائيل بدولة الإرهاب دون التخلي عن علاقاته معها، يغالط نفسه للتأثير على المستمع باستخدام المقدس الديني من أحداث متخيلة، مفترضة، بهدف تحسين موقفه السياسي. يمنح لنفسه حق الوصاية الدينية على المقدسات الإسلامية. ينضمّ إلى تحالف محاربة الإرهاب ويسهل مرور داعش إلى سورية والعراق.
 يبدو أن الخطاب الشعبوي التركي بدا أكثر تشدداً بعد انقلاب 2016، للتركيز على قضايا الهوية الدينية مستفيداً من مشاعر الغضب والاحتقانات والإحباطات التي تعيشها الشعوب العربية الإسلامية في ظل أزمات الداخل وتدخلات الخارج، وبسبب الانشقاقات الإثنية والعرقية، والتي تؤدي الخطابات الشعبوية إلى تفاقمها. 




بيار عقيقي، كاتب وصحافي لبناني:
الشعبوية اللبنانية والخلطة الطوائفية

لكل بيئة أو بلد في العالم تفاعله الخاص مع الشعبوية، مستولداً انسجامه الخاص معها، مما يسمح بتكوين تطرّف محدّد وموجّه. في لبنان مثلاً، يمكن صناعة الشعبوية من عاملين أساسيين: الطائفية والوطنية (وفقاً لبوصلة كل طائفة). ومع أن الأولى هي الأكثر تحفيزاً ورفداً للأفكار الشعبوية في البلاد، إلا أن الثانية تبقى مهمة، خصوصاً في سياق استخدامها من قبل السياسيين والأحزاب في الحملات الانتخابية، لوعد الناخبين بما لا يستطيعون بالأساس تقديمه. في الشعبوية الطائفية يكمن المسار اللبناني في مرحلة ما بعد الاستقلال (1943) في التحرّك وفقاً للسلوك الطوائفي، لسبب عدم قدرة النظام اللبناني عموماً على تكريس مبدأ الانسجام بين اللبنانيين، كونه مصنوعاً بالأساس لتفعيل العصب الطائفي لا الوطني.
بالتالي، كان لكل مرحلة شعبويتها الخاصة، التي تفيد مُحرّكها وخصمه على حدّ سواء. في لبنان ثمّة مبدأ يُترجم بقوة "عدوّي هو حليفي"، ما يعني أن الأحزاب والسياسيين يهاجمون بعضهم البعض في سياق شدّ العصب الطائفي، ومنع انزلاق الساحة من أيديهم لصالح طرف ثالث. ويستخدمون في ذلك كل أنواع الخطابات الشعبوية. فأيام معارك حزب الله وحركة أمل إبان الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، كان لرئيس حركة أمل، رئيس المجلس النيابي الحالي، نبيه بري، خطاب شعبوي اعتبر فيه حزب الله بمثابة احتلال مشابه للاحتلال الإسرائيلي قائلاً "لا فرق بين احتلال واحتلال" في منتصف الثمانينيات. اليوم، بري والحزب كالوجهين لعملة واحدة، أقله في العلن. أيضاً في الحرب، كان لرئيس الجمهورية الحالي، قائد الجيش في حينه، ميشال عون، خطاب يعلن فيه حرب تحرير ضد القوات السورية عام 1989، قائلاً "بدّي كسّر راسو لحافظ الأسد" (أي أريد تحطيم رأس الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد). اليوم عون حليف وثيق للنظام السوري. بدوره كانت لرئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، وليد جنبلاط، خطابات شعبوية عدة، إلا أن أبرزها حصل حين تمّ تهجير المسيحيين من الجبل عام 1983، وقتها قال جنبلاط في خطاب أمام أنصاره في قصر الأمير أمين في بيت الدين الشوفية: "ها قد عدنا يا مير أمين"، وهي عبارة تعني السيطرة على القصر، الذي شيّده الأمير بشير الشهابي لابنه أمين، وتحوّلت ملكيته من المطرانية المارونية إلى الدولة اللبنانية ثم قوات جنبلاط. جنبلاط نفسه كان له خطاب في مرحلة ما بعد الحرب، تحديداً في عام 2007، حين توجّه لرئيس النظام السوري بشار الأسد قائلاً: "يا طاغية دمشق، يا قرداً لم تعرفه الطبيعة، يا أفعى هربت منه الأفاعي، يا حوتاً لفظته البحار، يا وحشا من وحوش البراري، يا مخلوقاً من أنصاف الرجال، يا منتجاً إسرائيلياً على أشلاء الجنوب وأهل الجنوب، يا كاذباً وحجاجاً في العراق ومجرماً وسفاحاً في سورية ولبنان". سابقاً، كان جنبلاط مستنداً على السوريين في حروبه الداخلية. بدوره، الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، توجّه طويلاً في خطابات مهاجمة للإسرائيليين، إلا أنه في لحظة ما قرر التوجه إليها بنفسٍ طائفي في عام 2013 قائلاً "قولوا رافضة، قولوا مجرمين، قولوا ما تريدون واقتلونا حيث شئتم، فنحن شيعة علي بن أبي طالب لن نترك فلسطين".

وإذا كانت لكل تلك المراحل السابقة شعبوية "خاصة بها"، فإن الشعبوية هذه الأيام تطاول اللاجئين السوريين. الجميع تقريباً يريد استغلال مأساتهم. لذلك تمّ التعامل بشعبوية مطلقة في مسألة لجوئهم إلى لبنان. بالنسبة إلى تيار المستقبل، بقيادة سعد الحريري، فإن "هؤلاء فقراء ويحتاجون للحماية"، وهو ما يعني باللغة اللبنانية الصرف: خزان سني في مواجهة النفوذ الشيعي. بالنسبة إلى التيار الوطني الحرّ بقيادة جبران باسيل، فإن "هؤلاء قنبلة موقوتة يهددون الديمغرافيا المسيحية ويجب إبعادهم من هنا بأي ثمن".
ومع أن الأفكار المحفّزة للشعبوية تتفاوت في كل حقبة في لبنان، إلا أن العامل الأبرز هو تعلّقها في الذاكرة الجماعية للطائفة، إذ يمكن أن تسمع أغاني لمليشيات اندثرت، وخطابات لأمراء حربٍ ذهبت بلا رجعة، كل يوم، في الأوساط الجامعية والمدرسية والضواحي. ويمكن تفسير ذلك بصناعة "الحنين" إلى ماضٍ كان فيه هؤلاء "أقوياء" في طوائفهم أو خارجها، كما يمكن تفسيره في الحاجة إلى بطلٍ ينبثق من شعبوية ما. يعني ذلك أن لبنان الغارق في طوائفه وأفكارها المحدودة، غير قادر على استيلاد من يكسر حلقة الشعبوية المتناسخة، ويُنهي حالة احتجاز العقل في السياسة والثقافة المجتمعية.



إياد الدليمي، كاتب وصحافي عراقي: 
مقتدى الصدر.. شعبوية سياسية لمرجعية تكتمل
يمثل الزعيم الديني العراقي مقتدى الصدر الشعبوية السياسية بأصدق صورها، فالرجل الذي جاء من بعيد ولم يكن معروفاً حتى في أوساط المتدينين الشيعة قبل احتلال العراق، تمكن، مستفيداً من إرث عائلته، والده تحديداً، من أن يكون رجل الإنسان العراقي الفقير، وبطله وملهمه وشجاعه الأول، بل تحول في كثير من الأحيان الى السلطة الشعبية الوحيدة التي يمكن لها أن تقول "لا"؛ وتقف بوجه السلطة التنفيذية وحتى السلطة الاحتلالية للعراق عقب 2003.
ينحدر الصدر من عائلة دينية زاوجت بين العمل الديني والسياسي، فجده محمد حسن الصدر كان رئيساً للوزراء في العراق ابان العهد الملكي عام 1948، وعضو في مجلس الأعيان بعد ذلك، أما والده فهو المرجع الديني الشيعي المعروف محمد صادق الصدر.
هذا التاريخ العائلي الطويل والعريق كان أحد الأسباب التي أهلت مقتدى الصدر لتشكيل تيار كبير في العراق عُرف لاحقاً بالتيار الصدري، فعلى الرغم من تاريخ العائلة إلا أن الابن، مقتدى، لم يكن معروفاً خارج دوائرها ودوائر مقربيها، غير أن الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، منحه فرصة للبروز والظهور.
ما ميز الصدر عن غيره من الشخصيات الدينية في عراق ما بعد 2003، أنه سعى ليكون له خط مغاير، فهو أولاً لم يشترك بنفسه في العملية السياسية، وبقي وتياره الشعبي بعيداً عنها برهة من الزمن. وثانيا، سعى الصدر لاتخاذ مواقف متمايزة عن بقية الشخصيات والقوى الشيعية عقب الاحتلال، فقد أعلن بشكل واضح وصريح رفضه للاحتلال الأميركي، وأعلن عن مواقفه المؤيدة للمقاومة العراقية، وقدم الدعم للمقاومة المسلحة في مدينة الفلوجة عام 2004، رغم أنها مقاومة تختلف معه مذهبياً، بل الأكثر من ذلك أن فصيله المسلح اشتبك مع القوات الأميركية في النجف في ذلك العام.

كل ذلك أسهم في صنع نموذج الصدر، القائد الديني والسياسي الذي يمتلك القدرة على تحريك شارع كبير يمتد على مساحة واسعة من رقعة العراق الجغرافية. ويمتلك اليوم تياراً شعبياً واسعاً، على الرغم من أن له كتلة برلمانية واسعة شاركت في الانتخابات الأخيرة عام 2018، وعلى الرغم من أن بعض الوزارات تدار من قبل أعضاء في التيار الصدري، ومع ذلك بقي تيار الصدر هو تيار الشارع، التيار الذي يضغط به مقتدى الصدر كلما سعى لهدف معين، ولنا في تظاهرات تياره العديدة والواسعة في بغداد والمحافظات أمثلة عديدة لا مجال لذكرها هنا.
التيار الصدري بقيادة مقتدى يعد مثالا على الشعبوية التي صعدت عقب الغزو الأميركي للعراق عام 2003، المشكلة أن هذا التيار حجب صعود نماذج شعبوية أخرى، بل وصادر حتى حق العراقيين في توليد تيار آخر بعيداً عن عباءة الدين، فحتى التيار المدني الذي اشتد عوده في الفترة الثانية من حكم رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي (2010 -2014) سعى التيار الصدري إلى احتوائه وقام بالتحالف معه في انتخابات 2018، وعبر به إلى البرلمان ليذوب التيار المدني ولم يبق له من أثر في ظل هيمنة التيار الصدري.
وعلى الرغم من وجود تيارات سياسية أخرى في العراق إلا أن الشعبوية الصدرية ظلت مهيمنة مستفيدة من تاريخ الصدر وعائلته وأيضاً من النموذج الفقير الذي يقدمه الصدر في يومياته، فهو يسير في بعض الأحيان إلى مسجد الكوفة حيث يلقي خطبه هناك، وفي أحيان أخرى يركب سيارة عادية وحتى تاكسي، ناهيك عن مظاهر الزهد الأخرى التي يبدو عليها، ويضاف إلى كل هذا وذاك موقفه المناهض لحكومةٍ رغم مشاركة تياره السياسي فيها.
لقد ظل تيار الصدر، ورغم امتداده الشعبي الواسع في محافظات الوسط والجنوب، تياراً يفتقر لأي رؤية سياسية أو أيديولوجية تنظمه وتنظم عمله السياسي، وبقي معتمداً على ردات الفعل المتناثرة من وقت لآخر لزعيمه مقتدى الصدر، كما فشل هذا التيار في أن يشكل ظاهرة سياسية قادرة على أن تفرز طبقة تنفيذية يمكن أن تقود العراق بطريقة أفضل، بل إن هذا التيار أفرز في بعض مراحله شخصيات متنفذة اتهمت بالفساد وأخرى اتهمت بعمليات قتل وتطهير طائفي سعى الصدر للتخلص منها.
إن تمدد ظاهرة الصدر بين الفقراء والمعدمين ومعهم أنصاف المثقفين، ربما، لم تسمح لهذا التيار أن يعيد قراءة نفسه بنضج أكبر والخروج برؤية أيديولوجية واضحة قادرة على أن تصنع الفارق في ميدان السياسة بالعراق، هذا ناهيك طبعا عن أن زعيمه، مقتدى الصدر، ما زال يتدرج في مسيرته العلمية والدينية ولم يصل بعد لمرحلة المرجع التي تسمح له بوضع لبنة تيار ديني له أتباع ومقلدون في العراق أو خارجه.



عزيز المصري، باحث فلسطيني:
حماس في شعبويتها المتدينة
من يقرأ ويتابع خطابات الحركات الإسلامية يعرف الأسباب التي صنعت لها تلك الشعبية والنفوذ بين الجماهير، وساعدتها في أن تكون الأقوى من بين سواها من الحركات والأحزاب القومية واليسارية والوطنية والليبرالية. فالخطاب الإسلامي يحتوي كافة الإمكانيات والمرتكزات التي تساعده في توظيف صناعة السلطة الاجتماعية للحزب والجماعة، خطاب ذو تأثير روحاني عال، قوي المفعول، وله ركائز أيديولوجية تحقق له مراده.

ينتمي الخطاب السياسي الإسلامي في القواعد والمقدمات، بل في نظام المفاهيم، إلى الخطاب الأيديولوجي والسياسي العربي المعاصر، وهو ينهل معطياته من ذات الثقافة السياسية التي نهلت منها سابقاته: فهو خطاب دعوي، تبشيري، تحريضي، يتجه إلى التعبئة والتجييش والتحشيد مثل سواه مما يشترك معه في ذات الأسس. وهو خطاب يميل إلى أن ينجز تواصلاً سهلاً مع جمهوره يحقق له الظهور والقوة والنفاذ، فهو ليس أكثر من نموذج من نماذج الأيديولوجيا الشعبوية، الأيديولوجيا الأوفر حظاً في مجال تنمية جمهور السياسة. ومع ذلك، فإن القوة الشعبوية في خطاب الإسلاميين تستمد أسبابها من مصادر أخرى مانعة، لا تشترك في الاعتياش منها مع الخطاب الإسلامي سائر الخطابات السياسية الأخرى.
من مرتكزات هذا الخطاب الشعبوي للحركات الإسلامية التي تتوافر في نموذج حركة حماس:

  • توظيف الدين، والعقيدة، والإسلام، واللعب على المشاعر الروحية للجمهور، لتسويق النفس مدافعا عن الإسلام وشرف الأمّة والعقيدة، والسعي لأسلمة المجتمع من بوابة العادات والتقاليد، وإتقان فن الوصول إلى نقاط الضعف الحساسة لدى الجمهور، وكيفية توظيفها بحرفية عالية، تضمن التحشيد والاستقطاب الجماهيري. وليس من فراغ أن قال ماركس جملته المشهورة "الدين أفيون الشعوب"، إذ له مفعول السحر في التعبئة والحشد والاستقطاب. ويمتاز الخطاب الإسلامي بأنه خال من المنافسة، يلعب وحيدا في خانة توظيف الدين في مواجهة التيارات العلمانية واليسارية الليبرالية.
  • المعارضة وفساد السلطة الحاكمة: وهذه توفر للحركات الإسلامية، ولحركة حماس نموذجا، أوراق قوة للعب على الوتر الشعبوي في الشارع، وتسويق فساد السلطة وتعريته في محاولة لوضع نفسها بديلا محتملا قادرا على معالجة فساد السلطة وأدواتها. فعندما تقوم السلطة الفلسطينية باعتقال كوادر من حماس، تبدأ الدعاية الحمساوية في تصوير الأمر وكأنه للقضاء على المقاومة، وتبدأ بسرد سيرة المعتقل، وأنه ابن شهيد، أو أن أخاه شهيد، وتعتمد حماس هنا على مكانة الشهيد لدى الجماهير، وكيف تقوم السلطة باعتقال شقيق شهيد؟!
  • المقاومة: من خلال المقاومة استطاعت حركة حماس الحصول على شرعية وأفضلية في الساحة الفلسطينية، والعربية أيضا، باستغلال شعارات شعبوية معتمدة على السلوك السياسي للسلطة الفلسطينية، القائم على المفاوضات والتسوية السياسية السلمية، واعتمدت على خطاب تخويني تكفيري، بالشقين السياسي والديني، لتشويه صورة السلطة، مثل اتهامات قمع السلطة للمقاومة، وأن الاعتقالات ضد كوادر حركة حماس هي لمحاربة الحركة الإسلامية والإسلام، بل وصل أمر استغلالها للخطاب الشعبوي للسيطرة على قطاع غزة، إلى إصدار فتاوى تحلل دم عناصر الأجهزة الأمنية، وحركة فتح، كما وصف القيادي الراحل في حركة حماس، نزار ريان، ما يجري في غزة، بأنه محاربة للزنادقة العلمانيين. هذا الخطاب في فترة من الفترات لعب لصالح حركة حماس في تكريس وجودها في الحكم في قطاع غزة.


ياسر غريب، باحث وشاعر مصري:
"الإسلام هو الحل".. الشعار السحري
أصبحت عبارة "الإسلام هو الحل" منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي أبرز الشعارات السياسية الضاغطة على الشارع المصري والمؤثرة في قراره الانتخابي، فقد استطاعت من خلاله جماعة "الإخوان المسلمين" -المحظورة آنذاك- أن تسيطر على المساحة السياسية المسموح بها للمعارضة بالرغم من عدم امتلاكها حزباً سياسياً.
كانت شعارات الجماعة هي الأقرب إلى نفوس الجماهير من لافتات الأحزاب الأخرى، ساعدها في ذلك تجريف الحياة الحزبية في العهد الناصري ثم خفوت وهج القومية العربية بعد هزيمة يونيو/حزيران 1967.

صفوف الجماهير التي يحق لها الانتخاب لا طاقة لها بمعاني الليبرالية، الاشتراكية، القومية...إلخ، تلك الألفاظ النخبوية غير المُجرَّبة التي تُزيِّنُ بها الأحزاب الكرتونية المستحدثة لافتتها، وهي بالطبع ألفاظٌ تحملُ دلالات سلبية بفضل الخطاب الديني المسيطر آنذاك! في المقابل ستكون الجموع الغفيرة أكثر تفاعلاً مع التيار الذي ملأ الجدران بشعار "الله غايتنا، والرسول زعيمنا، والقرآن دستورنا". وهي عبارات لها قداستها في قلب المتلقي المهمّش، حتى لو لم تكن تحوي بداخلها برنامجاً سياسياً واضح المعالم والأهداف. أضف إلى تلك الشعارات ذلك الخطاب الأممي الحماسي العابر للحدود الوطنية، الذي يداعب القلوب بالحديث عن القضية الفلسطينية وواجب تحرير المسجد الأقصى.
بالشعارات سيتم تحفيز الجماهير وتوجيهها نحو الاختيار، وسيكون لأسبقية شعار "نعم للأيادي المتوضئة" فِعْلَ السحر في الترجيح بين المرشحين البرلمانيين، في إشارة إلى نزاهة مرشحي التيار الإسلامي الذين يتمتعون بالصلاح والتقوى على عكس أعضاء الحزب الوطني الحاكم المستبد الغارقين في الفساد، والذين تأخر شعارهم المضاد "كلنا أيادٍ متوضئة" بلاغةً وتأثيراً.
ولم يكن استنفار الناخبين للخروج بكثافة بحاجة إلى شحن إعلامي أو فني على طريقة "قوم نادي ع الصعيدي وابن أخوه البورسعيدي"؛ إذ كان يكفي أن يَطبع شباب التيار الإسلامي المتحمس على الحوائط عبارة "صوتك أمانة" متبوعة بالآية القرآنية: "وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ، وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ" حتى يخرج الناس إلى صناديق الاقتراع أفواجاً.
وقد حمل السلوك الشعبوي الضاغط الذي أداره التيار الإسلامي بواسطة جماعة الإخوان المسلمين خلال العقود الأربعة الأخيرة العديد من المظاهر ذات العلاقة بالكيانات الدينية والسياسية الأخرى. فعلى الرغم من تناقض مبادئها مع مبادئ جماعة الإخوان المسلمين؛ وجدت الأحزاب السياسية اليمينية واليسارية البارزة أن التحالف مع الجماعة، والانضواء تحت لوائها الشعبوي، هو الاختيار الأنجع للبقاء في المشهد السياسي الصوري.
حزب الوفد الليبرالي، الذي كان له نصيبٌ في حكم مصر قبل يوليو/تموز 1952، والذي يحمل شعار الوحدة الوطنية ممثلة في تعانق الهلال والصليب؛ حاول العودة إلى الحياة السياسية في الانتخابات التشريعية في 1984 عن طريق امتطاء الشعبوية الدينية التي عرفت طريقها إلى الشارع المصري منذ منتصف السبعينيات، وقد تحقق للوفد ما أراد وحصد 57 مقعداً برلمانياً، وهو رقم لم يقترب منه أبداً في كل الانتخابات اللاحقة التي خاضها بمفرده دون مساعدة من الشعبوية الدينية!
في الانتخابات التشريعية التالية 1987، حاول حزبان اشتراكيّان (حزب العمل وحزب الأحرار) تجريب حظهما بالتحالف مع التيار الديني المهيمن على الجماهير؛ وكان من مفارقات نتائج هذه الانتخابات فوز المرشح القبطي جمال أسعد على قائمة هذا التحالف تحت شعار "الإسلام هو الحل"!
وعلى الجانب المسيحي، وجدت الأقلية الأرثوذكسية نفسها مضطرة إلى تكتل شعبوي مضاد، والإعلان عن نفسها باعتبارها كياناً له القدرة على إحداث الفارق الانتخابي. وإذا كان الأقباط -منذ عقود- يُعرِّفون أنفسهم بأنهم "شعب الكنيسة"؛ فقد برز "شعب الكنيسة" موحداً ومتكاتفاً ومشحوناً لصالح المناوئين لمشروع الإسلام السياسي البارز على الساحة المصرية، خاصة بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، وصولاً إلى 30 يونيو/حزيران 2013 وما بعدها.