Print
دارين حوماني

الحياة الثقافية ببيروت: بدايات نهوض من تحت أنقاض الخوف

11 أبريل 2021
هنا/الآن
"من دون الثقافة والحرية النسبية التي تنطوي عليها، فإن المجتمع، حتى عندما يكون مثاليًا، ليس سوى غابة. وهذا هو السبب في أن أي إبداع أصيل هو هدية للمستقبل"، يقول ألبير كامو. لكن الواقع ليس مثاليًا، وهو في الحقيقة نوع من غابة يعيش فيها أفراد يتكلّمون لغة موجوعة، ويحكون بحنين مطلق عن ذاكرة كبيرة لبلد صغير. لم يكن عام 2020 في لبنان مخلصًا لكورونا، حدث، أيضًا، الإنهيار الاقتصادي الكبير، وأيضًا انفجار 4 آب/ أغسطس في مرفأ بيروت، الذي أخذ مع دخانه نصف وجه المدينة القلقة. الحياة التي كانت تفيض من لبنان اختفت دفعة واحدة من اللوحة والقطعة الموسيقية، ومن على الخشبة، فانتقل بعضها إلى الفضاء الرقمي، فيما سكت البعض الآخر ليحصي ندوبه. جرعات عالية من الخوف في السجل السنوي لعام 2020 من العاملين في القطاع الثقافي، فقد توقف كل شيء. الآن، يحاولون النهوض رغم كل أسباب الموت، ورغم هشاشة الحياة.
عن وضع دور الثقافة في لبنان في عام 2020، وعن الجهد المبذول للنهوض بالقطاع الثقافي، التقينا عددًا من الفنانين والمهتمّين بالشأن الثقافي ضمن هذا التحقيق.




أندريه الحاج: نحتاج إلى تفاعل الناس

أندريه الحاج (موسيقار وقائد الأوركسترا الوطنية اللبنانية للموسيقى الشرق-عربية)


"لا شك أن الكورونا العالمية أوقفت كل الأنشطة الثقافية في العالم كله، وهذا وجع على العالم كله، وفعلًا هي حرب على البشرية"، يردّ الموسيقار وقائد الأوركسترا الوطنية اللبنانية للموسيقى الشرق ـ عربية أندريه الحاج، الذي كان أول من توجّه عربيًا إلى العرض عبر الأونلاين. ففي 3 نيسان/ أبريل 2020، قدّم قائد الأوركسترا الوطنية للموسيقى الشرق ـ عربية حفلًا موسيقيًا لأغنية الأخوين الرحباني "بحبك يا لبنان"، مع كورال معهد الكونسرفتوار الوطني اللبناني مباشرة عبر الفضاء الرقمي؛ "هذه الأغنية كانت حدثًا لافتًا بشكل لم نتوقّعه، كان الوجع جديدًا، والجمهور لا يعرف ما الذي يحدث، وكان قد مرّ شهر ونصف شهر على الإغلاق الكامل، ثم طُلب منا عمل آخر، لكنني لم أنفذّه. كانت فكرة الأونلاين قد بدأت تنتشر، وهذا جيد، لكننا نكتشف مع الوقت أن التفاعل مع الناس يختلف كليًا إذا كنا نقدّم عرضنا وجهًا لوجه، أو عبر الإنترنت. كأنك تكلّمين شخصًا عبر الهاتف، أو تكلمّينه وجهًا لوجه، الفكرة نفسها. فكيف إذا كنا على مسرح، لأن أساس المسرح هو الجمهور. أساس الأوركسترا العالمية هو التفاعل من عيون الناس، تكون قلوبهم معك، فكيف إذا كانوا يتفاعلون مع موسيقى عربية، مثل الموسيقى التي نشتغلها نحن. من هذا المنطلق، أخذ الأونلاين مكانه، وأعتقد مع الوقت لن يتوقف، بمعنى أنه سيكون هناك حاجة إليه عندما ترجع الأيام إلى طبيعتها، وسوف ترجع. يمكن أن تبقى العروض عبر الأونلاين في أنواع ثقافية معيّنة صغيرة، ولكن ليس في الموسيقى؛ نحن نحتاج لتفاعل الناس".
ويؤكّد صاحب موسيقى "أماكن" أنه على الصعيد الأوركسترالي التزموا بالقرارات التي تأخذها الحكومة، أي بالإقفال التام، "التعليم لا يزال في المعهد الوطني عبر الأونلاين، ونشتغل مع الشباب في الأوركسترا، ونتفاعل مع بعضنا بالطريقة نفسها، أي نحاول أن نبقى موجودين، لأن الموسيقي إذا لم يتمرّن على آلته سيشعر أنه يخونها؛ ثمة نوع من الخيانة إذا لم يلعب موسيقى. من هذا المنطلق، أرسل نوتات للشباب، ونشتغل سوية على الزووم، حتى نحضّر للموسم الجديد الذي أتمنى أن يكون قريبًا". وعلى الصعيد الشخصي، يخبرنا الحاج أنه يشتغل على موسيقاه، وينظّفها، لأنه يتلقّى عددًا من العروض، من دول عربية، ومن كييف (أوكرانيا)، لتحضير لحفلات سوف يتم عرضها أمام الجمهور، بعد أن يزداد عدد الذين سيتلقّون اللقاح المضاد لكورونا.


هشام جابر: ثمة فئة واسعة تموت تدريجيًا!

هشام جابر  (مخرج مسرحي ومؤسّس ومدير مسرح مترو المدينة) 


كيف بدا المشهد في مترو المدينة؟ يردّ المخرج المسرحي ومؤسّس مسرح مترو المدينة هشام جابر، والذي حاول جاهدًا أن يبقى المسرح على قيد الحياة خلال عام 2020: "المرة الأولى التي توقفت العروض فيها فعليًا على مسرح مترو المدينة كانت في آذار/ مارس 2020. في ذلك الوقت جهّزنا منصة رقمية كي نقدّم عروضنا بشكل مباشر عبر الإنترنت، وهذا ما حصل، فقد استمرّت عروضنا عبر منصة أراتوك Aratok. في الفترات التي توقّف الإقفال فيها، وسُمح لنا بالعرض، قدّمنا عروضنا أمام الجمهور، وفي الوقت نفسه عبر المنصة، ولا نزال حتى الآن نعتمد الطريقة نفسها. يمكن شراء بطاقة عبر الأونلاين من منصة أراتوك، وتتم مشاهدتها من أي مكان كان الشخص متواجدًا فيه وقت العرض. عندما لم يُسمح للمسارح بالعمل نهائيًا، حتى للتمرينات، حاولنا استرجاع عروض كنا صوّرناها في السابق، لكنها لم تُعرض بشكل كامل، وعرضناها على المنصة. يبقى العرض على المنصة لمدة أسبوعين، ويمكن شراء بطاقة، ومشاهدة العرض، في أي وقت. كما راعينا العامل الاقتصادي، فوضعنا سعرين للبطاقة، بالليرة اللبنانية، وبالدولار الأميركي. هذا كله طبعًا لا يُغني عن أن نفتح المسرح كما يجب. لم تتوقف التمرينات المسرحية عندما كان يُسمح بها، لذلك فإننا نحضّر الآن لعروض جديدة".

ولا يخفي صاحب "السيرك السياسي" أسفه وغضبه من الدولة اللبنانية: "الوضع صعب من جميع النواحي، ولا أعرف إذا كنا سنكمل السنة القادمة في ظل قرارات الدولة المجحفة التي تنمّ عن قلة وعي تجاه العاملين في القطاع الثقافي. لدينا قطاع واسع له علاقة بالمسرح والموسيقى والفنون مقيم في البيت منذ عام، والدولة لا تكترث بهم. ممنوع عليهم أن يفتتحوا عروضًا مسرحية وموسيقية وفنية، كأن الدولة تقول لهم "موتوا". في ظل هذه الإجراءات والظروف، من هو الذي سيستمرّ، يضعون خططًا غير واضحة، حدّدوا لنا موعدًا لنبدأ بالعمل، فوضعنا خططًا وجدولًا للعروض، فإذا بنا نتفاجأ بقرارات إغلاق جديدة لأجل غير مسمّى. هذا يعني أنهم مسؤولون متخلّفون، ولا يفهمون أن ثمة فئة واسعة تشتغل مسرحًا وموسيقى وفنًا في هذا البلد تموت تدريجيًا، في الوقت الذي يُسمح فيه لكازينو لبنان، وللمساجد، والكنائس، والمكاتب، بأن تفتح".
ويختم صاحب "بار فاروق": "إننا نحاول أن نبقى في هذا البلد، ونشتغل ما يجب، وما يلزم لهذا الوطن، ومن دون أي دعم من الدولة، كما تعوّدنا دائمًا".



قاسم الإسطنبولي: المسرح لا تعوّضه التكنولوجيا

قاسم الإسطنبولي (مؤسس المسرح الوطني اللبناني في صور وصاحب فرقة مسرح إسطنبولي)


"أثّرت الجائحة على العلاقة المباشرة مع الجمهور، وكان الهدف أن توجد بدائل للتواصل"، يقول صاحب فرقة مسرح إسطنبولي ومؤسس المسرح الوطني اللبناني في صور، قاسم الإسطنبولي، الذي عدّ أن ما حدث فيه شيء إيجابي، وأن الجمهور أصبح يتواصل بشكل أكبر مع بعضه بعضًا، كما أن سهولة اللقاء والوصول إلى المعلومة ساعد في أن يتوجّه الجميع لمتابعة النشاطات عبر الأونلاين؛ "هذا ما تبيّن لنا في هذه المرحلة التي نؤسّس فيها لشبكة ثقافة فنون عربية، ونشتغل على لقاءات وتجارب مختلفة. كما أن مؤسسات ثقافية متعدّدة قدّمت أعمالها عبر الأونلاين، وأعطت الباسوورد للجمهور ليتمكّن عبر الإنترنت من مشاهدة السينما، المكتبات، المتاحف.. أي أصبحت المعلومة متاحة بشكل أوسع". ويرى صاحب جائزة أفضل شخصية مسرحية عربية (2019) أن المشكلة في طبيعة العروض التي تُقدّم عبر الأونلاين، "المسرح اليوم تأثّر بشكل كبير، والعروض التي تُنفّذ بتقنيات عالية غير موجودة في كل الأماكن، والمسرح لا تعوّضه التكنولوجيا، ولن تطوّره، لأنه أصلًا يعتمد على الحياة المباشرة". ويرى "فنان القضية" أن المسرح هو الأكثر تضررًا، فقد تمكّن عدد من الموسيقيين من أن يسوّقوا أنفسهم خلال الحجر، وأن يتواصلوا مع الجمهور بشكل أكبر، "متعة الفنان تأثّرت في هذه المرحلة، أنت كفنان تستمتع عبر اللقاء المباشر مع الجمهور، ولا شيء يعوّض هذه المتعة. التحوّل الرقمي له إيجابية من ناحية أن الجمهور تواضع أكثر وتواصل أكثر، لكن ما تبيّن لي أن المسرح هو الأكثر تضرّرًا. الأونلاين يقدّم قنوات للتواصل، وليس بدائل عن المتعة والفرجة، ولكن على الأقل ظلّ المسرح والسينما على علاقة مع الناس".

يشتغل مسرح إسطنبولي حاليًا بين الأونلاين والمباشر، أي أن يكون الجمهور بنسبة 30%، مع تباعد اجتماعي: "تمكّنا من أن نقدّم مسرح حكواتي، ومهرجانًا موسيقيًا. نخفّض حاليًا عدد الأيام، ولا نستقطب فنانين من خارج لبنان بسبب كورونا، ونركّز على الفنانين المقيمين في لبنان. منذ أيام، قدّمنا "مهرجان أيام صور الثقافية" ليوم واحد مع جمهور محدّد، وأطلقنا فعاليات مهرجان صور السينمائي الدولي للأفلام القصيرة بين 10 و12 من هذا الشهر، ونقدّم الأعمال مباشرة وعبر الأونلاين". ويضيف صاحب "البيت الأسود": "مسرحنا هو مسرح مجاني، لذلك الضرر أقل من المسارح التي تعتمد على بيع التذكرة".
يؤكّد الإسطنبولي أن هذه المرحلة، مثل كل المراحل، لها إيجابياتها وسلبياتها، وأن من إيجابياتها التواصل الأكبر والوصول إلى جمهور أكبر، وينظر إلى الوضع من المكان المضاء: "أصبح لدينا طلاب يتدرّبون من خلال الأونلاين على كتابة السيناريو والرسم والأشغال اليدوية، وأصبح لدينا راديو أونلاين نستضيف من خلاله فنانين، ونؤسّس للقاءات وحلقات نقاش. المستفيدون كانوا قبل الجائحة من جنوب لبنان، أما المستفيدون حاليًا فمن كل لبنان، ومن خارج لبنان، لكن هذا كله له سلبيات نفسية، ولا شيء يعوّض اللقاء الحميم المباشر مع الجمهور".



أليس مغبغب: ما ينتظرنا صعب جدًا!

أليس مغبغب (مؤسّسة مهرجان بيروت للأفلام الفنية الوثائقية BAFF وصاحبة غاليري)


أعربت أليس مغبغب، مؤسّسة مهرجان بيروت للأفلام الفنية الوثائقية BAFF وصاحبة "غاليري أليس مغبغب"، عن حزنها العميق على الوضع بعد تفشّي كورونا، والانهيار المالي العام، لكن في رأيها كان لانفجار 4 آب/ أغسطس أثره الإيجابي في مكان ما، فقد دفع هذا الانفجار المهتمّين بالشأن الثقافي لأن يكون لهم دور للنهوض بالحياة التي دمّرتها الطبقة السياسية. تقول: "ضعنا، نحن الذين نشتغل في عالم الفن، بعد أن مُنعت فيه كل الأنشطة الثقافية. في الفترة الأولى، توقّف كل شيء، لكن بعد الانفجار، والانهيار العظيم الذي دخلنا فيه، شعرنا أنه لم يعد من معنى لأي شيء، غير أنه على الثقافة أن تلعب دورها. يجب على الثقافة أن تقرّب الناس بعضهم من بعض. لا شك أنه مع كورونا، والانهيار الاقتصادي الذي مرّ به الشعب اللبناني، لم يعد ثمة رغبة عند الناس للالتقاء ببعضهم. الكل أقفل على نفسه، وركن في البيت، ليس من كورونا فقط، بل من الإفلاس. يجب على الثقافة أن تعود لتجمع الناس، حتى لو عبر الأونلاين. قريبًا، هنالك موجة ثالثة من كورونا، ولا يزال ثمة خوف، فلا يمكن أن نطلب من الناس أن يأتوا إلى المسرح. في 27 آذار/ مارس، مرّ يوم المسرح العالمي وكل الممثلين والمخرجين المسرحيين في بيوتهم، لا يوجد شغل. يجب أن نبدأ من جديد، ونفتش عن حلول مقبولة لنشاط مقبول لتعود الحياة الثقافية والاجتماعية، ويتشارك الناس الثقافة والفرح والحزن".

تخبرنا مغبغب عن محاولاتها للاستمرار في كل هذه الظروف: "ما قمنا به في مهرجان BAFF أننا نعرض كل آخر "يوم أحد"، من كل شهر، فيلمًا وثائقيًا مع جلسة مناقشة عن الفيلم، أو فكرة من الفيلم عبر الزووم. عرضنا عددًا من الأفلام، منها فيلم "ونستون تشرشل"، و"الرجل الذي باع ظهره". أفرحنا أن العدد الذي يشاهد العروض يتجاوز 550 شخصًا، وهذا دليل على أن الناس تريد أن تتنفس، وتريد حركة ثقافية، ويجب أن نُكمل، وأن تكون مجانية، لأننا في وضع اقتصادي لا يقدر أحد أن يمدّ يده إلى جيبه ليشتري بطاقة لمشاهدة فيلم، وهذا جيد كي يتمكّن الجمهور من أن يشترك في الحياة الثقافية".
وتختم مغبغب، التي رفعت عشرات اللوحات من تحت الركام إثر انفجار 4 آب/ أغسطس، وافتتحت معرض "هذه الأرزة التي تُقطع" بين فترات الإغلاق التام: "بالتأكيد، ما ينتظرنا صعب جدًا من ناحية كورونا، أما من ناحية البلد، فالبلد أصبح خرابًا، ولا شك أن الثقافة تساعد الإنسان ليخرج من الأزمة التي يعيشها، ليتنفّس هواءً نظيفًا، ثم يعود إلى الأزمة اليومية. هذه الأنشطة الثقافية هي نوع من الرياضة يجب على الإنسان أن يمارسها ليتمكّن من أن يُكمل طريقه في وجه الكارثة التي تنتظرنا".


نبيل دبس: نقدّم نافذة للجمهور

نبيل دبس (صاحب غاليري آرت هاوس)


لم يتوقف غاليري آرت هاوس عن إقامة أنشطة ثقافية خلال عام 2020؛ بين فسحة الهواء والأخرى، كان يحضّر أنشطة ثقافية متنوّعة. الغاليري القريب من موقع الانفجار حاول صاحبه نبيل دبس أن يستقبل أكبر عدد من الفنانين بين الإقفال والآخر ليقولوا ما لديهم: "كنا نحاول أن نأخذ موقفًا ضد ما حدث، أي انفجار مرفأ بيروت. جهّزنا معرضًا لعدد من الفنانين، وكانت النتيجة رائعة. كما أقمنا معرضًا فرديًا بين الحطام، مع مراعاة التباعد الاجتماعي. عملنا نشاطات موسيقية على العود والجاز والبيانو، وحدّدنا العدد بثلاثين شخصًا. ثمة مشاريع تمّ إلغاؤها بسبب الإقفال التامّ الذي فرضته الدولة. ولكن في كل مرة تفتح البلد كنا نقوم بنشاط فني. أقامت جمعية غرين سيدرز ليبانون معرضًا لعدد من الفنانين في الغاليري، عادة كان يتم المعرض في باريس، ولكن بسبب الإقفال هناك، طلبوا منا أن يكون المعرض في آرت هاوس، ونجح نجاحًا كبيرًا. لم نعتمد كثيرًا على الأونلاين. هنالك نشاطات تم تصويرها وعرضها على اليوتيوب، وهو مزيج بين العمل أونلاين، والحقيقي المباشر. السيدة رندة فرح اشتغلت على متحف أونلاين عن انفجار مرفأ بيروت. كان في إمكاننا مشاهدة الفنانين الموزّعين على غرف داخل آرت هاوس ينجزون أعمالهم الفنية ونحن ندخل عبر الأونلاين من غرفة لغرفة ونشاهد ماذا يفعلون، وجرى نقاش عبر الزووم عن المعرض. وهكذا لا تتوقف الحياة الثقافية، الرسام يريد أن يرسم، الموسيقي يريد أن يعزف، المغني يريد أن يغني، وإلا سوف يختنقون. ونحن مثلهم نريد إحياء هذه الأنشطة الثقافية. هنالك مواهب كثيرة، ويريدون أن يشتغلوا فنًا. يمكن أن نجنّ في هذه الحياة من دون فن".

الحياة لا تتوقف أبدًا داخل غاليري آرت هاوس الأثري. يقول دبس عن مشاريعه في عام 2021: "قريبًا سيعرض الفنان وسام ملحم 100 لوحة له، وسيوقّع كتابه الذي يتضمن صورًا عن لوحاته. نحاول أن نراعي التباعد الاجتماعي، لأنه من الضروري أن نكمل، وأن تكمل الحياة الثقافية. أيضًا، هنالك مصمم لبناني يعيش في أوروبا يود أن يقيم معرضًا له هنا، وستُعقد حلقة نقاش حول المجتمع والسياسة عن المرأة اللبنانية ودورها في الانتخابات، أي أنه دائمًا يوجد في آرت هاوس أنشطة ثقافية. وما يساعدنا هو وجود حديقة واسعة تابعة للغاليري، ويمكن إقامة الأنشطة فيها. الناس جوعانة للثقافة، أعتقد أنه بالإمكان أن نكمل بهذه الطريقة، وهذا أفضل من التوقّف نهائيًا. أن ننتبه على العدد، ونستعين بالإنترنت. ما ألاحظه أنه كلما قمنا بنشاط فني، كلما زاد العدد، فالجمهور يريد هذه الأنشطة. توجد موسيقى ولوحات ومصمّمون وتوقيع كتب وحلقات نقاش، أرى أنه بالعكس، المكان المفتوح على الهواء موجود، والجمهور يأتي. كما نعمل على عدم إقامة حفلات افتتاح للمعارض لنتجنّب الزحمة، وهؤلاء يأتون من أجل الالتقاء ومشاركة الأحاديث أكثر من مشاهدة اللوحات. الذي يأتي إلينا يأتي من أجل اللوحة، ومن أجل الالتقاء بالفنان، لأننا مدفونون في بيوتنا، وما نفعله في آرت هاوس هو أننا نقدّم نافذة للجمهور".


مهى قبيسي: الجمهور يتوق للخروج من حالة العزلة

مهى قبيسي (مديرة التواصل المجتمعي في دار النمر)


مركز دار النمر، الذي يقدّم أنشطة ثقافية متعدّدة الوجوه، هدأ تمامًا خلال فترات الإغلاق في عام 2020. تقول مهى قبيسي، مديرة التواصل المجتمعي في دار النمر: "نحن جزء من القطاع الثقافي الذي توقّف عمله خلال الفترة الماضية. فكرة دار النمر هي عدا عن البرامج الثقافية التي تقتضي أن يكون هنالك تجمّع للناس، أن تشمل نشاطات المركز معارض فنية، وعرضًا لأفلام سينمائية في مسرح الدار، ونشاطات فنية للصغار والكبار، وتشمل أيضًا محاضرات، ونشاطات داخل المخيّمات الفلسطينية؛ لكن كل ما يتضمّن تجمّعًا للجمهور توقّف". وكان للدار نشاط للأطفال عبر الزووم تمّ بالتعاون مع مبادرة "كيوبورال" QUB Oral التي أحضرت جمهورًا من الأطفال ممّن هم تحت سن الثامنة. كانت الفكرة، تقول قبيسي: "لماذا علينا توجيه الفن للراشدين والشباب؟ من الضروري أن تكون للطفل حصّته من الثقافة، أن تكون لديه هذه الحسيّة: ما هو الفن؟ ما يدفعه للتساؤل بأن هناك عالمًا آخر، ويتوسّع أفقه. عملنا جولة مع الأطفال في المعرض عبر الزووم ولعبنا لعبة الحزورة". بعد رفع الإغلاق استأنف الدار أعماله، واشتغل على نشاط يتضمّن جولة وأسئلة ونقاشات مع أطفال من مكتبات غسان كنفاني ومخيّم البداوي، "عملنا على أن نحدّ عدد المجموعات في ظل استمرار كورونا، وابتداءً من الأسبوع القادم ستبدأ في الدار الجولات الموجّهة، لدينا مجموعتان من الجامعة الأميركية في بيروت". تشير قبيسي إلى أن النشاطات الأخرى هي قيد التنفيذ حاليًا، ومنها التخطيط لعرض أفلام في الفسحة الخارجية التابعة للدار، ولكن كل شيء مرهون بقرارات الدولة من ناحية التجمّع، وتعلّق: "نحن نستغرب أنه في الوقت الذي يفتحون فيه مراكز ترفيهية مثل كازينو لبنان، أو المطاعم التي تشمل تجمّعًا للجمهور نراهم يمنعون المسارح. كانت سنة 2020 مليئة بالبرامج، لكنها توقّفت بسبب كورونا والوضع الاقتصادي، والخطوات التي قمنا بها ولا نزال صغيرة. توجد رؤية للفترة القادمة، لكن آلية التنفيذ كلها متوقّفة".

بعد انفجار آب سمحت الدولة في فترات معيّنة بفتح المراكز الثقافية، ولكن "هل هناك رغبة لدى الجمهور بحضور نشاطات ثقافية؟" تتساءل قبيسي، ثم تضيف: "الصراحة أن ما شاهدناه من خلال معرض صندوق الفرجة والنشاط الذي قدّمناه على الزووم هو حضور بشكل لم نتوقعه. بدا لنا الحاضرون كأنهم يريدون الخروج من حالة العزلة التي يعيشونها". وتؤكد قبيسي أنه يجب أن يُرفع هذا الشأن الثقافي بكل الأوضاع التي تخنق العالم، "ما هو المنفذ؟ في الوقت الذي لم يعد من مال لاستهلاكه، ثمة شيء يوسّع الأفق ويؤسّس انسلاخا عن الواقع المرير، هو هذه النشاطات التي نقوم بها ويقوم بها عدد من المؤسسات الثقافية الأخرى، وهي النبض الذي يسمح للجمهور أن يبقى على قيد الحياة".


***

بعد مرور أكثر من عام على الاتصال الرقمي المكثّف، يتوق الجمهور إلى اللقاء المباشر مع الموسيقى واللوحة والمسرح والسينما والمنتديات الأدبية. تبدو الحياة لهم مثل فراشة مزركشة تختفي ألوانها تدريجيًا في بلاد غير مستقرّة لا يمكن احتساب خسائرها النفسية جرّاء الأزمات المتعدّدة التي مرّت، أو التي تنتظرها. السيناريو المحتمل ليس أقل حزنًا، لكن هذه الأنشطة الفنية ستكون دائمًا مثل فتحة في الجدار لاستنشاق الهواء الصافي الذي يحاول أن ينهض دائمًا، ويعيد اختراع روح جديدة له مع كل صدمة إضافية في بيروت.