Print
بوعلام رمضاني

وداعًا مكتبة "جيبار".. "مغارة علي بابا"

26 مارس 2021
هنا/الآن


هل يحِقَّ لـ"ضفة ثالثة" أن تفتخِر بسبقها الصحافي الذي أضحى مُرادفًا لكارثة ثقافية تسيء لباريس مدينة الأنوار، وتحديدًا للحي اللاتيني الشهير الذي كان يترددُ عليه الرئيس الراحل، فرنسوا ميتران، لشراء الكتبِ النادرة، باعتباره أحد أشهر القرَّاء الأكثر شراهة، مقارنة بالرؤساء الفرنسيين الآخرين، فضلًا عن كتُاب كِبار، من أمثال جيد، وسيوران، ومالرو، ودوراس، وموديانو، ونوتومب، وأرسينا، وحتى المطرب المشاغب غينسبورغ؟
قبل حوالي سنة، حاور كاتِب هذه السطور صاحبة مكتبة "بولينيه" الشهيرة، التي أَقفلت أَبوابها في وجهِ ملايين القراء، وفي وجه طلبة جامعة السوربون، في وجه خاص، وَيَومَها كان الحديث عن احتمال التحاق مكتبات أُخرى شهيرة في الحي اللاتيني بمسلسل الغلق النهائي كأمر وارد. مرَّت شهورٌ قليلة، وسقطت صاعقةٌ جديدة على رؤوس عُشَّاق الكتاب، بعد أن رفع أحفادُ مُؤسسي مكتبة جيبار Gibert العلم الأبيض، مُستسلمين للأمر الواقع الذي لم يَصدِم الفرنسيين فحسب، بل حتى الملايين من الأجانب الذين يحُجُّون إلى مكتبات الحي اللاتيني، وهم في عُطلة سياحية، أو في مُهمَّات تقُودُهُم إلى باريس، كمتحف اللُّوفر، وبُرج إيفل، ومسرح الكوميديا، ومقبرة العظماء، ومترو الأنفاق، الذي يجبر فيه الركاب على قراءة الشعر حتى في زمن الهاتف الجوال!


مأتم في عز كورونا

مكتبة جيبار في قلب الحي اللاتيني في باريس تغلق أبوابها في نهاية آذار/ مارس بعد 135 عامًا من العمل (courrier international)


وباءُ كورونا لا يُفسِّر وحده تراجُع مبيعات المكتبات أثناء الحجر الصحي، ولا حتى أزمة الطُّلاب الجامعيين الذين أصبحوا يُعانون من فاقة غير مسبوقة. جَشع مالكي محلات المكتبات هو السبب الأول والأخير الذي يقف وراء استمرار استفحال مُسلسل غلق المكتبات التاريخية التي تردَّدت عليها أجيالٌ في القرنين الماضيين، وتُضحي المفارقةُ رهيبة ومفجعة في هذا السياق، حينما يَتزامَنُ قرارُ مالكي محلات المكتبات التاريخية برفعِ أجور الكراء مَع تراجُع القُدرة الشِّرائية في مُجتمع فرنسي يَئِنُّ تحت وطأةِ جائحةٍ زاحفةٍ تَدْفَع ثمنها الثقافة والفنون من يوم لآخر، وفي ظل خلافات حادّة حول كيفية مقاربة الوباء سياسيًا وفكريًا وطبيًا واجتماعيًا.
غير بعيد عن مقر مكتبة "بولينيه" الواقعة على بعد أمتار من مكتبات جيبار في شارع سان ميشال، الذي يتقاطع مع حي "سان جيرمان دو بريه" الأدبي الشهير، يَمُرُّ منذ نهاية الشهر الماضي، وحتى لحظة كتابة هذه السطور، الآلاف من الفرنسيين لتوديعِ المكتبة التي رافقتهم لعقود ولسنوات قبل غلقِها رسميًا في نهاية الشهر الجاري، وللتَّحسُّر على زمن ثقافي أضحى غيابه المرتقب مأتمًا من نوع خاص.

الأَفجعُ في الكارثة عدمُ توقُّفِ الغلق على مكتبة واحدة فحسب، بل على ثلاث مكتبات تقَع في الحي اللاتيني والضفة الثقافية الشهيرة في الدائرة الخامسة، وواحدة في الدائرة السادسة المحاذية، الأمرُ الذّي حوَّل واجهاتِها الأمامية إلى حائطِ مبكى ثقافي! وإذا كانت وطأةُ الفاجعة أخفّ على الزبائن الذين تَعوَّدوا على شِراء الكُتُب المدرسية والقديمة أساسًا من المكتبات التاريخية التي أسستها عائلة جيبار عام 1868، فإنها لا تُطاق، حسب السيدة آن التي ستترُك عَمَلها مُجبرة في إحدى مكتبات الحي اللاتيني بعد أربعين عامًا من المُتعة المهنية، وَسَتكون هذه السّيدة التي لا تُصدِّق ما يحدث حتى هذه الساعة، ضِمن طاقم يتكون من 71 زميلًا وزميلة.
وطأةُ المأتم شملت، أيضًا، زبائنُ من كُلِّ الشرائح الاجتماعية والفئات العمرية، ومن هؤلاء السيدة المسنة سيسيل التي تَترددُ على المكتبة التاريخية منذ أربعة عقود، وكما أُصيبت العاملة آن بِصدمة لن تَبرحها في المدى المتوسط، أُصيبت سيسيل بالصدمة نفسها التي تركتها لا تُصدِّق ما يدور حولها رغم إلحاح ابنتها على تقبُّل الأمر. وقالت سيسيل متحدثة لإذاعة "فرانس أنفو": (قضيتُ عقودًا أشتري وأبيع الكتب التي اقتنيتها لأبنائي، ولهذا تُعَدُّ مكتبة جيبار جزءًا كبيرًا من ذاكرتي الشخصية والتربوية والثقافية).
إريك إنسو، الأستاذ في جامعة السوربون المجاورة لمكتبات جيبار وبولينيه، كان من المثقفين الأوائل الذين عبَّروا عن حَسرتِهم لغلقِ مكتبات تُعدُّ الروح الثقافية للحي اللاتيني التاريخي. وقال إنسو لصحيفة لوفيغارو: (هذا الغلق يؤُكد يومًا بعد يوم فُقدان باريس لإشعاعها الرمزي والمرادف لما يُعرف بالاستثناء الثقافي الفرنسي). أضاف الأستاذ المتخصص في التاريخ، وصاحب عدة كتب هامة، ومنها كتاب "الإمبراطورية الثانية وحرب عام 1870"، يقول في حسرة: (أنا حزين جدًا، لأنني سأنسلِخُ عن طفولتي التي قضيتُها في أحضان مكتبات جيبار. كنت أضربُ مواعيدَ مُنتظمة معها لشراء الأدوات المدرسية، والكتب، على مدار السنة، والروايات استعدادًا للعطلة الصيفية).



تاريخ مغامرة وشهادات يتامى
انطلقت مغامرة عائلة جيبار عام 1886، حينما صعد الوالد جوزيف، الأستاذ في الآداب الكلاسيكية في مدينة سانت إتيان (تقع شرق وسط فرنسا) إلى باريس، كما يقال عن أمثاله، لكي يَشرع في بيع الكتب القديمة على رصيف نهر السين بمحاذاة كنيسة "سيدتنا" الشهيرة. الإقبال على شراء الكتب القديمة الذي لم يكن ينتظره دفع به بعد عامين إلى فتح مكتبته الأولى في 23 من رصيف النهر الشهير، تزامُنًا مع قانون جول غفيري، صاحب قانون التعليم المجاني الإجباري، الأمر الذي تركه يتخصص في بيع الكتب المدرسية والقديمة العامة.

في الموقع الإلكتروني لعائلة جيبار، نقرأ، أيضًا، أنه بعد رحيل جوزيف الأب المؤسس عام 1915، استمر ابناه ريجيس، وجوزيف، في تسيير المكتبة قبل أن يفتح ابنه الأكبر جوزيف، الذي يحمل اسم والده، مكتبة باسمه عام 1929، في شارع سان ميشال، وفي أحياء باريسية أخرى، وفي العديد من الضواحي والمدن الفرنسية.
كان الأستاذ إنسو على علم بالتهديد الذي أصبحت تُشكِّله العادات الاستهلاكية الجديدة التي أدت إلى غلق مكتبة "بولينيه"، التي مكنتنا من السبق الصحافي السالف الذكر، فضلًا عن تراجع مبيعات مكتبات جيبار بسبب جائحة كورونا، ومنافسة العملاق "أمازون" الأميركي المتخصص في البيع الإلكتروني، لكنه لم يكن ينتظر (نهاية مأساوية سريعة لها وسط الحي الذي يعد القلب النابض لحركة النشر والأدب والعلم)، على حد قوله. ليس وحده الأستاذ إنسو الذي يعد أحد أكبر يتامى الحي اللاتيني اليوم، ويُمكن اعتبار المليون ونصف مليون من الذين تأثَّروا بتغريدته يتامى لم يجدوا غيرَ الاستياء والغضب والاستنكار كلُغة عاجزة عن مواجهة عولمة استهلاكية راحت ضحيتها الثقافة في المقام الأول.


وداعًا مغارة علي بابا
مغارةُ علي بابا، هكذا وصفتها ناتالي غوليه، عضو مجلس الشيوخ، التي انضمت إلى قافلة اليتامى الذين يُعدون بالملايين من الفقراء والأغنياء، ومن المُسنين والشبان والكهول والأطفال، وقدمت بدورها شهادة مؤثرة بقولها: (كنتُ أدخل مكتبات جيبار لشراء حاجة مدرسية معينة، أو كتابًا معينًا في بعض الدقائق، إلا أنني لم أكن قادرة على مغادرة المكتبة قبل ساعات، مثل ما يحدث لنا حينما ندخل مغارة علي بابا. بصراحة، كِتاب بين اليدين شيء آخر غير الشاشة).
شهادات مُدمية أخرى أدلى بها آلاف اليتامى من الطلبة الذين قضوا أزهى وأبهى سنوات شبابهم مشدودين إلى رفوف مكتبة جيبار، وهم في دورهم كتبوا تغريدات مبكية مثل: (إنها موت ربيع عمري)، و(أنا منهار نفسيًا)، و(قلبي منكسر).

السُّياح الأجانب الذين يزورون عاصمة الأنوار بالملايين سنويا تحسَّروا في دورهم لغلق المكتبة التاريخية، وهم السياح الذين كانوا يحجون إليها كما يحجُّون إلى متحف اللوفر، وقصر فرساي، وبرج إيفل.
سائح فنلندي تعوَّد زيارة باريس، كان من بين يتامى مغارة علي بابا، قال مُلخِّصًا شعوره المأساوي: (لم يعد هناك ما يبرر زيارة باريس بعد غلق مكتبة جيبار، وحي لاتيني من دونها ليس الحي اللاتيني). صحافي هندي قال: (جزء مني ينتزع بغلق مكتبة جيبار في الحي اللاتيني). أمّا العالم الفرنكو أميركي فرانك مارشيه فقال: (كانت مكتبة شبابي، يا له من غلق محزن).
يتامى كُثر من عشرات البلدان بكوا غلقَ المكتبة الخُرافية، ومن بينهم يتامى من أستراليا، والمكسيك، والبيرو، والبرازيل، وأفريقيا الفرنكوفونية، واليابان.
أنا حزين، أيضًا، لغلق المكتبة التي اشتريت منها كثيرًا من الحاجات والكتب، سيما وأنني كنت أضرب مواعيدي الشخصية والمهنية في ساحة نافورة سان ميشال المقابلة للمكتبة الصفراء والفاقعة اللون. أنا حزينٌ أكثر، لأنني لا أذكرُ أنني رأيتُ سُيَّاحا كُثرًا يقضون ساعات في المكتبة التي ماتت، لكن أتذَّكر أنني شاهدتُ كثيرًا منهم في جادة الشانزليزيه يتبخترون بهواتف عصرية من النوع الغالي جدًا، وبلباس تُراثي من النوع الغالي جدًا أيضًا!