Print
راسم المدهون

رحيل مريد البرغوثي.. سعي دائم لأفق شعريّ مختلف

15 فبراير 2021
هنا/الآن

غيّب الموت، أمس الأحد، الشاعر الفلسطيني المتميز، مريد البرغوثي، بعد رحلة طويلة مع الشعر والأدب، قدم خلالها اثنتي عشرة مجموعة شعرية، ونتاجات نثرية لعلُ أهمها وأشهرها "رأيت رام الله"، الذي ترجم ونشر في العالم، وصدرت منه طبعات متعددة أشهرها في لندن، وكان بتقديم من الراحل إدوارد سعيد.
ولد مريد البرغوثي في دير غسانة غربي رام الله عام 1944. درس الأدب الإنكليزي، وتخرج في كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1967، فلم يتمكن من العودة إلى الضفة الغربية، فعاش عقودًا من الشتات والمنفى متنقلًا بين القاهرة وبيروت وبعض عواصم أوروبا الشرقية، قبل أن يعود للعيش بين رام الله والقاهرة. تفاصيل جعلته يعيش في قلب الحياة الثقافية والسياسية في مصر سنوات الستينيات، ويعايش المبدعين، من شعراء وأدباء وفناني مصر الكبار، من أبناء جيله، ومنهم بالذات الشاعر الراحل، أمل دنقل.
حياة الشاعر الراحل كرَسها للأدب والشعر وفلسطين، وتزوج من الأديبة المصرية الراحلة، رضوى عاشور، وأنجبا ثالثهما الشاعر تميم البرغوثي، وكانت حياة تنقل وسفر دائم بين العواصم والمدن المختلفة، فاكتسب إلى عذاب الغربة نعمة وفوائد معايشة شعوب متعددة، ومدن مختلفة.

رحلة الشاعر الراحل الشعرية حملت دومًا ما هو مختلف عن شعراء جيله من أبناء مرحلة الستينيات، فهو مع التزامه بقضية وطنه، سعى بصورة مستمرة إلى زج الشعر في رؤى ومواقف تحيط بالحياة من جوانبها المختلفة، وكان ذلك واضحًا منذ مجموعته الشعرية الأولى عام 1972 "الطوفان وإعادة التكوين"، لكن نزعته التجديدية أخذت بعدها الكبير والواضح في مجموعته اللاحقة "قصائد الرصيف". في هذه المجموعة، قدم البرغوثي أفقًا شعريًا مختلفًا رأيناه يقارب الحياة الإنسانية من جوانبها اليومية، التفصيلية، والأكثر التصاقًا بالتفاصيل والجزئيات الصغيرة. هذه المجموعة الشعرية بالذات وجدت صدى واسعًا في أوساط النقاد والقراء معًا، وكان لها أثرها الكبير على الحركة الشعرية الفلسطينية. ولا أبالغ إذ أقول إنها قدمت مريد كواحد من أبرز الشعراء من أبناء جيله، وهو لم يلبث بعد ذلك من الارتقاء بتجربته الشعرية إلى مقامات أعلى فنيًا، خصوصًا في مجموعته اللاحقة والهامة "طال الشتات"، التي منحته مكانة كبرى، وموقعًا متميزًا بين الشعراء الفلسطينيين والعرب، على حد سواء.
تجربة مريد البرغوثي الأدبية حملت، شعرًا ونثرًا، بعدًا جماليًا خاصًا نهض بالنص السياسي والوطني إلى ذرى فنية جعلت الألم التراجيدي الفلسطيني أعمالًا فنية راقية تمتحن جدارتها في فنياتها، وليس في نبل القضية، وهو الذي شدد طيلة حياته الأدبية على ضرورة الارتقاء بالنص الفلسطيني (شعرًا ونثرًا) كي يستحق شرف التعبير عن قضيته. في رحلته الشعرية كلها، يمكن الوقوف على شجن يسري في السطور، لكنه يجانب الحزن التقليدي إلى بناء عمارة شعرية منسوجة من قلق المثقف وتوتر جملته، بل حتى توتر مخيلته في اتساع نظرتها لتحيط ما أمكنها بما هو عميق وجوهري في الأحداث الكبرى، وليس في عناوينها. لعل كثيرًا من حميمية العلاقة مع المكان الفلسطيني رأيناها في جمالية لافتة في "رأيت رام الله"، الذي كتبه الشاعر الراحل بعد عودته إلى مدينته بعد غياب عقود ثلاثة في الشتات. هنا بالذات رؤية فنية وإنسانية تحتفل بالوطن من دون صراخ، أو هتافات عالية النبرة، وتلك في تقديري ميزة كبرى للشاعر الراحل، ولتجربته التي ظلت لصيقة بالحنين حتى في ذروة قصائد الغضب، فاحتفظت بوهجها ونبضها الذي لا ينطفئ.
في تجربته الشعرية، أيضًا، جزالة اللغة وحيويتها، وقد دأب الراحل على أن تكون لغة تجمع الرصانة إلى تعبيرية تتكئ على الصورة الشعرية بالذات. قصيدة مريد هي كما عرفناها تميل إلى رسم مشاهدها، فتجذب قارئ الشعر إلى حيوية المشاركة في تخيل مشاهده، بل في محاولة استعادتها والعيش معها وفيها.

في قراءة تجربة الشاعر الراحل، نلاحظ اعتناءه اللا محدود بالسبك الفني، سعيًا إلى الابتعاد عن الزوائد، أو الشروح التي تثقل النص، وحرصًا على جملة شعرية تكتنز مفردات الإيحاء، وتعتني بانتقائها ببراعة، وهو في ذلك نسيج وحده لا يشبه أحدًا، ولا يشبهه أحد.
مريد البرغوثي هو أيضًا المثقف الذي عاش تجربة الكفاح الفلسطيني، فهو الإعلامي والدبلوماسي الذي عمل طويلًا في إذاعة فلسطين في القاهرة، ثم بعد إغلاقها، إثر كامب ديفيد، عمل دبلوماسيًا في الدول الاشتراكية، وخصوصًا هنغاريا، وساهم في رعاية كثير من الطلبة الفلسطينيين، إلى جانب مساهماته الإعلامية والثقافية، وعلاقاته المتميزة مع أدباء تلك البلاد، وتعريفهم بفلسطين وقضيتها ونضال شعبها.
رحل مريد البرغوثي عن عالمنا في ظروف صعبة تجعل رحيله خسارة كبرى، لكن عزاءنا الكبير هو في ما تركه لنا من إرث شعري ونثري غني ومتنوع يحمل مقومات البقاء والديمومة.