Print
صدام الزيدي

رحيل حسن الشرفي.. أبدع في أكثر من صنف شعريّ

30 مايو 2020
هنا/الآن
"يسقي (امجوانه) غمام أمصيف وردي وحبشوش/ وسامح الله أحبابي على سفح لحبوش/ هم عذبوني وخلوني متيم ومربوش/ والحب قرقوش ما مثله ولا أي قرقوش".
كثير من غير اليمنيين لن يستطيعوا فك شفرات هذه القصيدة الغنائية للشاعر اليمني حسن عبد الله الشرفي (1944- 2020)، الذي غيّبه الموت يوم 25 مايو/ أيار الحالي، في منزله بصنعاء، متأثرا بإصابته بعدوى كوفيد- 19، عن عمر ناهز 76 عامًا. لكن يمكنك أن تسأل أي يمني في الزمن الراهن، عن أغنية "مطر.. مطر" للفنان اليمني الكبير أيوب طارش عبسي، ولا تتفاجأ إن أجابك مسترسلا ومترنمًا بلهجة عاميّة عاشقة: "مَطَرْ مَطَرْ والظِّبَا بينهْ تُدَوِّرْ مَكَنَّهْ/ يا رَيْتْ وَانَا سَقِيفْ/ يا ريتَ انَا خِدْرُ بَدْوي كُلّهنْ يَدْخُلنَّهْ/ لَوْما يروحْ امْخَرِيفْ/ يا رَيتَ انَا كُوْزْ بارِدْ وَحْدَهنْ يَشرَبِنَّهْ/ علَى شُوِيَّةْ صعِيفْ/ فرشت قلبي لكل اسمر عيونه مرايا/ واديت قلبي جبا له/ أنا الذي ساق أشواقه سرايا سرايا/ ولفّها في حباله/ قد كان يضحك معا كل الحسان الصبايا/ واليوم عايش لحاله./ ما كان يحسب حساب السحر في الثغر لشنب/ وكان ناسي بأنه آخر اليوم يحنب/ غبني على من عَشِق، غبني على كل من حب/ غبني على من شرب كأس المحبّة وجرّب". قصيدة تشي بخصوصية ينفرد بها الشعر الغنائي (الحُمَيْنِي) في اليمن. وإلى جانب غنائية "مطر.. مطر" نشير إلى حزمة جميلة من قصائد للشرفي عرفتها الأغنية اليمنية المعاصرة، نذكر منها: "القلب الشجي"؛ "في سفح وادي الجبر"؛ "وكيف الخاتمة"؛ "جبال المحبّة"؛ "دموع الهوى"؛ "يا سايق امجيب"؛ "رنات الوتر"؛ "مسّاك بالخير"؛ "العصفري"؛ "كاذي وليم"؛ "بدَّي أعيش"؛ "نوارس عدن"؛ "ريم نخبان"؛ "حسب الطلب"؛ "يا حبيبي تعال".


"مطر.. مطر"
ثاني أيام عيد الفطر المبارك، وفي أولى ساعات النهار، انهمر مطر كثير في المدينة، هنا حيث أقيم، وبمجرد أن خفّ المطر قليلا، ذهبت إلى شبكة النت، كالعادة، لأتابع الجديد في يوميات شعبنا المحاصر بالحرب والفواجع والنوازل من كل حدب وصوب، لأقرأ أن فارسا من فرسان شعرنا اليمني المعاصر ترجل عن صهوة جواده مودعًا، تاركًا دندنة هامسة جاءت من بعيد حيث ذاكرة القرية والفتى الذي اعتاد السير تحت المطر مع قطيع أغنامه في ذروة اشتعال المراهقة في دمه، والحسان الصبايا في طريقهن إلى كهف أو غرفة مهجورة تحميهن من شدة المطر وبرده، وأمنية في القلب أن يستمر المطر حتى خريف قادم، رفقة راعيات ريفيات بريئات بصدور نابضة بالحياة وبسُمرة في الوجوه والأكف، مغمورة بتراب من نقاء وفير.



شاعرٌ من جيل الرواد
في صفحته على فيسبوك، نعى شاعر اليمن الكبير، عبد العزيز المقالح، الشاعر حسن الشرفي، مشيرا إلى إسهاماته مع جيل من الشعراء اليمنيين الرواد في بناء حركة شعرية جديدة: "ببالغ الحزن والأسى، تلقينا نبأ رحيل الشاعر الكبير الأستاذ حسن الشرفي، الذي أسهم مع جيل من الرواد في بناء الحركة الشعرية الجديدة في البلاد، وصدر له ما يزيد عن عشرين ديوانًا شعريًا، وإنا إذ نعزي أهله وذويه لنعزي أنفسنا والساحة الثقافية الوطنية برحيل هذه القامة الأدبية الخالدة". وإلى ذلك، كان الفنان الكبير أيوب طارش عبسي عبّر عن حزنه لرحيل الشاعر حسن الشرفي، الذي تعامل معه وغنّى له أغنيات ما زالت ترنّ في مسامع اليمنيين كلما جاء صوت دندنتها في حالة عشق أو في لحظة مطر، باقية في أرواحهم ووجدانهم حتى وإن رحل كاتبها، في لحظة "كورونية" مباغتة.

بصدد تصنيف حسن عبد الله الشرفي شاعرا غنائيا، وهو الذي أثرى المكتبة الأدبية اليمنية بعشرات الكتب والدواوين الشعرية، وبمعاينة ما أنجزه من قصائد غنائية أمام سيل من القصائد بالفصحى ونزر من قصيدة التفعيلة، يضع الشرفي نفسه في زاوية مواربة عن زاوية رواد ونجوم الشعر الغنائي اليمني الذين أثروا حركة الأدب والفن الجديدة. وينقل الصحافي اليمني أحمد عبد الرحمن إفادة قالها حسن الشرفي عندما سئل: هل نعتبرك شاعرا غنائيا؟، فيجيب: "حاولت كتابة الشعر الغنائي، على طريقة اثنين: عباس المطاع أو المرحوم العظيم عبد الله عبد الوهاب نعمان.. إنهما مثلي الأعلى في كتابة الأغنية.. ولا أنقص من قدر الآخرين هنا أبدا. عباس المطاع كانت له قفزات خيالية غير مسبوقة، أما الأستاذ عبد الله عبد الوهاب (الفضول)، فقد جاء بأشياء في كتابة الأغنية غير مسبوقة على الإطلاق، حتى عند ابن المعتز، وأحيلك على أغنيات للفضول غنّاها أيوب طارش الذي شكل هو والفضول ثنائيّ ذائع الصيت في اليمن: "دُقّ القاع"؛ "هيمان"؛ "طاب البلس"، أما "مكانني ضمآن"، فقد أبكتني أكثر من مرة، لأنها كانت بتعزف على وتر غائر في النفس من ذكريات معينة، وشيطان الشعر لطيف حين يدخل في مثل هذه الخطوط!".





اتحاد الأدباء: شاعر غزير
الأمانة العامة لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين نعت الشاعر حسن عبد الله الشرفي، معتبرة أن اليمن "خسر، برحيله، واحدًا من أعلامه الكبار الذين أثروا مكتبة الأدب اليمني برصيد وافر من النتاج المتميز والفريد". وأشار بيان الأمانة العامة للاتحاد إلى "ما انفردت به قصيدة الشرفي من سمات تضعها ضمن الفرائد النفيسة في الشعر اليمني المعاصر"، معتبرةً رحيله "خسارة كبيرة للشعر اليمني الحديث لما مثّله من تجربة خاصة امتاز فيها بقول الشعر العمودي والحُمَيْنِي والحر وكان في كل منها فارسا كبيرا"، منوهة بغزارة إنتاجه في كتابة القصيدة العمودية وشعر التفعيلة والقصيدة البيتية بخصوصيتها اليمنية (الشعر الحميني)، وهو نتاج كان يمثل إضافة نوعية للقصيدة اليمنية في تجلياتها العظيمة لا سيما في علاقته الفريدة بالصورة والحكمة الشعريتين. وختم البيان بالقول إن اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين وهو ينعي هذا الشاعر الفذ فإنه يعزي الوسط الثقافي والأدبي اليمني والعربي برحيله الذي سيترك فراغا كبيرا في الساحة الأدبية والثقافية اليمنية.
من ناحيتها، اعتبرت وزارة الثقافة بحكومة صنعاء في بيان صدر عنها الشاعر الشرفي "من أهم القامات الشعرية اليمنية في القرن العشرين، حيث تميز بغزارة إنتاجه الأدبي مع إجادة واضحة ومقدرة فذة على تطويع اللغة وامتلاكه لمخزون لا ينضب من المفردات، مما مكنه من كتابة الشعر بأنواعه (العمودي والحميني وشعر التفعيلة)"، مشددة على إعادة طباعة كتبه ودواوينه لتشكل "منهلا للقراء والباحثين والمهتمين". أما وزارة الثقافة بحكومة عدن، فقد أشارت في بيان نعت فيه الشاعر حسن الشرفي، إلى أنه "كان من المساهمين في ثورة الـ 26 من سبتمبر/ أيلول المجيدة 1962، وعمل لفترة طويلة في سلك التدريس والإدارة المحلية، وبوفاته خسرت اليمن شاعرا متميزا قدم إنتاجا شعريا غزيرا ونوعيا في شتى صنوف الشعر، فكتب الشعر الفصيح العمودي منه والتفعيلة، وبرع كثيرا في الشعر الغنائي الحُمَيْنِي منه والشعبي".
"مات الشاعر حسن الشرفي، أحد أبرز شعراء اليمن وأقدرهم تطويعًا للغة وسبكًا لمفرداتها، وأغزرهم إنتاجًا"، هكذا كتب الإذاعي خليل القاهري، قبل أن يضيف، مستدركا: "سنطلق لأنفسنا فضاءات الأمل والسرور، كلما لاح برق أو بشّرت السماء بغيث، فنطرب بلا انتهاء، على وقع أغنية (مطر.. مطر) للشاعر حسن الشرفي بصوت أيوب طارش".


سيرة
ولد الشاعر حسن عبد الله الشرفي عام 1944م في مدينة الشاهل بمحافظة حجة. بدأ كتابة الشعر في سن مبكرة عام 1958. ساعده إتمامه لحفظ القرآن الكريم ودراسة متطلبات اللغة العربية على التخرج من المدرسة العلمية والالتحاق بدار المعلمين بالعاصمة صنعاء حتى قيام الثورة اليمنية في 26 سبتمبر/ أيلول 1962. وخلال سبع سنوات مضطربة تلت الثورة اشتغل بالتدريس مع القليل من الأعمال الحرة حتى عام 1970، ليلتحق بعدها بوظيفة حكومية في وزارة الإدارة المحلية التي كلفته للعمل مديرًا لمديرية "أفلح اليمن" في محافظة حجة.
منذ عام 1994، تفرغ للكتابة والأدب، بعدما انتقل إلى صنعاء ليعمل باحثا في مركز الدراسات والبحوث اليمني حتى عام 2002 (عام تقاعده عن العمل الحكومي). بعد خمس سنوات من كتابة الشعر، أصدر حسن الشرفي ديوانه الأول "من الغابة"، 1978، ثم توالت دواوينه: أصابع النجوم، 1979؛ ألوان من زهور الحب والبن، 1979؛ سهيل وأحزان الجنتين، 1985؛ البحر وأحلام الشواطئ، 1985؛ تقول ابنتي، 1989؛ الطريق إلى الشمس، 1989؛ وكان حفر الباطن، 1994؛ الهروب الكبير، 1996؛ الأعمال الكاملة (1) 1996؛ الأعمال الكاملة (2-3) 1997؛ عيون القصيدة، 2000؛ عيون القصائد، 2001؛ شعب المرجان، 2001؛ بنات الثريا، 2002؛ صهيل الورد، 2002؛ كائنات الوصل، 2002؛ الأعمال الكاملة (4) 2003؛ الأعمال الكاملة (5) 2004؛ الأعمال الكاملة (6) 2005؛ الأعمال الكاملة (7) 2005؛ نصف المعنى، 2005؛ ديوان البردونيّ، 2006؛ الأعمال الكاملة (8) 2008.
أهم ما كُتب عن تجربته الشعرية: "الوطن والوطنية في شعر حسن عبد الله الشرفي" للدكتور مصطفى أبو العلا؛ "من أغوار الخفاء إلى مشارف التجلي" (دراسة شملت عدة شعراء) للدكتور عبد العزيز المقالح؛ "حسم الموهبة" (دراسة شملت عدة أدباء) لعبد الرحمن طيب بعكر.
مُنِح حسن الشرفي درع وزارة الثقافة في ديسمبر/ كانون الأول 2019، كما حصل على العديد من الجوائز، وأعلن عن تكريمه من قِبل وزارة الثقافة وبيت الشعر وجامعات يمنية، غير أنه كان يرفض التكريم مشددا على الاهتمام بحال الثقافة والإبداع، إجمالا، في البلاد.

                                           ***
بذاكرة المرعى


حسن عبد الله الشرفي

كأي فمٍ مليءٍ بالمياهِ
ومن باب الفضول كتمتُ آهي
ورحت مع القريب من التلاشي
وقربتُ البعيد من التماهي
ولم أنطق بحرفٍ من كتابي
وكل الأبجدية في شفاهي
قرأتُ بنصف نومي نصف حلمي
وأجلتُ القصيدة لانتباهي
وحين صحوتُ من صحوي بدا لي
بأني قاب نجمٍ من تماهي
إلى أن أدركتني ثرثراتي
بشيءٍ من يقيني واشتباهي
هناك دنوتُ من أمني وخوفي
ومن بعض الأوامر والنواهي
ومثل ابن اللبون طرحتُ حالي
على رَفِّي بمالي لا بجاهي
دخلتُ حديقة الحيوان يومًا
وفيها المغريات من الملاهي
وكنتُ قريبَ عهدٍ بابن آوى
وشُلّته وكان بها يُباهي
وجدتُ حليمة الأولى أمامي
وما زالت عوائدها كما هي
رجعتُ إلى زماني مطمئنًا
وفي بالي - إلى أجلٍ- شياهي
لمحتُ جوانبَ المرعى يبابًا
وصغراهن تهتفُ: يا إلهي
وما في النفس إلاّ كيف كانت
مع الأيام ناعمةَ الجباهِ
لقد طال الشتاءُ فليس فيه
سوى ما في المسالخ من دواهي
تزوجها رجال الله منّا
فقلنا: بالبنين وبالرفاهِ
وما كانوا رجال الله إلاّ
لأن الطرف في الحارات ساهي
ونحن نريدُ أن نلقى مُنَانَا
(بباقي كشمةٍ وبكوب شاهي)
تساوينا قديمًا في خطانا
ونحن الآن نعجز أن نضاهي
هنا لغةٌ مع الأيام أخرى
تمدُّ الصوت في كلِّ اتجاهِ.