Print
ليندا نصار

في رحيل رفعت سلام.. الشعر وسيلة الكشف عن الحقيقة

9 ديسمبر 2020
هنا/الآن

فجأة امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بخبر رحيل الشاعر والمترجم الأديب رفعت سلام الذي يتربّع اليوم على عرش الشعر الحقيقي. رحل هذا الشاعر الذي ربطتني به علاقة قارئة بنصوصه وكتاباته وترجماته قبل أن يشرّفني بـ مقابلة يجيب فيها عن أسئلتي المتواضعة جدًا أمام عظمة أعماله. رفعت سلام المثقف الذي شارك الأدباء العالميين مائدتهم وتجرّأ على حمل كأس الإبداع وعرف حقيقة أن تحترق بنار المعنى وأن تمتلئ بفعل الكتابة، وواكب الصفحات البيضاء وملأها فيضًا من روحه، رحل... نعم لقد رحل حيث المرض نهش جسده وأبى أن يقترب من روحه. إنه رفعت سلام الذي نقل إلينا رامبو، وريتسوس، وبوشكين، وماياكوفسكي، وبودلير، ورامبو، وويتمان وغيرهم من الأدباء العالميين الذين تركوا بصماتهم في الثقافة، وظل يترجم حتى النفس الأخير وها هي الكتب الأخيرة المترجمة ما زالت في المطبعة الآن.
لقد ساهم سلام مترجمًا في إغناء المكتبة العربيّة وقرّب إلينا المسافات فكلّما أردت أن تفتح كتابًا مترجمًا تجد اسم هذا المبدع الذي رفض أن يتوقّف عن العمل والكتابة حتى اللحظة الأخيرة من حياته وكان صدره مرحبًا ومنفتحًا على الجميع. وقد نعت وزيرة الثقافة المصرية إيناس عبد الدايم، الشاعر والمترجم العزيز (1951 - 2020) وقالت إن الراحل "ترك إرثًا كبيرًا للثقافة العربية في الشعر والترجمة والأبحاث النقدية خلال مسيرته الأدبية الطويلة".
نعم لقد حزم حقائبه وغادر الأدب والشعر، غادر الحياة الإنسان والشاعر الذي سكنته الكتابة وشكلت هاجسًا في حياته وكانت الخيط الناظم الرابط بينه وبين العالم.
لقد كان شاعرنا صوتًا في ذاكرة جيل السبعين. إنه ذاك الذي عكف على الاختلاء بالذات في القصيدة الواحدة والانطلاق في رحلة طويلة، وهو الذي صنع حيوات داخل حيوات فاستطاع التعبير عنها في القصيدة الواحدة.
الشعر في نظر رفعت سلام هو ممارسة خاصة لا يقدر عليها إلا الشاعر الحقيقي كذلك هو الروح التي ستحرر الكون من شوائبه وقبحه الذي شوّه صورته الأصلية. بالصور استطاع الشاعر أن يحكي ويصف ويجيب عن أسئلة الشعر والعصر وقد كتب القصيدة القريبة من المتلقي بأسلوبه الشيّق الجميل.
هذا الشاعر غير المطمئن إلى شيء. يكتب لأنه ليس مطمئنًّا إلى العالم وإلى نفسه، بل إلى ما سبق وكتبه من أعمال شعرية، بالذات. فهو يعتبر أن الكتابة محاولة لاواعية لترميم فجوة الطمأنينة، أو للعثور عليها، ولو إلى حين.

رفعت سلام المقاوم بالشعر وذو الأفكار المضادة للشوائب الطارئة على العالم، يحمل في داخله صوت الصرخات والتنهدات المتألمة والمعاناة الإنسانية، وهو الذي
يعتبر أن الشعر وسيلتنا للكشف عن الحقيقة وسط التآمر والتواطؤ
والجرائم التي تحدث بحق الإنسانية خصوصًا في عالمنا العربي.



لم يكن الانفتاح في حياة رفعت سلام من ناحية الذات فقط، بل كان انفتاحًا على الإنسان بحدّ ذاته وعلى ثقافته المحلية والعالمية، والنص بالنسبة إليه خير دليل على انعكاس هذا الانفتاح وذلك بعد أن يسكب فيه رؤيته المغايرة، وقد تحقق ذلك أيضًا في قصيدة النثر التي جعلت من سلام متراسًا لها، مبدعًا ومتينًا في موقفه ورؤيته لها، باحثا في ماهيتها وقضاياها وقدرتها على أن تكون نصًّا مختلفًا مفتوحًا على كل الاحتمالات. هذا الشاعر استطاع أن يخترق الحدود الزمانية ويبدع نصوصًا جديدة تحاكي العصر والجيل الجديد وقد كان صلة وصل بين الأدب الغربي والعربي كونه مترجمًا يتمتّع بالدقة وسرعة البديهة.
رفعت سلام شخص يفكر من خلال رؤية محددة تكشف دهشة الشعر في قصائده وهو الذي يسعى الى استنطاق الأثر، كما أنه بنى شاعريته من منظور مغاير وجديد، فقصيدته عبارة عن تشكيلات بصرية بل هي لوحة بعيدة عن التصورات الجاهزة وهي التي تقبض على الحواس لتجعلها شاخصة أمامها ملتفتة إليها.
رفعت سلام المقاوم بالشعر وذو الأفكار المضادة للشوائب الطارئة على العالم، يحمل في داخله صوت الصرخات والتنهدات المتألمة والمعاناة الإنسانية، وهو الذي يعتبر أن الشعر وسيلتنا للكشف عن الحقيقة وسط التآمر والتواطؤ والجرائم التي تحدث بحق الإنسانية خصوصًا في عالمنا العربي.
راجع الشاعر عدة كتب مهمة منها كتاب سوزان برنار: "قصيدة النثر من بودلير حتَّى الآن"، ترجمة راوية صادق، دار شرقيات، القاهرة ‏1998‏/ 2000. وله دراسات منها كتاب "بعنوان بحثًا عن الشِّـعر"، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 2010. وكتاب آخر بعنوان "ما الشِّــعر؟"، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2018.
في دراساته، عمل رفعت سلام على التحليل والغوص في التّراث العربيّ والمسرح العربيّ.
ونشر رفعت سلام دواوين عدّة، فانطلق من ديوانه الأول "وردة الفوضى الجميلة"، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1987 إلى ديوانه "أرعى الشِّـيَاه على الميَاه"، دار "مومنت"، لندن 2018. وصدر له حديثًا "على خاصرة الأرض"، مختارات شعرية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 2020. كذلك حصل الشاعر على جائزة كفافيس الدولية في الشعر عام 1993.
حرص الشاعر على تصوير المشهديات التي تتضمّن عناصر السرد على لسان الراوي من زمان ومكان وشخصيات في قصائده، ما يدل على تقنية الكتابة عنده وقدرته على جعل الأجناس الأدبية كلًّا في واحد، من هنا نلاحظ عنده التداخل بين الشعر والسرد.
إنّ من عرف شاعرنا عن كثب، لاحظ عنده الإبداع بصمت حيث يمارس طقوسه الكتابية ويحفر في الأعماق ليفتح آفاقًا جديدة للمعنى، إنه صاحب الأثر الذي لا يمحى، فهذا الشاعر وسّع فضاءات الكتابة وجعل منها حيّزًا جماليًّا. لقد أعاد الشاعر صنع العالم في نصوص لها سمات خاصّة باحثًا في ماهية الشعر وقدرته على قول ما في العالم من جمال وقبح، حسنات وسيئات. هذا الوعي الكتابي عنده هو ما جعل من نصوصه مميزة.
أخيرًا نقول إنه لا يمكن الجدال حول أهمية أن يكون الشخص قادرًا على قول الصورة وإبداع الأفكار المحمّلة بجماليات المعرفة من شعر وأدب وترجمة كما فعل رفعت سلام الذي لم يتوقف يومًا عن الكتابة، بل حمل قلمه وانطلق بقدرة جمالية عالية محملة بالأفكار وعبر نحو الجغرافيات المجاورة.