Print
سمير رمان

(سي.آي. إي) و(كي. جي. بي) .. ما بعد الهدنة!

26 يونيو 2020
هنا/الآن

يعد جهاز المخابرات المركزية الأميركية (سي. آي. إي)، ونظيره السوفييتي – الروسي (كي. جي. بي)، أشهر جهازي استخبارات في العالم، كونهما خاضا الحرب الباردة بين البلدين، بالنيابة عن جيوش الدولتين العظميين. وعلى الرغم من انتهاء تلك "الحرب"، بسقوط الاتحاد السوفييتي، وتفككه إلى كومنولث، تفكك بدوره إلى دول مستقلة، إلا أن روسيا الوارثة لمعظم مقدرات الاتحاد السوفييتي بدأت، بعد أقل من عقدين من انتهاء الحرب الباردة، بترميم قدرات جهازها التجسسي العتيق، عبر تطوير قدراتها التكنولوجية، وشن هجمات سيبرانية، وقرصنة حسابات بريدية لمسؤولين أميركيين، أشهرهم هيلاري كلينتون، التي خسرت السباق الرئاسي في مواجهة الرئيس الحالي، دونالد ترامب. هذا يدفع إلى اعتقادٍ أن حربًا شبيهة بالحرب الباردة سترتسم معالمها في قادم الأيام، ليس من دلائلها فقط إلغاء معاهدة الصواريخ المتوسطة بين البلدين، وضم شبه جزيرة القرم من قبل روسيا، والأزمة الأوكرانية، والتدخل الروسي في سورية وليبيا. الأهم في ذلك الاعتقاد هو وصول رئيسين يمينيين إلى حكم البلدين، أحدهما تخرج من مدرسة كي. جي. بي، هو فلاديمير بوتين، الذي أعاد دمج الوكالات الاستخباراتية الروسية الثلاث بعد تفكيك (كي. جي. بي)، وهي: (جي. آر. يو)، و(إف. إس. بي)، و(إس. في. آر)، في عهد بوريس يلتسين، فصعدت به لاحقاً إلى كرسي الرئاسة بالتحالف مع المافيا الروسية.
هنا مقتطفات قصيرة من تاريخ صراع الجهازين الاستخباريين تكشف عن عقيدة كل منهما في تلك الأيام، ابتداء بعصر أول جهاز كمبيوتر بحجم ملعب تنس، وصولًا إلى الكمبيوتر الساعة.

خوذة روسية عليها شعر kgb أمام بوابة براندنبورغ في برلين قبل يومين فقط من الذكرى الثلاثين القادمة لسقوط جدار برلين (7/11/2019/ Getty)

العقيدة الباردة

خلال عدة عقود الحرب الباردة، انخرطت الاستخبارات الأميركية والسوفييتية في صراع خفيٍّ في مختلف أنحاء العالم. وكان لتقارير هذه الأجهزة أثر كبير، حاسمٌ أحيانًا، في نجاح/ أو فشل سياسة دولها، في هذه المنطقة، أو تلك. وفي حين يعدُّ تورط الولايات المتحدة الأميركية في الحرب الفييتنامية أكبر فشل لوكالة الاستخبارات الأميركية C.I.A، فقد كان التورط السوفييتي في أفغانستان الفشل الأكبر لجهاز الاستخبارات السوفيتية كي. جي. بي. وفي الحرب العربية – الإسرائيلية عام 1973، فشلت الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية في كشف نوايا مصر وسورية، بينما تمكنت الاستخبارات السوفييتية من إبلاغ قيادة البلاد السياسية بالحرب في وقتٍ مبكر.
أثناء الصراع بين فيديل كاسترو مع ديكتاتور كوبا باتيستا، كان الأميركيون يراقبون الأحداث بهدوء، مفترضين أنّ السلطة ستنتقل من يد دكتاتورٍ قديم وضعيف إلى آخر شابٍّ وقويّ، على غرار ما حدث في كثير من دول أميركا الوسطى واللاتينية.
كانت الاستخبارات الأميركية مطمئنةً، فلديها العديد من العملاء يقاتلون في صفوف قوات كاسترو، ويزودونها بمعلوماتٍ دقيقة حول ميزان القوى، وديناميكية العمليات القتالية في الجزيرة. ولكن، وبعد وصوله إلى السلطة، اتخذ كاسترو خطواتٍ اعتبرتها واشنطن خطرة على مصالحها. ومع بدء تقرّب كوبا من الاتحاد السوفييتي، في عام 1960، أعلن المرشح الفائز في الانتخابات الرئاسية الأميركية، جون كينيدي، عزمه إسقاط الزعيم الكوبي الجديد. غير أنّ مخططات إزاحة كاسترو كانت قد وضعت مسبقًا في زمن سلفه الرئيس أيزنهاور، استنادًا إلى عمليتين سريتين سابقتين ساهمت فيهما وكالة الاستخبارات الأميركية C.I.A .



إيران.. غواتيمالا
تعود التجربة الأولى إلى عام 1953، عندما ساعدت واشنطن في إسقاط رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدّق، الذي قام بعد وصوله إلى السلطة، بتأميم شركات النفط البريطانية. تمكنت وكالة الاستخبارات البريطانية من الحصول على موافقة نظيرتها الأميركية للقيام بعملية

سريّة مشتركة، أطلق عليها "أجاكس"، التي تولى قيادتها كيورتيس روزفلت، حفيد الرئيس السابق ثيودور روزفلت، والموظف السابق في إدارة الوكالات الإستراتيجية.
ظهر مخطط إسقاط مصدّق عند بعض السياسيين الإيرانيين، الذين رأوا في تصاعد خطواته الديكتاتورية خرقًا لدستور البلاد. كانت نقطة التحول الحاسمة عند هروب الشاه، ونزول جماهير الشعب المتوتر أصلًا إلى الشارع، ليجد مصدّق نفسه مجبرًا على الاستقالة، في نهاية الأمر، وليجد "المحتجون" المدعومون من قبل وكالة الاستخبارات الأميركية أنفسهم عاجزين أمام الزحف الجماهيري. عقب هذا الفشل، الذي منيت به الاستخبارات المركزية الأميركية، تعلّم كيورتيس روزفلت درسًا مهمًّا من هذا المشهد، فقال: يجب القيام بالعمليات السريّة، فقط، عندما تكون أهداف الجماهير متوافقة مع أهداف C.I.A.
أمّا التجربة الثانية، التي بنيت عليها خطة غزو كوبا، فقد كانت غواتيمالا مسرحًا لها. ففي تلك الدول، اتخذت حكومة ياكوبو أربنز، المنتخبة حديثًا "عدّة إجراءاتٍ غير وديّة"، بما فيها مصادرة أسهم الشركة الأميركية "يونايتد فروت"، وقامت بشراء أسلحةٍ من دول الكتلة السوفيتية. بدعمٍ منC.I.A ، تمكنت قوات العقيد كارلوس أرماس من الإطاحة بالرئيس أربنز. حينها، توجّه الرئيس روزفلت بالشكر لـ(آلان دالاس)، لمساهمته في "الخلاص من منصّة سوفييتية متقدمة في نصف كرتنا الأرضية".


 

الأزمة الكوبية
في إطار الإستراتيجية الأميركية للخلاص من أيّ منصة سوفييتية محتملة في أميركا اللاتينية، وبأمرٍ من الرئيس كينيدي، انطلقت عملية ZAPATA لغزو كوبا. بدأت العملية عبر مجموعةٍ

مؤلفة من 1500 مقاتل، تمّ إنزالهم بواسطة سفن إنزالٍ أميركية في خليج الخنازير، في 15 نيسان/ أبريل عام 1961. غير أنّ العملية باءت بفشلٍ مدوٍّ، حيث قتل من قتل، ووقع الباقي في الأسر، إضافةً إلى إغراق سفينتي إمدادٍ أميركيتين.
اقترفت وكالة الاستخبارات الأميركية خطًا فادحًا، إذ فشلت في تقدير قدرات كوبا الجديدة حقّ قدرها. فقد تولى خبراء من كي.جي.بي تدريب كوادر استخباراتٍ كوبية منتقاة بعناية تدريبًا مهنيًا عاليًا، لتمكّن هؤلاء، في وقتٍ قصير، من تجنيد عملاء مزدوجين، بالإضافة إلى تجنيد متعاونين مع C.I.A في بلدان أُخرى. تمكّن الكوبيون بسهولةٍ من اختراق تجمعات المهاجرين، وحصلوا على معلوماتٍ مسبقة حول تحركات خصوم كاسترو.
بعد أول لقاءٍ قمّة جمعه مع كينيدي في فيينا عام 1961، توصّل خروتشوف إلى نتيجة مفادها أنّ الرئيس الأميركي لا يتمتع بالعزيمة الكافية، وهي الصفة التي يتطلبها منصبه. فأرسل إلى كوبا عشرات صواريخ أرض - أرض متوسطة المدى مزودة برؤوس نووية، وقاذفاتٍ تحمل قنابل نووية، بالإضافة إلى بعض القوات البريّة، بما في ذلك لواء مدرّع بقيادة ضابط سيصبح في ما بعد وزيرًا للدفاع في الاتحاد السوفييتي، وهو ديمتري يازوف. نجحت إجراءات التمويه البسيطة، والخداع الاستخباراتي السوفييتي، في إطار عملية "أناديرا" بخداع الاستخبارات الأميركية.
وللمرّة الأولى، وجد الأميركيون أنفسهم أمام اختبار الخوف والفوضى، وهو الشعور نفسه، الذي عاشه الاتحاد السوفييتي بعد الحرب العالمية الثانية، بعد نشر الولايات المتحدة الأميركية شبكةٍ من القواعد في الدول المحيطة به.
بعد وصول الأزمة الكوبية ذروتها، توصّل السوفييت والأميركان إلى حلّ وسط 1962، بعد أن وافق خروتشوف على سحب جميع الأسلحة الهجومية من الجزيرة، مقابل وعدٍ أميركيّ بالامتناع عن غزو كوبا، وتفكيك 15 قاعدة صواريخ "جوبيتر" النووية في تركيا.



أزمة برلين
في بداية الستينيات، شكّلت برلين برميل بارود آخر. ففي هذه المدينة، كانت تعمل قرابة 80 منظمة استخباراتية مستقلة، مع العلم أنّ المنافسة الفعلية كانت بين 4، من ضمنها C.I.A،

كي.جي.بي، بالإضافة إلى جهازي استخبارات ألمانيين متنافسين. كان خروشوف يذكر برلين في مناسبات عدة، واصفًا إيّاها بـ"السرطان" تارةً، وتارةً بـ"الشوكة"، أو بـ"عظمة في البلعوم". بعد قيام ألمانيا الديمقراطية عام 1949، بدأ مواطنوها بالتدفق صوب الغرب على نحوٍ أقلق سلطات الجزء الشرقي من ألمانيا (حوالي 3 مليون شخص، أي حوالي سدس السكان غادروا ألمانيا الشرقية). أدرك والتر أولبريخت أنّ وجود بلاده ذاتها قد أصبح على المحكّ، فسعى لدى موسكو للموافقة على بناء جدارٍ فاصلٍ على الحدود بين برلين الشرقية والغربية. بعد حصول خروتشوف على تطمينات من استخباراته أنّ الغرب لن يقوم بإجراءاتٍ مضادة، وافق على إحاطة المدينة بـ"جدارٍ حديدي". وبالفعل، لم تتعد ردود فعل الغرب عبارات العتب الشفهية، وبعد عشرة أيام، بدأ تشييد جدار بيتونيّ محصّن. في العام التالي، لفتت المدينة أنظار المجتمع الدولي من جديد، عندما جرت عملية تبادل الجواسيس على جسر "غلينيكر"، حيث سلّم الأميركان الاتحاد السوفييتي العقيد (رودولف آبيليا)، المحكوم عام 1957 بعد إدانته بجمع وتسليم معلومات تتعلق بالأمن القومي للاتحاد السوفييتي. أمّا الاتحاد السوفييتي فأعاد للولايات المتحدة الأميركية (فرانسيس باورز)، قائد طائرة التجسس U-2، التي أسقطت فوق الاتحاد السوفييتي. في حزيران من عام 1985، جرت عملية التسليم الثانية: حيث تم تبادل 25 جاسوسًا محتجزين في بولندا وألمانيا الشرقية مقابل 4 أشخاص سبق أن اعتقلتهم السلطات الأميركية.



تشيلي
لفت سلفادور الليندي انتباه كي.جي .بي، بعد أن تمكّن من الفوز بأغلبية ضئيلة في الانتخابات الرئاسيّة عام 1970. أغضب هذا الفوز الرئيس الأميركي نيكسون، فصمّم على إسقاطه بأيّ ثمن من تولي الرئاسة.
خلال السنوات الثلاث اللاحقة من حكم الليندي، عمل الأميركيون على دعم القوى المعادية

للرئيس الاشتراكي، بدءًا من الأحزاب، وانتهاءً بصحيفة ( إل- ميركوري)، كما درسوا المحاولات الممكنة للقيام بانقلاب لإسقاط الحكومة. وكعادتها، تؤكِّد المصادر الغربية أنّ أيّة جهة حكومية أميركية لم تساهم بإسقاط النظام في تشيلي، وعزت سقوطه إلى سوء إدارته الملفّ الاقتصادي، الذي ساهم بتوسع دائرة معارضي الحكومة. من جانبٍ آخر، فشل الليندي في وضع القوات المسلّحة والأجهزة الأمنية تحت قيادته المباشرة.
يرى أندروبوف أنّ خطأ الرئيس الليندي الأكبر كان عدم رغبته في استخدام القوّة ضدّ خصومه، على الرغم من أنّ ( كي.جي.بي) كانت قد أحاطته علمًا بصورة الوضع في الوقت المناسب، مما مكّنه من إحباط أول محاولة في حزيران عام 1973. إلا أنّه، ومع استمرار تردّي الأوضاع، فشل هذه المرّة في احتواء المحاولة الانقلابية الثانية، لتسقطَ حكومته، ويقتل هو نفسه، متحوّلًا إلى شهيد قوى اليسار العالمي.



حرب تشرين عام 1973
كان السياسي المخضرم ريتشارد نيكسون (1969 - 1974) ينظر إلى C.I.A نظرة شكٍّ منذ أن شارك في سباق الرئاسة عام 1960 في مواجهة جون كينيدي. قبل عامٍ من خروجه من السلطة، حصل على مبررٍ إضافي زاد قناعته في سوء أداء الوكالة، بعد اندلاع ما سميّت بحرب الغفران/ حرب تشرين، في أكتوبر عام 1973، التي بدأت بشنّ القوات المصرية والسورية هجومًا مباغتًا من محورين مختلفين ضدّ مواقع الجيش الإسرائيلي. لأسبابٍ عديدة، لم تعتبر الاستخبارات الإسرائيلية، ولا الأميركية، العملية ممكنةً.
قبل اندلاع الحرب العربية الإسرائيلية، كان لدى الأميركان محطات تجسس رادارية سريّة في كلٍّ من القاهرة ودمشق، أي أنّه لم يكن لدى الأميركان نقصٌ في المعلومات الدقيقة، إلا أنّ محللي الاستخبارات الأميركية المسؤولين عن الشرق الأوسط فضلوا التخلّص من معطيات محطات التجسس التي حصلت عليها وكالة الأمن القومي الأميركي. من ناحيتها، تمكّنت كي. جي.بي من إبلاغ القيادة السوفييتية مبكّرًا بوقوع الحرب.
كلفت حرب الغفران إسرائيل 2700 قتيلٍ في صفوف العسكريين، إضافةٍ إلى خسارة بعض الأراضي التي سبق لإسرائيل أن احتلتها عام 1967.
وكنتيجةٍ من نتائج حرب 1973، تلقّت سمعة أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية (المعدودة واحدة من الأفضل عالميًا) ضربةً موجعة.



حرب فييتنام
بدأت قصّة النزاع الشائك في فيتنام قبل الحرب الباردة، أمّا تورط الولايات المتحدة الأميركية في أحداث المنطقة فبدأ في ما بعد، أثناء رئاسة أيزنهاور، الذي كان يعارض بشكلٍ حاسم نشر القوات في منطقة العزل بين فييتنام الشمالية والجنوبية لأسبابٍ عسكرية بحتة. وصل فريق من

C.I.A إلى سايغون، برئاسة إدوارد لاندسيل، بمهمةٍ محدّدة هي القيام بشنّ "حربٍ سياسية - نفسيّة" ضدّ العدو، بالتعاون مع الفييتناميين الجنوبيين. تابعت الاستخبارات الأميركية مراقبة الوضع عن كثب، وفي نهاية عام 1962، أنشأت تشكيلاتٍ شبه عسكرية (38 ألف شخص تقريبًا) من سكان الجبال الذين تركوا مناطقهم واستقروا في مناطق سيطرة الحكومة.
كان الرئيس كينيدي يعد فقدان البلاد لصالح الشيوعيين سببًا سيؤدي إلى تساقط دول المنطقة كأحجار الدومينو. ولهذا أمر بزيادة عدد المستشارين العسكريين في البلاد، وبتعزيز الحرب السريّة ضدّ فييتنام الشمالية، ولكنّه قرّر، بعد فشل القوات الكورية الجنوبية إرسال قوات برية إلى فييتنام عام 1975، وصل تعدادها قرابة نصف مليون جندي.
بعد خروج خروتشوف من السلطة عام 1964، راح الاتحاد السوفييتي يقدّم مساعدات متزايدة لفييتنام الشمالية. وعلى الفور، ضاعفت كي. جي. بي عدد عملائها في هانوي. إلى جانب التواجد السوفييتي، أصبحت فييتنام الشمالية مركزًا مهمًا لأجهزة الاستخبارات السوفييتية للتجسس على بكين، التي كانت علاقاتها مع موسكو قد أصبحت حينها شديدة التوتر.
انتهت الحرب الفييتنامية عام 1975 بالنسبة للأميركيين. ويعتقد كثيرون أنّ نقطة التحول في هذه الحرب كانت الهجوم الذي شنته القوات الشيوعية عام 1968، مستغلةً الاحتفالات بعيد "تيت - العام الجديد المحليّ"، على أكثر من مئة مدينة، وعلى المواقع العسكريّة والمنشآت الحكومية في عموم فييتنام الجنوبية. فشل الأميركيون بتوقع هجومٍ بهذا الحجم والقوة، مما جعل المحلل الإنكليزي آدامز يقول: "هذا الفشل الاستخباراتي هو الأكبر في هذه الحرب، ويمكن مقارنته بالهجوم على الأسطول الأميركي في بيرل هاربر عام 1941".
تعرّض الأميركان لهزيمة مريرة في فييتنام، لأنّهم لم يفهموا جيدًا الظروف هناك، ولكنّ الاتحاد السوفييتي أيضًا لم يكن أفضل حالًا في أفغانستان.



الغزو السوفييتي لأفغانستان
انخرط الاتحاد السوفيبتي في أحداث هذا البلد انخراطًا مباشرًا في عام 1978، عقب وقوع انقلابٍ قتل فيه رئيس الوزراء محمد داود، ليخلفه محمد تراكي، زعيم الحزب الشعبي - الديمقراطي الموالي للاتحاد السوفييتي. ولكنّه، وبعد استلامه السلطة، بدا مريبًا تمامًا من وجهة

نظر الاستخبارات الروسية.
تمثّل خطأ "تراكي" الإستراتيجي في محاولته، وهو الذي يتمتّع بالحدٍّ الأدنى من الدعم الشعبي، بناء إدارة شيوعية في بلادٍ سكّانها قبائل متنوعة، يتمسّك معظمهم تمسكًا قويًا بالإسلام.
أمّا خطأ الاتحاد السوفييتي فكان بسبب فشل كي.جي.بي في تقدير قوة المقاومة الأفغانية، التي تحوّلت في ما بعد إلى جهادٍ شامل لم تكن قوات تراكي مستعدةً لمواجهته، خاصّةً بعد نزيفها نتيجة الانشقاق الواسع بين جنودها.
ازداد الأمر سوءًا على خلفية الصراع على السلطة، لذا قرّرت موسكو أنّ الإجراءات السياسية غير كافية، فأعطت الأمر لقواتها بالدخل الحاسم. لم تستطع موسكو الزجّ بعددٍ كافٍ من الفرق العسكرية في أفغانستان، على غرار ما فعلت الولايات المتحدة في فييتنام (وصل عديد القوات إلى نصف مليون)، بالإضافة إلى ذلك لم تكن القوات السوفييتية مدربةً على مواجهة حرب العصابات التي شنّها المجاهدون. ولهذا السبب اقتصر هجوم القوات السوفييتية على المدن الكبيرة والقرى التي اعتبرت مرتبطةً بالمجاهدين، مجبرةً ثلث السكان على مغادرة البلاد.
جاءت ردّة فعل الرئيس الأميركي، جيمي كارتر، سريعةً على التدخل السوفييتي، إذ أوعز لـC.I.A بتزويد المجاهدين بالأسلحة عبر باكستان. وألقيت مهمة التدريب الجهاديين على عاتق الاستخبارات الباكستانية. ووصلت المساعدات العسكرية الأميركية ذروتها مع تسليم (المجاهدين) صواريخ ستينغر المضادة للطائرات المروحية السوفييتية Ми-24، من خلال عملية سريّة محكمة أطلق عليها رمز "الإعصار"، لتكون من أنجح عمليات وكالة الاستخبارات الأميركية في أفغانستان، حيث كان لها دور كبير في خروج الجيش السوفييتي المهين من أفغانستان، ولتكون أحد العوامل الحاسمة في انهيار الاتحاد السوفييتي نفسه لاحقًا.