Print
عماد الدين موسى

الصحافة الثقافيّة.. بين مطرقة السلطة وسندان التمويل؟ (1)

6 سبتمبر 2019
هنا/الآن
الثقافة فعل تجديد للحياة، تقوّي الشعور بالأمل، تدمجنا في إنسانيتنا فلا تتفكَّك عرى المودة والصداقة. وهي لمَّا صارت ثقافة صارت كنزاً للأفكار الإنسانية العقلانية.
الصحافة في العالم العربي انتبهت إلى دور الثقافة هذا، فأفردت لها صفحات بدت خجولة في شكلها ومضمونها، ومن ثم خصَّصت لها مجلات دورية أسبوعية وشهرية، وتحولت هذه الصفحات إلى ميادين تتصارع فيها الأفكار والمعتقدات بين الموالاة والمعارضة، بين القديم والجديد، أو لنقل بين اليمين واليسار. وتحوَّل القلم إلى سيف، وصار السيف يجزُّ أفكاراً وأفكاراً، ونسي المتصارعون أنَّهم بذلك يقضون على الجمالي الفلسفي الذي في الثقافة. وتدخلت السياسة في الثقافة، وصارت تتسلبط عليها، فأنتجت موظفي ثقافة يجيرون كل أفعالهم لصالح الاستعمال الاجتماعي للسلطة. وهذا أفرز مبدعين ومنتجين للثقافة مقابل مستهلكين صارت تجتذبهم هذه الصحافة، وصارت هناك مناطق حرام وأخرى حلال للأفكار. وهذا خلق حالة من الذعر والخوف بين المثقفين الحقيقيين الغيورين على عقل الأمة، وبين بلطجية الثقافة؛ بين المتن والهامش.
هل استطاعت الصحافة الثقافية أن تصنع حالة أفرزت إبداعاً متميزاً، فجعلتنا نستمتع كبشر بجمال المعرفة والثقافة ونشعر بأنَّ عقلنا ما يزال مُلكنا؟
سنحاول الإجابة عن هذا السؤال من خلال استطلاع آراء عدد من المبدعين العرب في هذا الملف الخاص الذي ننشر هنا الجزء الأول منه:



عبد الكريم المقداد (سورية):
أين الدور 
الرائد في تنشيط الحركة الثقافيّة؟
ثمة مفارقة أليمة تبرز فور الحديث عن الصحافة الثقافية. حكوماتنا تجأر ليل نهار من أهوال التطرف، وتؤكد العزم على محاربته ودحره. وندرك، كما تدرك، أن الجهل هو المنبع الرئيس لهذا التطرف، وأن الثقافة هي السلاح الأنجع لاجتثاثه. إذاً، لماذا تجهد حكوماتنا في تهميش الثقافة والمثقفين؟ لن أجيب، ولن أسأل عن أسباب غلق الكثير من المجلات الثقافية العربية المرموقة، وغياب العديد من الملاحق الثقافية العريقة في الصحف اليومية.
حين تتابع مجلاتنا الثقافية تدهشك الشللية والنمطية والنظرة الأحادية. معظمها بات مُجيّراً لأسماء معينة، بحيث صرت تعرف أسماء كتّابها وطبيعة موضوعاتها قبل أن تصدر. والمصيبة أن رئاسة تحرير هذه المجلات صارت موقعاً تشغله الدرجة الوظيفية لا الدرجة الثقافية،
فبرزت السطحية وغاب العميق والجديد. كما سادت النظرة الدونية للكتّاب، وجرى التعامل معهم كشحاذين ومرتزقة. وبلغ الاستهتار حد أن المجلات ما عادت تراسل الكاتب، فتشعره بوصول مادته، أو تُطلعه على مصيرها، رفضاً أو قبولاً، فتتركه معلقاً في الهواء، ولا ترد على استفساراته.
الحال ذاتها مع الصحف اليومية، التي غابت الملاحق الثقافية عن معظمها، وباتت الصفحة الثقافية فيها تظهر على استحياء. صارت مجرد رفع عتب، وأول ما يتم التضحية به فور حضور الإعلان، أو بروز جديد في السياسة أو الاقتصاد. الأدهى أن اهتمامها انحصر بالتغطيات الخبرية والمجاملات والقراءات السطحية، بعيداً عن القضايا الجوهرية. والمضحك المبكي أن هذه الصفحات غير مأجورة، فلا تدفع لمن أراد النشر فيها من المبدعين أي مقابل. وكأن الكاتب يجد قصائده وقصصه ودراساته تحت وسادته كلما صحا، ولا يقضي الليالي الطوال في إبداعها!
إنه لمن المؤلم أن ننتهي إلى هذه الحال، بعد أن كان للصحافة الثقافية في النصف الأخير من القرن الفائت دور رائد في تنشيط الحركة الثقافية وإبراز المبدعين. لقد كان للملاحق الثقافية في تلك الآونة وهج أخّاذ يأسر الكتّاب والقراء على حد سواء. وكان ما ينشر فيها يُحدث دويّا تنعقد له الجلسات واللقاءات، ويتطاير صداه بين الناس. ومن خلالها برز المبدعون من الشعراء والقصاصين والروائيين والنقاد والمفكرين. وبين فينة وأخرى كانت تكتشف موهبة جديدة فيتم الاحتفاء بها وتشجيعها. ويكفي أنه كانت للكتّاب في تلك الفترة مكانة معنوية كبيرة، تناقض ما انتهى إليه حالهم اليوم بعدما صاروا رمزاً للفقر والجوع والتسول.



أحمد بزّون (لبنان):
5% من 
المثقفين يتابعون الصفحات الثقافية
لا يمكننا تعميم الأثر الذي تتركه الصحافة الثقافية في جمهور قرائها في الدول العربية كلها دفعة واحدة، فالتمايز بين عاصمة وأخرى موجود منذ منتصف القرن الماضي حتى اليوم، على مستوى بدء الصحافة، وبدء المجلات الثقافية والأدبية منها، ثمَّ بدء إنشاء صفحات ثقافية يومية. لذا أودُّ أن أحصر كلامي في لبنان، الذي بدأت فيه الصحافة باكراً وشهد إصدار مجلات ثقافية مهمة كان لها دور بارز في احتدام السجالات الثقافية والفكرية في البلدان العربية. وإذا تذكَّرنا الصراع بين مجلة "الآداب" المتأثِّرة بوجودية سارتر، ومجلة "شعر" المتفلتة من الثقافات السائدة نحو حداثة جديدة على مستوى الشعر والحياة، ثمَّ مجلة "الثقافة الوطنية" الحاملة للفكر

الشيوعي الذي كان منتشراً بقوَّة في تلك المرحلة، إلى العديد من المجلات الثقافية الأخرى التي صدرت في المرحلة نفسها، وما سبقها من مجلات صدرت في القرن التاسع عشر... إذا تذكَّرنا كلَّ ذلك نفهم حجم الحضور الصحافي الثقافي الذي كان طاغياً على المشهد اللبناني، ومؤثِّراً بالطبع في القارئ اللبناني والعربي، باعتبار أنَّ الصحافة اللبنانية كانت حاضرة على المستوى العربي حيث يسمح بها.
لكن مع تراجع الصراع الرأسمالي الاشتراكي، بين قطبيه الأميركي والسوفييتي، بعد هزيمة الطرف الأخير، وتفكُّك اتحاده، خفتت أصوات المجلات الثقافية الفكرية، على مستوى المنطقة العربية والعالم. ومع توقف السجالات الحامية بردت آلات الطباعة، وتراجع إنتاج الكتب والمجلات الفكرية، وبات عدد قرائها محدوداً بالمقارنة مع الماضي، حتى أنَّ حالات اليأس التي أصابت القارئ اللبناني، بعد عبثية الحرب الأهلية في لبنان، وتبعاتها النفسية والاقتصادية، وانخفاض القدرة الشرائية، جعلت الصحف اليومية تتراجع، على الأقل من حيث عدد القرَّاء، لينتج عن ذلك تراجع تأثير الصفحات الثقافية في القارئ اللبناني.
وكانت أوَّل صفحة ثقافية لبنانية يومية بدأت في جريدة "النهار" عام 1964، برئاسة الشاعر شوقي أبي شقرا، هذه الصفحة، مضافة إلى الصفحات الثقافية في جريدة "السفير" وسواها وملحقاتها الثقافية، تراجعت هي الأخرى بعد الحرب، وباتت هامشاً على السياسة، وإن كانت تتمتع ببعض الحرية. لكن ما هو مؤسف أن تقتصر قراءة الصفحات الثقافية المتبقية، بعد تراجع الصحافة الورقية في لبنان، على الفئات الأدبية والفنية التي بقيت مرتبطة بما تغطيه الصفحات الثقافية، وتنتظرها، وتتأثَّر بها وباتجاهاتها، لكن ما هو مؤسف أيضاً أنَّ من يقرأ الصفحات الثقافية اليومية لا يتعدى نسبة 5% من المنتمين إلى فروع الثقافة المختلفة، وهذا المؤشِّر يكفي لمعرفة أثر هذه الصفحات في قرائها.
 

أنور محمد (سورية):
صحافة خجولة
الصحافة الثقافية الورقية العربية صحافة خجولة في الحياة الاجتماعية، خاصةً تلك التي دعمت وروَّجت إبداعاً قاومَ الاستبداد العربي، فشفنا في الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم صحافة جريئة قدَّمت لنا رواداً نهضويين صاغوا جزءاً من العقل النقدي مثل د. طه حسين ومحمود أمين العالم ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس وآخرين إنْ في صفحات جريدة الأهرام أو في تلك المجلات الثقافية المتخصصة في المسرح والرواية والفكر الفلسفي

والسياسي. كذلك في سورية قامت الصحافة بخلق حالة ثقافية حتى منتصف الستينيات ثمَّ فارقتنا حتى جاء ملحق "الثورة الثقافي" الذي ترأس تحريره الشاعر محمد عمران فأثار ما أثارَ من نقدٍ وجدل ثقافي، وبرحيل محمد عمران رحل أهم نبع ثقافي في الصحافة السورية. هذا جانب، أما الجانب الآخر الذي أسَّس للعمارة الصحافية للثقافة العربية فكان في الصحافة اللبنانية؛ وفي صحف مثل "النهار" و"السفير"، هذا عدا الدوريات الشهرية مثل مجلة "الآداب" وغيرها. وكانت تعمل مثل (بلدوزر) يكنِّس كلَّ ثقافة صناعية، تلك التي يديرها موظفو الثقافة، موظفو المستبد العربي، والتي صار ينزُّ منها الشبق- الشبق العقائدي الذي يضرب/ يقتلع جذور الثقافة، باعتبارها الأساس النووي للحياة. وصار هؤلاء الموظفون ينتجون ثقافة كما المعلبات الغذائية، ويكرسونها بصفتها رؤوساً نووية لنهضة الفكر والثقافة العربية!



شريف صالح (مصر):
الأيديولوجيات المغلقة
تعد "الهلال" لمؤسسها الشامي جورجي زيدان المجلة الثقافية التي حافظت على استمراريتها لمائة وسبعة وعشرين عاماً، في المقابل انقرضت تجارب كثيرة مثل "الرسالة" للزيات.
بتأمل عنونة "الهلال" يُفهم أن المغامرين الشوام الذين لعبوا دوراً محورياً في التأسيس للفنون والآداب، قد انطلقوا من أرضية إحيائية، لوصل شوقي والجواهري بالمتنبي والمعري، وتكريس تمايز العرب لغة وثقافة عن صيغ الاحتلال آنذاك: التركي، الإنكليزي، والفرنسي.
بلغت "الإحيائية العروبية" ذروتها عبر مشاريع سياسية في صلبها التجربة الناصرية التي أفلت بالنكسة.. ليشهد الخطاب الثقافي في صحفه ومجلاته أفولاً موازياً وتدريجياً.
في المقابل كان ثمة تيار آخر يولي وجهه شطر الاندماج في العالم، والإعلاء من الحرية

الفردية، وهو تيار ضم علمانيين وملاحدة وسورياليين وإشتراكيين.. وقد عبر عن نفسه مثلاً في "المجلة الجديدة" في أربعينيات القرن الماضي عندما كانت تحت سيطرة السورياليين.
آنذاك كانت الصحافة الثقافية تدور في فلك أسئلة الهوية بكل تحولاتها. وكانت أكثر تعبيراً عن مذاهب وتيارات جمالية وفلسفية كبرى.
ثم تقزم الاهتمام نوعاً ما، بضمها تحت أجنحة الأحزاب السياسية وأيديولوجياتها المغلقة، فكانت مقالات العقاد تمجيداً للوفد، ومقالات طه حسين مناوئة له، وصولاً إلى التجربة اليسارية النشطة في مجلة "روز اليوسف" في عصرها الذهبي، والطريف أن تلك الكتيبة اليسارية كانت بقيادة كاتب ليبرالي هو إحسان عبد القدوس!
ثمة طرفة شهيرة يرويها الكاتب والصحافي الراحل فتحي غانم عندما انزعج السادات مما تنشره مجلة "روز اليوسف" فطلب إبعاد غانم عن منصب رئيس التحرير وإسناد المهمة لرجل طيب، ولما سُئل السادات عن رأيه في المجلة اليسارية بعد تعقيمها قال بصوته الرنان: "بقت ممتازة خالص، مافيش فيها حاجة تتقرا"!!
لم تخسر الصحافة الثقافية جموحها الإحيائي العروبي، فقط، ولا محاولاتها المتمردة للانتماء إلى العالم، بل خسرت أيضاً قدرتها على التعبير عن أي تنوع أيديولوجي، لمصلحة عملية تأميم (إخصاء) ممنهجة، كي تظل تصدر لكن بشرط "ما يكونش فيها حاجة تتقرا"، في ذروة التوحيد المطلق للصحافة تحت جناح سلطة مطلقة.
انتهى مصير الصحافة الورقية في العالم العربي، ما بين سندان سلطة ترعبها أي كلمة ما لم تكن صادرة عنها، ومطرقة التمويل بغموض أجندته.
ولا شيء يكشف بؤسها مثل الصحافة الثقافية تحديداً، لأن صحافة الاقتصاد والفن وكرة القدم والسياسة والمحليات، قادرة أن تعتاش على أي فتات، يضمن صمودها.
أما الصحافة الثقافية فخسرت معاركها تباعاً، وجرى إخصاؤها على الدوام، فكان من الطبيعي أن تموت مجلاتها سريعاً، وتختفي صفحاتها من الصحف. وأن يتبدل موقعها، من قيادة النهضة الموءودة، إلى المكوث في الذيل كمتنفس استمنائي يجامل من خلاله المثقفون بعضهم بعضاً.وهذا طبيعي، في ظل أنظمة تستثمر في الجهل، وتستبقي الثقافة بكل نتاجها مجرد "حلية" في برنامج لا يشاهده أحد، أو مجلة تستمر بالقصور البيروقراطي الذاتي.
ورغم أن شبكة الإنترنت فككت البنية التقليدية للصحافة الثقافية بكل أمراضها، وضخت شرايين جديدة.. فلو أجرينا إحصاء لما يُتداول في "شبكات التواصل" عربياً، سنجدها تعج بكل التفاهات الممكنة، وآخر همها الإبلاغ عن قصة أو قصيدة جديدة، أو مقال لمفكر.
وهكذا باتت السلطة، والشعوب العربية، يداً واحداً في الاسترابة في أي نتاج ثقافي، والعمل على إقصائه، والسخرية منه. وكانت ثمة قسوة عظيمة في وأد وتحطيم أي "مُوصلات" للثقافة. ليبدو الإبداع العربي مُفتقداً دائماً لقنوات إيصاله، ومرجعيات تقييمه، واحتفاء جمهوره، كأنه يسبح في فوضى الفراغ الهائل.



عبدالهادي سعدون (العراق):
دور الرقابة
أعتقد أن كل حقل معرفي مرتبط بفكرة واتجاه معين، والثقافة ليست بعيدة عن هذا التوجه وذاك حسب مؤسس هذه الكتلة الصحافية أو المسؤول عنها (ومن تقوم بهذا الاستفتاء تقع ضمن التصور نفسه). يجب أن ننتبه إلى أن كل مشروع يتأسس على أطر تفرضها الغاية من هذا المنشور الثقافي أو الصفحات الثقافية في مجلة أو صحيفة معينة. قد تتباين هذه الصفحات بين حين وآخر إلا أن الرابط المحوري هو نفسه تتحكم به المعايير المؤسسة له ضمن اتجاهها القديم أو المعاصر، اليميني أو اليساري أو الوسط، وهي بهذا مثلها مثل كل موجة سياسية أو اجتماعية. بعد هذا القول لا بد من التنبه إلى دور هذه الصفحات الثقافية ومدى تابعيتها لجهة معينة دون أخرى. الصحف الثقافية قديماً كانت تتبع مؤسسة أو وكالة صحافية معينة وبالتالي تعتمد معايير المؤسسة نفسها بشكل وآخر. أما اليوم وبمساعدة الإنترنت ووسائل التواصل

الاجتماعي أصبحت الصحافة الثقافية نوعاً ما متحررة من الكثير من شروط الماضي، بشكل يقربنا من الحرية في التناول والطرح والمتابعة. لكن هذا لا يعني أن الماضي الثقافي مقيد والمعاصر متحرر، بل قد نجد من هذا وذاك في الزمنين والظرفين.
من خبرتي في مجال المجلات الثقافية بالعربية والإسبانية والتي عملت فيها لفترة طويلة، ما تحتاجه الصحافة الثقافية هو أن تكون مستقلة وليست تابعة لجهة معينة ولا أن تكون لصيقاً لملء الفراغ في الصحف والمجلات العامة، ودورها يقع ضمن مسؤولية الجميع من محررين ومشاركين، ولكن الأهم أن يتضح دورها وهدفها وخطوطها العامة وألا نضع عليها أي قواعد مشروطة تحد من حرية النشر إلا ما يقع ضمن خطتها المدروسة. ما نزال في عوالمنا العربية لا نتجرع هذه الشحنة دون مردها لموانع سياسية أو اجتماعية. لقد أصبحنا (دور رقابة) بيقين أو دون وعي منا.
في كل يوم مع حركة التواصل الدائمة عبر شبكة الإنترنت أصبحت العملية متاحة للجميع ومتسعة سعة الدور الثقافي نفسه وعلاقته بما يدور من حراك سياسي ـ اجتماعي، لذا لا أجد خطراً على تواصلها وأهميتها كورقة دفع وديناميكية في المشهد الثقافي العام. لم تعد الثقافة هامشاً مكملاً في الصحف، بل أصبحت من ضمن المشهد المركزي نفسه. صحيح أن الأمر احتاج منا عقوداً طويلة، ولكن وصولنا اليوم لهذا الزخم من القوة الثقافية ومدى استمراريتها يحتاج من المثقف وعياً جماعياً بأهمية العملية وجدواها وضرورة تواصلها بهيئة وأخرى. الثقافة وصحافتها بأشكالها المختلفة قديماً وحديثاً تخلق منا شعلة حراك وتواصل وخلق دؤوب.
كل نشاط ثقافي مرتبط بشرط مجحف معناه قتل الوليد قبل خروجه للنور. وما نحتاجه نشاطاً تنويرياً متعدد الاتجاهات والسياقات ليكون درباً متشعباً شبيهاً بالذهنية البشرية المتشعبة والمتحفزة والقادرة على التبدل والتغيير والتواصل. البشر أكثر تعمقاً وجمالية بتواصل مع الثقافة والمعرفة، وأفترض أن دور الصحافة الثقافية يقع في هذا المنحى المستمر والمتطور يوماً بعد آخر.

 

عمران عز الدين (سورية):
صحافة التوجّه السياسي
لم تكن الصحافة العربيّة ما بين الأمس واليوم إلّا صحافة كذبٍ وتضليلٍ، مثلها مثل سائر الوسائل المرئيّة والمسموعة الّتي تكذبُ حتّى في النشرة الجويّة. أما في ما يخصُّ ملاحق الصحافة (الثقافيّة) فإنَّها في أوجِ (اِزدهارها) ما كانت إلاّ تتويجاً للتّوجّه السياسيّ البعيد تماماً عن الثقافة والمثقفين في جُلِّ (بلاد العرب أوطاني)، فملاحق اِتحادات كُتّاب العرب مَثلاً كانت ملاحق ناطقة باسم أنظمتها المُستبدة، وفي سوريّة كانت تلك الملاحق ملاحق ثقافيّة بصبغةٍ سياسيّة، وكذلك الأمر بالنسبة للملاحق العربيّة الّتي غالباً ما كانت منحازة لوجهةِ نَظرٍ مُعيّنةٍ، أو تَوجّهٍ فكريٍّ/ سياسيٍّ لم يكن يحيد عن مساره ـ ويا للمصادفة ـ كلّ من كان يُراسلُ تلك الملاحق!. كنتُ أقرأُ بِدأبٍ ومُثابرةٍ تلك الملاحق لِفترةٍ من الزمنِ معقولة، والحصيلة كانت صفر ثقافة. بعد اِختراعِ الفيسبوك ما عادت الصحف العربيّة وملاحقها الثقافيّة تعني لي شيئاً، ملحقي الثقافي اليوم أطالعه متى ما أشاء، أضغطُ على خَيَارِ المتابعة لِنخبةٍ مِنَ الكُتّاب، فأقرأ قصيدة لأحدهم، مقالاً نقديّاً لآخر، أقرأُ أخباراً عن أحدثِ الإصدارات، فأجدني قد اكتفيت، وارتويت.
السياسة أحد أهمّ الأسباب الّتي جعلت من الصحافةِ العربيّة صحافة حضيضٍ، والتمويل أيضاً، فضلاً عن اللوبي الّذي يشرف على تلك الصحف والملاحق: فمن كان يموّلُ تلك الصحف كان يفرضُ على المشرفين عليها توجّهه الفكري السياسي، فتنحاز بالضرورة له، وتعملُ من ثمّ على اِصطياد بعض الكَتَبَة الّذين كانت تنصبُّ رؤاهم في معين التوجّه ذاته. وهذا بدوره كان يكرز لانحطاطٍ من نوعٍ آخر: باقة من الكتّاب تحتكر مثلاً ملحق السفير، والأمر ذاته بالنسبة لملحق كلمات والنهار والبيان والثورة وتشرين. لم يحدث في تاريخ صحافة (حكلّي لحكلّك) أنْ نشر رئيس تحرير صحيفة ما مقالاً لأحد الكُتّاب عن كاتبٍ هو على خلافٍ سياسيٍّ أو فكريٍّ أو علميٍّ معه، ما هذا؟ هل يوجد أمر مقيتٌ ومريعٌ أكثر من ذلك؟. مثالٌ آخر: "مجلة ثقافيّة" اليوم ترتكب المعاصي الثقافيّة ولا تستتر، فتنشر للأسماء ذاتها، والطريف أنَّ رئيسَ التحرير يُشارك رابطاً للمجلّةِ كلّ شهرٍ في صفحته الفيسبوكيّة فتنهالُ عليه التعليقات ممن نشر لهم، يكيلون له فيها المديحَ تلو المديحِ مسبّحين بحمده، على أنَّ التعليق الّذي يدعو للقيء هو: "مباركٌ لك ولنا يا دكتووور"، فهل هذه مجلّة أبو الدكتور مثلاً؟!. في دردشةٍ فيسبوكيّةٍ مع رئيس تحرير مجلّة ثقافيّة أخرى طلبت منه أنْ يزوّدَني بإيميل المجلّةِ، فردَّ عليَّ ردّاً غريباً، فحواه أنَّ المجلةَ تُعاني من مشاكلَ ماليّة!. هل تعلم لماذا يضحّون بالملاحق الثقافيّة ما إنْ

يتوصلوا بإعلاناتٍ تِجاريّةٍ أو بحدثٍ سياسيٍّ ما؟ لأنَّهم يعدّونَ الثقافة إكسسواراً، ترفاً، وحلية. ماذا نتوقعُ من صحافةٍ كهذه كرّست للتخلفِ والمنفعيّة الماديّة منذ عقودٍ؟. الصحافة الّتي كان يديرها علي عقلة عرسان ونضال الصالح ـ راجع كلمة العدد في حقبة إدارتهما الديناصوريّة ـ ماذا نتوقعُ منها؟ من أتى بعدهما اِختطَّ يقيناً الخطَ ذاته. صدقني هؤلاء وأشباههم لم يكن يعنيهم الشّأن الثقافيّ في شيءٍ، كانوا الطابور الخامس المُخترق للسلطة الرابعة أو صاحبة الجلالة، والّذين كلّفتهم جهة حكوميّة قذرة ـ مخابرات غالباً ـ بأنْ يختاروا للنشر المقال أو القِصّة أو القصيدة الّتي لم تكن تُعنى بأيّ همٍّ، كانوا يختارون (الأدب) المُهادن، المُخدّر، الأدب الّذي يكرز للقزميّة وللأميّة وللتسطيح أو الطحلبيّة الثقافيّة والفكريّة.
ماذا نتوقعُ من ملاحقَ ثقافيّة تتحدثُ منذ عقودٍ وحتّى اليوم عن قصيدة النثر على اِعتبارها قصيدة لا إيقاعيّة، لا وزنيّة، دخيلة، غربيّة، عميلة، جاءت لِتُنَكِّلَ بقصيدةِ العمود؟ ماذا نتوقعُ من ملاحقَ ثقافيّة تتحدثُ عن الأدب (النسوي) باِعتباره أدب درجة ثانية، وأقلُّ قيمةٍ من الأدب (الرجالي)!؟ ثمّ ماذا يعني أدب نسوي؟ ماذا نتوقعُ من ملاحقَ ثقافيّة تخوّن شِعر الآخر وموسيقى الآخر وفنّ الآخر ومسرح الآخر وقصّ الآخر؟ ماذا نتوقعُ من ملاحقَ ثقافيّة تبرعُ في اِفتعالِ صراعاتٍ (ثقافيّة) تستغفلُ فيها القارئ اِستغباءً على أنّها صحافة الرأي والرأي الآخر؟ ثمّ ماذا نتوقعُ من صحافةٍ تكذب على قرائها وكُتّابها بأنّها صحافة حرّة ومستقلّة، والقاصي والداني يعلمُ أنّها ليست حرّة، وليست مستقلّة، بل مُنحازة، وستنقرض، إنْ آجلاً، وإنْ عاجلاً!؟