Print
راسم المدهون

في وداع هارون هاشم رشيد.. بساطة اللغة الشعرية وعمقها

30 يوليه 2020
هنا/الآن

رحل عن عالمنا قبل أيام الشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد مغتربا في كندا بعيدا عن وطنه فلسطين وعن مدينته غزة وعن عمر ناهز الثلاثة وتسعين عاما عاشها في الشعر وللشعر مكافحا بالكلمة من أجل حق الشعب الفلسطيني في العودة إلى وطنه واستعادة استقلاله المفقود.

"عائدون.. عائدون

إننا لعائدون

فالحدود لن تكون

والقلاع والحصون

فاصرخوا يا نازحون

إننا لعائدون"

ذلك كان نشيد المدارس في قطاع غزة كل صباح خلال عقد الخمسينيات الذي أعقب نكبة 1948 وكان اسم هارون هاشم رشيد الشاعر الذي كتبه يتردد مع كلمات النشيد. هي دعوة يومية إلى عهد وأمل من الشاعر ذاته الذي ردّد معه الفلسطينيون والعرب بصوت المطربة فايدة كامل نشيده الآخر الأكثر شهرة وانتشارا "لن ينام الثأر في صدري". لا يمكن بالطبع اختصار هارون هاشم رشيد بقصائده المغناة، ولكن حضوره الأوسع والأكثر انتشارا في صفوف الناس العاديين هو بالتأكيد كان ولا يزال من خلال تلك القصائد – الأغنيات خصوصا وأنها أتت في فورة الحماس الشعبي الفلسطيني والعربي للرد على النكبة الكبرى وأيضا في زمن الإذاعة المسموعة حيث للأغنية سلطتها وسطوتها على مستمعيها.
هارون رشيد هو شاعر الغضب لكنه أيضا شاعر الحنين الذي يطلق سؤاله الشهير "لماذا نحن أغراب؟"، ويهمس أيضا "أذكر يوما كنت بيافا.. وشراعي في مينا يافا"، من خلال قصائد – أغنيات مزجت الغضب بالحنين كما بلوعة الغياب عن ملاعب الطفولة في أرض الآباء والأجداد. رحلته مع القصيدة المغناة طويلة وبحناجر مطربين كثر منهم محمد فوزي، كارم محمود ومحمد قنديل، لكن قصائده المغناة الأكثر شهرة والأوسع انتشارا جاءت بصوتي فيروز في أوبريت "راجعون" والأغنية التي تشير إليه دائما "سنرجع يوما إلى حينا" وكذلك بصوت المطربة المصرية فايدة كامل "لن ينام الثأر في صدري".
هو بمعنى السياسة والحضور فيها كان أكثر حضورا في المرحلة الناصرية، أيام إذاعة "صوت العرب" التي عمل فيها، والتي أطلقت قصائده المغناة والتي حققت نجاحات كبرى وحملت اسمه إلى كل المستمعين العرب. وفي تلك الأغنيات يمكن ملامسة خصوصية صوته الشعري الذي تراوح دائما بين حدّي الحنين والغضب، فحمل بهذا المعنى رغبة كبرى في الحفاظ على حيوية حضور فلسطين في الروح، وساهم أيضا في شحذ إرادة الحالمين بالعودة اليها.
تجربته الأخرى مع فيروز كانت مختلفة إلى حد بعيد، فشاعر "لن ينام الثأر في صدري" كتب حنينا منسابا تترقرق منه اللوعة في "سنرجع يوما" و"أذكر يوما كنت بيافا" و"لماذا نحن أغراب" في احتفال وجداني بقوة الحزن وجبروت الذاكرة وقدرتهما على مقاومة واقع النكبة وحقيقة حضورها في الواقع. ربما لهذه الأسباب وكثير غيرها اعتبره النقاد شاعر الحنين وصوت اللاجئين خصوصا وأنه تجاوز الحنين الساذج والميلودرامي إلى استحضار صورة الحياة هناك في فلسطين، واستعادة حيوية أيامها، وعلاقة ناسها بمدنهم وقراهم وبحرهم وما تشير اليه تلك المفردات من رمزية لها دلالاتها الواقعية التي أوقدت جذوة الحنين والغضب معا في نفوس مستمعيها على نحو غير مسبوق. وأتذكر أنني كتبت أسئلة بهذا المعنى لمذيعة كانت تجري مقابلة مع هارون رشيد للتلفزيون العراقي على هامش "مهرجان المربد الشعري" عام 1989.
كثير من هذا المعنى كان ولا يزال حاضرا بسطوع كبير في قصيدته "سنرجع يوما إلى حينا"، فهذا "الوعد" الذي يحمل تفاؤل الواثق تجاوز الصراخ واللغة المنبرية وأطلق هتافه الخافت في نبرة فيها الكثير من شجاعة الحزن ومن قوة الحنين بوصفه محرضا على الثبات والثقة بالنفس والمستقبل، ولعله بهذا المعنى عاد بفلسطين إلى صورة حضورها الحقيقي والأكثر جمالا في نفوس أبنائها ووجدانهم الوطني، ولن تذبل في هذا السياق ثنائية صوتي فيروز وكارم محمود في أوبريتهما المشترك بما حملاه من حنين فاعل وإيجابي، ولا تغيب من البال هنا تلك "الرواية" الصحافية التي قالت يومها إن تعاون هارون هاشم رشيد مع فيروز والأخوين رحباني جاء بطلب وتشجيع من الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وكان لافتا مشاركة كارم محمود لفيروز في الغناء في تجربة جديدة ومختلفة عن كل ما قدمه في عالم الغناء وفيما يشبه اكتشافا آخر لصوته وإمكاناته الغنائية.






هي تجربة بالغة الخصوصية أبدعت خلالها ألحان الأخوين رحباني في استنطاق الحنين وجعله معادلا للحضور الحقيقي تميزت به في مزجها الحنين بالحلم وبالوعد والتصميم والإرادة نحو بالغ التعبيرية والصدق.
في ضفة أخرى تقف قصيدة مثل "لن ينام الثأر في صدري" التي أنشدتها فايدة كامل والتي حققت بدورها انتشارا عظيما.. في هذه القصيدة – الأغنية اقتراب مباشر من فضاءات السياسة ومناخات الكفاح الوطني، فشاعر الحنين هو ذاته شاعر الغضب الذي يشير بكلمات مباشرة ولغة مباشرة إلى جرائم الصهيونية في بلاده فلسطين ويعلن أنه لن ينسى ولن يتجاهل. تلك لغة نبتت في ثنايا البحث الفلسطيني عن استعادة الشخصية الفلسطينية واستعادة تشكيلها السياسي الوطني في عقد الخمسينيات، والذي سبق تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، ثم واكب ذلك التأسيس سواء بالعمل المباشر في إعلام المنظمة، أو بإبداع شعري حققه الشاعر وصنع منه الملحنون ألحانًا كبرى شدت بها حناجر كبار المطربين والمطربات العرب.
هي تجربة حملت افتراقا شعريا عن مجايليه من الشعراء الفلسطينيين والعرب وحققت نجاحها من خلال الغناء بسبب بساطة اللغة التي كتبت بها، ولكن أيضا بسبب عمق تلك البساطة وما جسدته من وضوح الجوهر ونصاعته. ويتذكر أبناء الأجيال الفلسطينية التي عاشت تلك السنوات قوَة حضور شعر رشيد في حياتهم ومواكبته الحيوية لتطورات قضيتهم.