Print
دارين حوماني

"صندوق الفرجة" في دار النمر: إيماءات لذاكرة عربية صامتة

5 أبريل 2021
هنا/الآن
(مصطفى علي)                                                                                                                                                                                                


"هل سبق أن كان الفن حاجة إنسانية أساسية؟"، بهذا السؤال تبدأ دار النمر (بيروت) بيانها عن معرض "صندوق الفرجة، لزوم ما لا يلزم"، الذي لا يمكن وضعه ضمن أي خانة فنية، فهو يجمع كل الفنون، وكل التواريخ المعدّة لقول الأشياء التي تلمسّت غبارها فسكتت، لكنها من النوع الذي نحتاجه دومًا لنعرف الفرق بيننا وبين أنفسنا حين كنا أحياء، وحين أصبحنا قريبين جدًا من اللاشيء. لا يعمل هذا المعرض فقط على عرض مقتنيات من الزمن الذي نسمّيه جميلًا، إنه يمدّ لنا خيوطًا طويلة مع ذلك الماضي؛ أحدنا سوف يشعر بالحنين، والآخر سوف يصغي إلى أصوات تكاد تديننا لما آلت إليه حياتنا من فراغ محشوّ بالأشياء غير الحقيقية.

من المجموعة الخاصة في دار النمر، التي تمّ جمعها على مدى أربعين عامًا، من عليّات البيوت، ومن غرف التخزين، تمّ تجهيز هذا المعرض. وهو واحد من سلسلة معارض هَدَف رامي النمر، مؤسّس الدار، من خلالها، إلى الحفاظ على التراث الفلسطيني والعربي، ونشر الوعي الثقافي والتاريخي والفكري، عبر عرض مقتنيات ثقافية قديمة وحديثة ومعاصرة من فلسطين وسائر العالم. كما تسلّط مجموعة دار النمر الضوء على التطوّر الغنيّ والمعقّد للتاريخ الاجتماعي والسياسي للمنطقة، من خلال إنتاجاتها الثقافية والفنية، وتشمل قطعًا تحمل حوالي عشرة قرون من الحضارة. ومن أبرز القطع التي تتضمّنها المجموعة مخطوطات، ونقود، وقطع خزفية، وتحف زجاجية، وأسلحة، ودروع، وأقمشة، وصور، وبطاقات بريدية، وخرائط، وتذكارات من القدس، وأيقونات، ومصنوعات من عرق اللؤلؤ، ولوحات استشراقية وحديثة ومعاصرة.



يضمّ "صندوق الفرجة، لزوم ما لا يلزم"، المستمرّ حتى 28 آب/ أغسطس 2021، أكثر من 250 قطعة شبه منقرضة، تم تقسيمها داخل المعرض بناءً على الثيمات التي تحملها. سنكون أمام حياة اللهو، والموت، والسينما، والألعاب، والتذكارات، والأدوات العسكرية، وغيرها؛ هي جزء من إرث نادر سيعرّفنا على تاريخ ونمط حياة فلسطين ولبنان وسورية في ظل السلطنة العثمانية من القرن السابع عشر والثامن عشر حتى منتصف القرن العشرين. تعلّق مها قبيسي: "لزوم ما لا يلزم، يأخذنا إلى تلك الأغراض التي تعود إلى أزمنة قديمة، وكانت لكل غرض من هذه الأغراض وظيفتها، لكنها مع مرور الزمن لم تعد لها حاجة، وأصبحت للديكور، لكنها تحمل قيمة تاريخية وتوثيقية لزمنها".

عند مدخل المعرض، غرفة مخصّصة لثيمة الموت. ستواجهنا ثلاث رؤوس خشبية على الأرض، مع آلة قاطعة من الخشب والحديد اشتغل عليها النحات السوري مصطفى علي؛ رؤوس تنتمي إلى عالم عربي تمّ اجتثاث الصوت الحرّ فيه. قناع الموت الذي كان يوضع على وجه المتوفى سنجده معلّقًا على الحائط متّخذًا وجه الرئيس لينكولن، وعلى جانبه رأس جمجمة بقرة منحوتة باليد، ستضيف الجمال إلى الموت، آمنت بها القبائل القديمة كنوع من تكريم الميت. هنا أيضًا، مقصلة فرنسية من خشب وفولاذ تعود للقرن التاسع عشر مستوحاة من الساطور الإيطالي والمقصلة الاسكتلندية كانت إحدى الأدوات الرئيسية للتخلّص من المعارضين في ذلك الزمن، وبجانبها هيكل عظمي يجلس على كومة من الجماجم، ويحمل درعًا للنحات الفرنسي أنطوان كوزفو. سنجد، أيضًا، في هذه الغرفة، لوحة مشغولة بألوان مائية على ورق لباخرة "فيكتوريا"، البارجة البحرية الملكية البريطانية، التي اصطدمت في 22 حزيران/ يونيو 1893 بسفينة "كامبرداون" قبالة ساحل طرابلس في لبنان، وأودت بحياة 358 شخصًا كانوا على متنها، ولم يتم اكتشاف حطام السفينة إلا في عام 2005. ثمة لوحة لباخرة أخرى هي سفينة "لو شامبليون" الفرنسية، التي كانت تقلّ حجّاجًا إلى بيت لحم، وانقلبت قبالة شاطئ الأوزاعي على السواحل اللبنانية عام 1952، وانشطرت إلى نصفين، وأودت بحياة 26 شخصًا؛ كما سنشاهد في خمس لوحات صغيرة قوائم الطعام التي كانت تقدّم للحجّاج على متن الباخرة. هنا، أيضًا، "المزولة"، أقدم ساعة شمسية حين كان يُعرف الوقت من اتجاه ظلّ الشمس، وكذلك ساعة الجدّ، أو ساعة البندول، التي صُنعت بين العامين 1715 و1750، ويحمل القرص الفضي المقوّس توقيع "بولس بريمر، أمستردام". توثيق آخر يعود إلى أواخر الحقبة العثمانية؛ لوحة مشغولة من عظم وطلاء وبرونز وخشب من عام 1912 لإحدى غرف مستشفيات الهلال الأحمر تُظهر اعتناء الطاقم الطبي في المستشفى بالمرضى.

ثمة قسم مخصّص لأغراض الزفاف، ومنها، صندوق العروس الذي كانت له دلالاته، فكانت زخرفة الصندوق دليلًا على أن العروس تنحدر من عائلة ثرية. أيضًا، قبعة عرس فلسطينية من الدراهم مصنوعة في أربعينيات القرن التاسع عشر، وكانت تقليدًا يعكس، أيضًا، ثراء العروس، وحزام "كورونا" الذي يلبسه العريس. سنجد، أيضًا، صورًا فوتوغرافية للمصوّر الفرنسي، فيليكس بونفيس، الذي انتقل إلى لبنان في عام 1867، العروس ترتدي "الطنطور"، وصورة فوتوغرافية لنسوة يدخنّ "النرجيلة".



قسم السينما سيضع زمنه كله فينا؛ ملصقات أفلام سينمائية، هي ليست مجرّد "بوسترات"، سنقرأ أسماء لدور السينما، وعناوين أفلام شكّلت انعكاس الفرح في ذلك الزمن، حين كانت السينما الدهشة الأولى للكبار والصغار. ملصقات نصف مضاءة، ونصف حزينة، عن المشهد الثقافي في الأربعينيات والخمسينيات. يمكن من خلال هذه الملصقات أن نتعرّف كيف كانت تتمّ الدعاية، وكيف حدث تطوّر التصميم الغرافيكي. ملصقات بالأبيض والأسود، وأخرى ملوّنة لعدد من الأفلام، منها: "الوردة البيضاء" (1933)، و"يوم سعيد" (1940)، و"دموع الحب" (1935)، و"قيس وليلى" (1939)، و"الذئاب لا تأكل اللحم" (1973)، و"غيتار الحب" (1973). سنشاهد إعلانًا مصنوعًا من طلاء مطبوع على خشب لفيلم "أميرة العرب" (1963)، وآخر من الخشب لفيلم "الأيدي الناعمة" (1964). ملصقات توثيقية أخرى، منها: "بشرى سارة لأهالي يافا ـ فرقة رمسيس الكبرى على مسرح أبو شاكوش بيافا" (1930)، و"نادي الشبيبة العاملة يدعوكم إلى مشاهدة حفلته الكبرى في المصارعة والجمال الجسماني" (1956)، ودعوة لمسرحية "شوشو بك في صوفر" في المسرح الوطني (1965)، وتذكرة لمسرحية فيروز "لولو" (1974)، وسنرى المغنية والراقصة بديعة مصابني ضمن إعلان سجائر.



سرديات تاريخية




السرديات التاريخية لا تُقرأ فقط في الكتب، يمكن الوصول إليها من هنا، من هذا المعرض الذي سيأتي لنا بقوارير مرطبات من خمسينيات وستينيات القرن الماضي، والكتاب السنوي لمدرسة الشوير، ومجلة "شارع الحمرا" الأيروتيكية، وكتيّب حفل نور الهدى، وعمر الزعنّي، في سينما الريفولي، وآخر قانوني لعاملات الجنس في لبنان (1931)، والدليل الإعلاني لفيلم "نشالة هانم" (1954)، ومنشور "شارع المتنبي ـ حكاية البغاء في لبنان" (1971)، ورسالة شكوى حول فاتورة غير مدفوعة من قبل بلدية فرن الشباك تعود لعام 1960، وتذكرة يانصيب كوكا كولا، وتذاكر غير مؤرّخة للتياترو الكبير وسينما البيكاديللي، وقطعة قماش من الحرير نُقشت عليها آيات قرآنية، وآلة كاتبة، وأخرى للخياطة، بالإضافة إلى عدد من الملصقات والإعلانات.

من الزمن الصفوي، سيُحضر لنا "صندوق الفرجة" إسفنجة الحمام الفخارية محفورة بشرائط وزخارف، ولها ملمس خشن يساعد على تقشير الجلد الميت، مسبحة صوفية، وقبعة درويش صوفية. أيضًا، سنرى طاسة الحمام التركية، ومطحنة عثمانية للتوابل والقهوة تعود إلى القرن التاسع عشر، وإناء طبي سحري (طاسة الرعبة)، وصنبور مياه عثماني، وصورة لفوج من العسكريين العثمانيين التقطها الإيطالي سكافو، ولوحة "البسملة" مصنوعة من ورق التبغ يظهر عليها الهلال والنجمة العثمانيان، ودعاية سجائر فاطمة التي كانت مزيجًا نادرًا من التبغ التركي بدأ بيعه في الأسواق في عام 1870، وكانت الأكثر مبيعًا في الولايات المتحدة الأميركية بين عام 1910 وعام 1920. يمكن أن تلتقي بذلك الماضي، أيضًا، وأنت تنظر إلى عشرات دفاتر لفّ التبغ العثمانية المزخرفة، وإلى حاملات السجائر التي تتكلّم من تلقاء نفسها عن ماركتها المسجلّة لذلك الزمن، وهي مصنوعة من فضة، أو عظم، أو عاج، أو عقيق.


سنكون، أيضًا، أمام قسم خاص بفلسطين. من منزل العائلة في نابلس، ومنازل فلسطينية تتزاحم أصوات الماضي الجميل فيها، أتى رامي النمر بخريطة إغاثة لمدينة القدس القديمة مصنوعة من الجص المطلي باليد، قبعة فرو لشرطة فلسطين تعود لعام 1947، وتحمل ختم صانعها "م. و. ج. غولدستاين"، وهراوة شرطة فلسطين، وتقويم عام 1949 لشرطة فلسطين، وصندوق أدوية يعود إلى القرن التاسع عشر، منقوش برسم للقديس جاورجيوس وهو يذبح التنين، وحقيبة يد تذكارية عليها قبة الصخرة والمسجد الأقصى، وصابون من فلسطين، وكتاب تذكاري لزهور الأراضي المقدسة، وصافرة قوة الشرطة الفلسطينية، وأصفاد شرطة فلسطين، وريشة مكتوب عليها "القدس"، مشغولة من خشب الزيتون والحديد، كان الحجاج يشترونها خلال زيارتهم إلى القدس، وإعلان لشركة حمضيات يافا، وأشياء أخرى لم تُحمّل أصواتها في حقائب، غير مرئية هناك، لكنها لا تزال مكانها حيث تُركت.
ثمة قطع آتية من زمن ما قبل الفراغ، ولوحات غير معنونة تعود إلى الحقبة العثمانية، وأشياء تقع على الخط الأفقي نفسه الذي يتقاسم معنا خساراتنا، يقدّمها لنا معرض "صندوق الفرجة، لزوم ما لا يلزم" كوثائق جماعية لبلاد استنفدت كامل أفراحها، ولم تعد تتذكر خضرتها إلا من خلال الإيماءات التي تقدّمها لنا هذه القطع المعروضة.