Print
راسم المدهون

في رحيل عز الدين المناصرة.. قلق فني بالغ الخصوصية

6 أبريل 2021
هنا/الآن

رحلة عز الدين المناصرة، الذي رحل عنا في مطلع الأسبوع الحالي، مع الشعر، حملت دومًا قلقه الفني بالغ الخصوصية، الذي دفعه غير مرَة الى خيارات متباعدة عكست تجريبيته التي لم تتوقف. ودراسته الجامعية في العاصمة المصرية جاءت هي الأخرى على النحو الخاص نفسه، فذلك الفتى الذي كان يحلم بالشعر ويهجس بالقصائد وجد نفسه "درعميًا" نسبة لكلية دار العلوم، كما ألف المصريون أن يصفوا من يتخرَج منها، حيث هناك بالذات يدرس الطالب منهاجًا أدبيًا قوامه الغالب التراث، في كل المناهج النقدية، كما في نظرية الأدب ذاتها، وكما أيضًا في النظر إلى الواقع والحياة.
عز الدين المناصرة المولود في قرية بني نعيم في الخليل الفلسطينية عاش، أيضًا، مفارقة الاسم، إذ هو محمد ابن عزالدين المناصرة، لكن بداياته مع النشر في المجلات والصحف جعلت القائمين على تلك الصحف يعتقدون أنه يحمل اسمًا مركبًا هو محمد عزالدين، فاستعاضوا عنه بالاكتفاء باسم عزالدين، الذي عرف به طيلة حياته بعد ذلك. أتذكر أن أحد أخوته جاءنا إلى مجلة "فلسطين الثورة" يسأل عن محمد المناصرة، فأردنا أن نصحح له، فقلنا لدينا عزالدين، فوجدناه يبتسم ويقول: هو نفسه، ولو أن عزالدين هو اسم والدنا.

المحطة اللاحقة في حياة عزالدين المناصرة كانت في صدور مجموعته الشعرية الأولى "يا عنب الخليل" في القاهرة، من منشورات "دار الكاتب العربي"، حيث تشارك في كتاب واحد مع الشاعرين المصريين الشابين، آنذاك، محمد مهران السيد، وحسن توفيق، فضم الكتاب مجموعاتهم الشعرية الثلاث، وحمل عنوان مجموعة الشاعر حسن توفيق "الدم في الحدائق". تلك التجربة الأولى شهدت احتفاء الأوساط الأدبية واهتمامها، وكانت محطته الأولى الناجحة والمميزة، لرفدها بتجارب أخرى كان أهمها في البدايات مجموعته "الخروج من البحر الميت"، التي حملت نضجًا فنيًا، وعكست في الوقت ذاته تطلعه إلى التجريب، كما سعيه للاستفادة من رموز الواقع الفلسطيني، ومنها بالتأكيد "البحر الميت"، كطبيعة، ولكن، أيضًا، كإرث إنساني ثقافي ووجداني معًا.
تجربته الشعرية على تنوعها وغناها وقعت في مجملها في رحاب الهم الوطني الفلسطيني، وما يحمله من تفاصيل وجزئيات عكست نفسها في قصائده، خصوصًا "جفرا"، و"الزيتون"، بما هما رمزان تراثيان نجح المناصرة في استدعائهما إلى متون قصائده، باعتبارهما جزأين طبيعيين من نسيجهما، وليسا استعارات طارئة كما فعل آخرون كثر، وهو في هذا نجح في رهانه على قدرة التكثيف الشعري على التعبير عن كثافة الرمز الشعبي، التراثي والثقافي معًا. سنرى ذلك، أيضًا، في نظره اللافت الى ألوان العلم، كما في قصيدته الشهيرة "بالأخضر كفناه"، التي لحنها وغناها اللبناني مارسيل خليفة، ولكن، أيضًا، وبصورة أكبر وأجمل، في جعل "العنب" رمزًا للخليل، ومن بعدها رمزًا لفلسطين كلها.

أهم مجموعات عزالدين المناصرة الشعرية، وأجملها فنيًا، هي في تقديري "قمر جرش كان حزينًا"، التي صدرت في بيروت عام 1974، أي بعد قليل من خروجه من عمان إلى بيروت. في هذه المجموعة، بالذات، سطعت الصورة الشعرية، بل لنقل المشهديات المرسومة بحرفية فنية عالية المستوى تتفوق بالتأكيد على قصائد تجاربه كلها بعد ذلك. التجربة الشعرية هنا نهلت من ذاكرة الشاعر، ومن إحساسه العميق بالمكان والبشر، وأضاف الى ذلك كله غنائية فيها الكثير من ألق رومانسية الاستعادات الحميمة لصور حياة وأماكن وأشخاص عرفها واختزنتها ذاكرته. وفي "قمر جرش كان حزينًا" كان رهان الشاعر الراحل على قصيدة تتكىء على منابع الحزن البليغ، الذي يمكن أن يعصف بالروح، فيتألق في هدوئه كما في جموحه، ولعلنا هنا بالذات نتذكر القصيدة التي حملت المجموعة عنوانها، كما قصيدته الأخرى "تقبل التعازي في أي منفى"، التي رثى فيها الكاتب الشهيد غسان كنفاني. هذه المجموعات تظل متفردة في تجربته كلها، إذ هو بعدها اشتبك شعريًا مع السياسة المباشرة، وكان لعمله في صفوف المقاومة الفلسطينية في لبنان حضوره الطاغي في مجموعاته الشعرية التي أصدرها بعد ذلك، والتي حملت كلها هتافًا شعريًا فيه كثير من الحدَة الواضحة.
في تجربة عزالدين المناصرة الأدبية ولع بالتنظير، فهو الى جانب عمله أستاذًا جامعيًا أكاديميًا سعى إلى تقديم مساهمات نقدية واسعة حملت بعض تصوره للشعر، وقدمت رؤاه واقتراحاته، وما يمكن أن أسميه خلاصات نظره النقدي، التي قد نتفق مع بعضها، ونختلف مع بعضها الآخر. وهي تجربة أثارت كثيرًا من اللغط الذي لم يخل من خلافات حادة مع الآخرين في مراحل متعددة، خصوصًا في تقييمه النقدي للتجربة الشعرية الفلسطينية، وخياراته المفضلة.
في التجربة الشعرية الفلسطينية، انتمى عزالدين المناصرة إلى جيل الستينيات، وكان أحد أربعة أراهم الأهم، وهم بالإضافة له، أحمد دحبور، ومحمد القيسي، ومريد البرغوثي، ويمكن أن نضيف لهم الراحل، فواز عيد، بخصوصيته اللافتة، وصوته الخافت المتفرد بين أقرانه.

درس عزالدين المناصرة في بداياته الأولى الأدب العربي، ولكنه في مرحلته الجامعية العليا درس الأدب المقارن في صوفيا ـ بلغاريا، وتخصص في "الأدب المقارن"، الذي عاد كي يدرسه لطلابه في جامعة فيلادلفيا، ومن قبلها جامعة قسنطينة في الجزائر، قبل أن تضطره ظروف الصراع الجزائري الدامي في سنوات التسعينيات إلى الرحيل. وفي الحالات كلها، عرف أستاذًا جامعيًا ناجحًا أقام علاقات متوازنة مع طلابه.