Print
راسم المدهون

في رحيل حكواتي الشام نصر الدين البحرة

1 مايو 2021
هنا/الآن



غيَّب الموت، أول أمس الخميس، الأديب السوري نصر الدين البحرة، بعد رحلة طويلة مع الكتابة القصصية والصحافية كان الراحل خلالها حاضرًا بمساهماته النقدية من خلال الصحف والمجلات والإذاعة والتلفزيون.
نصر الدين البحرة المولود في حي "مئذنة الشحم" الشعبي الدمشقي هو ابن الأديب والفيلسوف العلامة، سعيد البحرة. درس الفلسفة في جامعة دمشق، واحترف تدريس اللغة العربية في مدارس دمشق الثانوية، وواظب على العمل الصحافي محررًا أدبيًا وسياسيًا في مختلف الصحف السورية، في سنوات الخمسينيات. رحلته مع الكتابة حملت دومًا ملامح اطلاعه الواسع على الآداب العالمية التي تأثر ببعض أبرز رموزها في فن القص، خصوصًا الروسي تشيخوف، إذ قدم بدوره قصصًا اجتماعية غاصت في هموم الفئات الاجتماعية الشعبية، وعكست ما تعيشه أحياء البسطاء، وحملت كثيرًا من عادات وتقاليد تلك الفئات وأحلامها.



نصر الدين البحرة قدم مجموعات قصصية عديدة، لعل أبرزها "رمي الجمار"، و"محاكمة أجير الفرَان"، إلى جانب كتابته للدراسات السياسية التي تناولت غالبًا الشأن السوري والعربي. قصصه تذهب نحو "الحارة" الشعبية الدمشقية، بوصفها صورة للمجتمع، وبوصفها، أيضًا، حاملة التراث الإنساني لمجتمعها. وقارئ قصصه كان يقف في سطورها على قوة حضور البسطاء كأبطال لتلك القصص التي تقدم صور معاناتهم اليومية. نرى كثيرًا من هذا في قصص مجموعته المتميزة "محاكمة أجير الفرَان"، التي تدور أحداثها في خمسينيات القرن الماضي، وترسم صورًا للصراعات الاجتماعية والسياسية في دمشق في تلك المرحلة المبكرة.
هو سرد قصصي يقدم مطالعته النيرة لعوالم اجتماعية تعيش قسوة يومية في المهن والحرف التي يمارسها أفرادها بلغة قصصية فيها كثير من حرارة تعاطف الكاتب مع أبطاله، وحرصه على نقل همومهم كما أحلامهم البسيطة والعادلة.
رغم كل ما قدمه الراحل البحرة من إبداعات قصصية حميمة، لكن حضوره الأبرز والأسطع كان مساهماته الشفاهية في الإذاعة والتلفزيون، خصوصًا حين يجري الحديث عن تاريخ دمشق ـ الشام، وعادات أهلها، وموروثها الحضاري والفكري، الذي ما لبث أن توجه بكتابه الكبير والهام "دمشق الأسرار". في هذا الكتاب الموسوعة، يأخذ نصر الدين قارئه في رحلة حية إلى دمشق التاريخ والأوابد، ويستعيد معه بلاغة ما مضى وحضوره اليوم، وهي رحلة تتنقل بين التواريخ التي تستعيد هذه الواقعة، أو تلك، وبين الأماكن الأهم في المدينة، فالمكان في هذا الكتاب هو حالة ساطعة تتجاوز الحيز الجغرافي إلى حضور التاريخ فيه، وما يحمله ويجسده من أحداث، خصوصًا أن الكاتب الراحل برع في استقصائه لدلالات الأمكنة، سواء في زمانها، أو حتى في قوة حضورها في زماننا الراهن.
في سيرة الراحل نصر الدين البحرة بساطة التعبير، وهو الذي تأثر بصورة عميقة بأدب الواقعية الاشتراكية، وواكب كتابها المبدعين السوريين من أبناء جيلهم. وفي طليعتهم سعيد حورانية، وحنا مينة، وكان أحد مؤسسي "رابطة الكتاب السوريين" في خمسينيات القرن الماضي، خصوصًا أنه قرأ الأدب العالمي في صورة عميقة ترافقت مع قراءاته الواسعة في التراث الأدبي والفلسفي العربي، كما في المدارس النقدية التقليدية والحديثة.



نصر الدين البحرة الذي كرَس حياته كلها للأدب والثقافة كان، أيضًا، حاضرًا بقوة وتميز في مجالس الأدباء، إذ هو أبرز من امتلكوا سحر الحديث، وقوة الحضور، وبراعة إدارة الحوارات والجدل الهادئ والعميق خلال المجالس والسهرات، وما تميز به من علاقات ود ومحبة جمعته بالغالبية الساحقة من الكتاب والمثقفين والفنانين السوريين والعرب الذين عاشوا في دمشق خلال العقود الماضية.
برحيل نصر الدين البحرة تفقد الحياة الثقافية السورية والعربية واحدًا من فرسانها البارزين الذين منح حضورهم للثقافة نكهة ومذاقًا خاصين استمر إلى ما قبل سنوات قليلة، حين تقدم به العمر، فانزوى في بيته موهنًا، وغاب عن مجالس المثقفين وسهراتهم، بل توقف عن الكتابة في المجالات كلها.
نصر الدين البحرة علم من أعلام دمشق، يشبهها مثلما تشبهه، وهو إذ يغيب اليوم تظل ضحكته الأليفة إلى القلوب حاضرة مثلما يظل حاضرًا في البال بعمق ترحيبه ووده لأصدقائه ومعارفه، في لغة يومية تخلط الفصحى العربية بالعامية الشامية، وتبعث على الارتياح إلى الحد الذي يجعلني أسميه "حكواتي الشام" العذب والأليف.