Print
مليحة مسلماني

التهويد في القدس.. جدار الفصل كأحد تمثّلات القوة الاستعمارية

2 أغسطس 2021
هنا/الآن

 

بالإضافة إلى استناد الفكر الصهيوني إلى نظريات التفوّق العرقي، وإلى ثنائية اليهود وغير اليهود، تبرز ركيزة القوة (أو العنف) كأحد أهم الأسس التي يقوم عليها هذا الفكر، وكسياسة وممارسة "ضرورية" لتحقيق هدف "إقامة وطن قومي لليهود" في فلسطين. ولا شك أن جدار الفصل العنصري[1] أحد أبرز التمثّلات المادية لركيزة القوة تلك، فهو ذو جذور تاريخية في الفكر الصهيوني، وهو ما تتناوله هذه المادة، بالإضافة إلى تناولها موضوع "الجدار بين الأضداد في المخيلة الاستعمارية"[2].
يأتي هذا المقال في ظل الأحداث الحالية في القدس، وفي حي الشيخ جراح تحديدًا، وهي المدينة المهددة باستمرار بالتهويد الديمغرافي والديني والثقافي، وبالعزل والفصل عن محيطها الفلسطيني، شعبًا وثقافة، ويلعب الجدار دورًا رئيسًا في تحقيق تلك الأهداف، أي التهويد والعزل والفصل.



جدار جابوتنسكي الحديدي

قبة الصخرة في البلدة القديمة بالقدس كما تبدو من حي أبو ديس، خلف جدار الفصل العنصري بارتفاع 8 أمتار (9/ 1/ 2004/Getty) 


ورد مصطلح "الجدار" مبكرًا، وكفكرة ذات معنى مركب، في أدبيّات الصهيونيين الأوائل، وبالتحديد في كتابات زئيف جابوتنسكي (1880 ـ 1940)، الذي يُعدُّ أبرز من يمثل أطروحات العنف في الفكر الصهيوني. يحدد جابوتنسكي مواقفه تجاه الفلسطينيين بناءً على مبدأ "أن طرد العرب من فلسطين، بأية طريقة كانت، غير ممكن قطعًا، وسيبقى في فلسطين شعبان، على نحو دائم". ويؤكد جابوتنسكي "ليس ثمة مجال للحديث، لا في الحاضر ولا في المستقبل المنظور، عن تصالح بين عرب فلسطين وبيننا يتحقق عن طيب خاطر"، وأنه "من غير الممكن أبدًا الحصول على موافقة طوعية من عرب فلسطين على تحويل فلسطين من بلاد عربية إلى بلاد ذات أغلبية يهودية"[3]. وباستناده إلى تاريخ الاستيطان في بلدان أخرى، وإلى تاريخ الشعوب في المقاومة بهدف التحرر من الاستعمار، يتوقع جابوتنسكي مقاومة الفلسطينيين بعناد للمشروع الاستيطاني على أرضهم.
يقدم جابوتنسكي "حلوله" لمسألة وجود الفلسطينيين ومقاومتهم الحتميّ حصولها ضد المشروع الاستيطاني في بلادهم، والحل هو مواصلة الاستيطان وتطويره بحماية "قوة مدافعة مستقلة عن السكان المحليين ـ جدار حديدي لن يكون في مقدور السكان المحليين اختراقه"؛ ويقول: "لا يجوز اعتبارهم [أي الفلسطينيين] رعاعًا، بل شعب حيّ، حتى لو كان شعبًا متخلفًا"، ويرى أن هذا الشعب الحيّ سيوافق على تقديم تنازلات "عندما ينعدم الأمل، وعندما لا يظهر للعيان أي شقّ في الجدار الحديدي".




ويتوقع جابوتنسكي كذلك توجه "المعتدلين من الفلسطينيين" إلى عملية المفاوضات، إذ يقول "عندها فقط (أي عندما ينعدم الأمل) يأتي إلينا هؤلاء المعتدلون حاملين اقتراحًا للتنازلات المتبادلة، ويباشرون التفاوض معنا، باستقامة، حول قضايا عملية، مثل الضمانات لعدم الطرد من البلاد، أو حول المساواة في الحقوق، أو بشأن حكم ذاتي وطني مستقل؛ وأنا أؤمن وآمل أننا ستقدر حينها على منحهم ضمانات كهذه تهدئ من روعهم، فيستطيع الشعبان أن يعيشا جنبًا إلى جنب بسلام وبعلاقات ندّية. ولكن الطريق الوحيدة إلى مثل هذا الاتفاق هي الجدار الحديدي، أي تعزيز السيطرة على فلسطين، بحيث لا تكون معرضة لأي تأثير عربي، وأقصد السيطرة التي يحارب العرب ضدها"[4].



استراتيجية استعمارية

رسم جداري سياسي واجتماعي وكتابات على جدار الفصل العنصري الإسرائيلي في الضفة الغربية في بيت لحم في فلسطين (10/ 4/ 2014/Getty)                   


ترى العديد من الدراسات، ولا سيما الإسرائيلية، أن عقيدة "الجدار الحديدي" كانت بمثابة عقيدة استراتيجية ارتكزت إليها الحركة الصهيونية، وجميع حكومات إسرائيل، منذ عشرينيات القرن الماضي، بل عُدَّت أساسًا للعقيدة العسكرية التي لا تزال معتمدة وسائدة[5]. في كتابه "الجدار الحديدي"، يرى آفي شلايم أن الفترة بعد فشل محادثات كامب ديفيد (تموز 2000)، واندلاع الانتفاضة الثانية، وانتخاب أرييل شارون رئيسًا للحكومة حتى (عام 2006)، شهدت عودة واسعة وعميقة في إسرائيل إلى الموقف "الأصولي" أو التقليدي في كل ما يتعلق بالفلسطينيين، وأنها تتسم بالتأكيد على المنظور القومي المتطرّف والضيّق لفهم تاريخ إسرائيل[6]. ويستعرض شلايم مقالة "بعنوان "عودة إلى الجدار الحديدي" نشرتها ليمور ليفنات، قبل شهر ونيّف من تعيينها وزيرة للمعارف في آذار عام 2000؛ تقول فيها: "آن الأوان لإسرائيل أن تعيد بناء الجدار الحديدي الذي سيدفع بالعرب مرة أخرى إلى الاستنتاج أن لا التهديدات العسكرية ولا الإرهاب من شأنهما أن يضعفا عزيمة إسرائيل لصيانة حقوق الشعب اليهودي وحريته"[7].
كما يرى معظم هؤلاء الباحثين أن المقصود بتعبير "الجدار الحديدي" هو "بناء قوة عسكرية صهيونية/ إسرائيلية قوية جدًا"، ويرى البعض الآخر أن المقصود هو "جدار نفسي لا مادّي يفصل بين الغالبية اليهودية الحاكمة وبين الأقليّات غير اليهودية المحكومة". واستنادًا إلى مقالتيْ جابوتنسكي "عن الجدار الحديدي"، و"النظرية الأخلاقية للجدار الحديدي" بخاصة، وإلى طروحاته وأفكاره الواردة في أعماله الأخرى بعامة، يرى نبيه بشير أن "الجدار الحديدي": "ليس مجرد أداة لتحقيق أهداف معينة، بل هو الأداة والهدف معًا، وهنا تكمن أهميته وسرّ استمراريته حتى يومنا". ويخلص بشير إلى أن تعبير "الجدار الحديدي" عند جابوتنسكي يتشكل من أربعة مركبات أساسية هي: "أولًا، السعي إلى فرض أكثرية يهودية على ضفّتي الأردن؛ ثانيًا، التحالف مع القوى الإمبريالية العظمى لتعزيز وهن المحيط العربي عمومًا، والاستعانة بها لإنشاء دولة يهودية على كامل التراب على ضفّتي الأردن؛ ثالثًا، الإحجام عن أي محاولة للتفاوض مع المحيط العربي عمومًا، والفلسطيني خصوصًا، إلى حين ينعدم فيه أي بصيص للأمل لديهما بالتخلص من الكيان الاستيطاني الصهيوني؛ ورابعًا، بناء قوة عسكرية جبّارة لا يمكن للمحيط العربي وسكان البلاد العرب التغلب عليها"[8].




يمثّل جدار الفصل العنصري تحقيقًا عمليًا لأفكار رئيسة تضمنتها عقيدة "الجدار الحديدي"؛ من بينها بناء قوة عسكرية متينة لا يمكن اختراقها، والجدار بالفعل أحد الأشكال المادية لهذه القوة، إذ لا يمكن للفلسطينيين اختراقه إلا عبر بوّابات وحواجز تُحْكِم إسرائيل السيطرة عليها. كما أن عقيدة "الجدار الحديدي" تتضمن تعزيزَ قوةِ أكثريةٍ يهوديةٍ حاكمةٍ تمتلك السيطرة على الأرض والسكان والموارد، في مقابل إضعاف الفلسطينيين لدرجة ينعدم فيها الأمل كما خطّط جابوتنسكي، فيبدأون بالتفاوض من أجل حكم ذاتي، وهذا ما تحقّق بالفعل على أرض الواقع، إذ جاء الجدار بمثابة سجن/غيتو الهدف منه حصار الفلسطينيين وحكمَهم الذاتي داخله والسيطرة عليهم. كما ساهم جدار الفصل بشكل كبير في إضعاف الوضع الفلسطيني، تمامًا كما نادى جابوتنسكي، إذ ترك العديد من الآثار المدمّرة على الحياة الفلسطينية في مختلف المجالات، السياسية والاقتصادية والتعليمية والاجتماعية والصحية والنفسية[9].



بين الأضداد في المخيّلة الاستعمارية

       جدار يفصل بين طريقين، للفلسطينيين (يسار الطريق)، وللإسرائيليين والمستوطنين (يمين الطريق) في القدس الشرقية (10/ 1/ 2019/فرانس برس)                                             


احتوى الفكر الصهيوني منذ البدايات على تناقضات جوهرية تتعلّق برؤيته "للدولة الموعودة ـ إسرائيل" من جانب، وبرؤيته للمكان وللشعب الفلسطينيين من جانب آخر. نتج عن تلك التناقضات وجود صورتيْن رئيستين متضادّتين للمكان في فلسطين، هما: أولًا، المكان بوصفه ثكنة عسكرية، وسجنًا يؤدي وظيفة الحصار، ومادة حيّة لترجمة يوميّة عمليّة لأيديولوجيا المستعمِر، وأداة يوظّفها لنفي الوجود الفلسطيني، وتعزيز السيطرة على الفلسطينيين. وثانيًا، المكان بوصفه فضاءً لدولة على النمط الغربيّ، "ديمقراطيّة حضاريّة متطوّرة"، تهتم بـ "الإنسان، والمقدسّات، والجماليّات"، وتسعى إلى تحقيق الرّفاه لمواطنيها، وإلى جذب السيّاح، وتقديم صورة "إيجابيّة حضاريّة" عن المكان وعن إسرائيل كدولة. وممكن ملاحظة الصورتين الضدين معًا، وفي المكان ذاته، كما هي الحال في القدس، أو في حاجز قلنديا العسكري[10].



مصطلح "السياج" مقابل "الجدار"
يمثّل الجدار موضوعًا نموذجيًا لبيان الأضداد التي تتنازع صورته في المخيّلة الإسرائيلية، باعتباره، أي الجدار، عنصرًا مكانيًا، إذ يصبح اليوم جزءًا من صورة المكان في فلسطين. يبدأ هذا التضاد من التسميات، إذ يُطلق على الجدار، في الخطاب والإعلام الإسرائيليّيْن، اسم "السياج الأمني"، ويطلق عليه بالإنكليزية اسم The Security Fence. وهو اسم لا يناقض فقط معنى اسمَه "جدار الفصل العنصري" المعروف به فلسطينيًا وعربيًا، وعالميًا في بعض المواقع، وإنما الوظيفةَ التي يقوم بها الجدار أيضًا؛ فكلمة "سياج" تحيل إلى سور من الأسلاك أكثر مما تحيل إلى جدار، بل إن في استخدامها نفيًا لوجود جدار، وهي، أي كلمة "سياج"، تعني لغويًا: سور من أسلاك، أو أحجار، أو غيرهما، يحيط بمنزل، أو حديقة، أو نحوهما[11]، في حين أن كلمة "جدار" تعني "حائط"، وتعني أيضًا: "حاجز، أو فاصل، بين شيئيْن"[12].




تشير كلمة "سياج"، غالبًا، في الوعي الجمعي، إلى سور من الأسلاك، كذلك الذي تُحاط به حدائق المنازل، والمُتنزَهات، وهو سور لا يحجب الرؤية، ولا يفصل بشكل حاسم بين مكانين، وهو ليس ذا قوة متينة، وليس له حضور ذو أهمية كبيرة في المكان، يل يكاد لا يلفت الأنظار، نظرًا لخفّته، وللفراغ المتشكّل من الفتحات بين الأسلاك، ويشكّل معظم تكوينه. في المقابل، فإن كلمة "جدار" تشير إلى حجب الرؤية، والعزل، والفصل الحاسم بين مكانين، وهو بالتأكيد يتمتع بقوة أكبر من "السياج"، كونه مبنيًا من الإسمنت والحجارة.
يشير اختيار كلمة "سياج" إلى محاولة واضحة لتخفيف وقع كارثة إقامة جدار الفصل في فلسطين، ما يحيل في دوره إلى إدراك المستعمِر ما يرتكبه، بإقامته هذا الجدار، من جرائم بحق الشعب الفلسطيني، وما التسمية "السياج"، إلا محاولة لإنكار الجريمة أو، على الأقل، تغطيتها.



الوظيفة "الأمنية" مقابل العسكرية الاستعمارية

فلسطينيون يمرون من كوة في جدار الفصل العنصري الإسرائيلي في حي أبو ديس في الضفة الغربية المحتلة في فلسطين (9/ 1/ 2004/Getty)                     


أما كلمة "الأمنيّ"، التي تلي كلمة "السياج" في التسمية الإسرائيلية للجدار، فتشير إلى محاولة لترويج الجدار على أنه يؤدي "وظيفة أمنية ضرورية". في الموقع الإلكتروني التابع لوزارة الخارجية الإسرائيلية بالإنكليزية، يتم تعريف الجدار عبر تقرير عنوانه ”Saving Lives-Israel’s Security Fence”، أي "إنقاذ الأرواح ـ سياج إسرائيل الأمني"؛ فتمّ تقديم "الوظيفة" من الجدار، "إنقاذ الأرواح"، على اسمه، "السياج الأمني"، كمحاولة واضحة لترويج الجدار كفعل "أخلاقيّ" يؤدي "وظيفة سامية" هي "إنقاذ الأرواح". يتم تعزيز عملية الترويج هذه من خلال بدء التقرير بإيراد "المعلومة" التالية: "قُتل أكثر من 900 شخص في هجمات شنّها إرهابيون فلسطينيون منذ أواخر أيلول/ سبتمبر 2000"[13]، وهي "معلومة" تأتي كمبرّر إسرائيلي لما سيأتي بعد ذلك من "معلومات" حول الجدار و"أسباب ضرورية" لبنائه.
يحتوي تقرير الخارجية الإسرائيلية على كثير من تزييف الحقائق والوقائع التي تتعلق بالجدار، وبالهدف من إقامته، ما يتطلب بحثًا مستقلًا لتفنيدها ودحضها. غير أنه من المهم هنا إدراج مسألتين رئيستين وردتا في التقرير:
أولًا: "وظيفة" الجدار؛ يقول التقرير: "يدّعي الفلسطينيون بأنّ السياج الأمني أقيم بصورة متعمّدة ليقيّد حقوقهم، ولكن هذا الادّعاء لا أساس له من الصحة، ذلك أنّ إسرائيل لم تألُ جهدًا في ضمان ألاّ يشكّل السياج الأمني أقلّ مصدر تشويش وانزعاج على استمرار الحياة اليومية، مع الأخذ في الاعتبار الأوضاع الأمنية. المقصود من هذا الادّعاء اتّهام إسرائيل، وهي ضحية الإرهاب، باتّخاذ خطوة دفاعية محضة، مع تجاهل التهديد المحدق على حياة البشر الذي يشكّله الإرهاب الفلسطيني المنطلق من أراضي الضفة الغربية. فلولا الحملة الإرهابية المبيّتة التي تستهدف الإسرائيليين رجالًا ونساء وأطفالًا لكُنّا في غنى عن هذا السياج الأمني. ليس ثمة أي دافع وراء إقامة السياج الأمني سوى رغبة إسرائيل في الدفاع عن حياة الأبرياء"[14].




وعلى العكس مما يقوله التقرير، هنالك تقارير صحافية ودراسات ووقائع أثبتت وجود كثير من الآثار التدميرية للجدار على الفلسطينيين في مختلف مناحي حياتهم[15]، ومن بينها تقارير إسرائيلية[16]. أما ادّعاء إسرائيل بأن بناء الجدار هو "ضرورة أمنية" لها، فما هو إلا محاولة لترويج الجدار على أنه يؤدي "وظيفة أخلاقيّة"، وللتغطية على أهدافها الاستعمارية والتوسعية: "إن هذا الجدار لم يأت لحماية أمن دولة الاحتلال، بل ليصادر ويبتلع أكبر قدر ممكن من أراضي المواطنين الفلسطينيين، لإقامة المشاريع الاستيطانية والاحتلالية عليها، بالإضافة إلى رسم حدود الدولة الفلسطينية المستقبلية المفترَضة بطريقة أحاديّة الجانب، ومن منطلق فرض سياسة الأمر الواقع"[17].
ثانيًا: "صورة" الجدار؛ لا يرد ضمن تقرير الخارجية الإسرائيلية، سواء في النسخة العربية، أو الإنكليزية، للموقع، أي صور للجدار الإسمنتي، وهي الصور التي عُرف بها جدار الفصل في فلسطين على صعيد عالمي، ويكتفي الموقع بوضع صور لسياج من أسلاك، ويرد في التقرير: "بالرغم من نشر وسائل الإعلام الدولية صورًا عديدة تقدّم السياج على أنّه جدار إسمنتي مرتفع، إلاّ أنّ الجزء الأكبر من السياج الأمني، أي نحو 95 في المئة منه، يتكوّن من نظام الحلقات المتشابك".
وعلى أرض الواقع، لا يرى معظم سكان الضفة الغربية والقدس سياجًا من أسلاك شائكة، بل جدارًا إسمنتيًا: "صحيح أن بعض أجزاء هذا الجدار هي عبارة عن سياج مكهرب، مع طرق معبّدة وأسلاك شائكة وخنادق على الجانبين، وهذا النوع يستخدم في المناطق الريفية ذات الكثافة المنخفضة.. في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية، يبلغ ارتفاع الجدار الفاصل من 8 إلى 9 أمتار، وهو عبارة عن جدار من الخرسانة، ويبلغ طوله 79 كيلومترًا، ويشمل المراكز السكانية الرئيسة، مثل القدس، وبيت لحم، وكذلك في قلقيلية، وطولكرم، وقلقيلية على وجه الخصوص تكاد تكون محاطة تمامًا بالجدار الخرسانيّ الثعبانيّ ليعزل المدينة.."[18].
ما هو جدير بالذكر في هذا السياق اختلاف شكل الجدار كليًا عندما يمر عبر مناطق إسرائيلية، أو عندما يطلّ على شوارع رئيسة يستخدمها الإسرائيليون، كما في شارع رقم (1)، أحد الشوارع الرئيسة في مدينة القدس، حيث يلحظ الناظر سورًا هو أشبه بأسوار المنازل والحدائق، لدرجة تشكّكه فعلًا بأن ما يراه هو جزء من جدار الفصل العنصري، الراسخة صورته في الوعي الجمعي الفلسطيني، كحائط شاهق الارتفاع ذي لون أحاديّ إسمنتيّ رماديّ. فعلى العكس من ذلك، وحين يمر الجدار في مناطق إسرائيلية، أو حين يطلّ على شوارع إسرائيلية رئيسة، يقصر ارتفاعه إلى حوالي النصف تقريبًا نسبة إلى ارتفاع الجدار في مناطق القدس الشرقية والضفة الغربية، أما لونه فلا يعود أحاديًا رماديًا، بل يصبح على شكل أحجار بألوان مختلفة تقترب من ألوان الحجر الطبيعي والتراب (مائل إلى الصفرة وبني).




التضادّ في شكل الجدار بين مناطق فلسطينية، وأخرى في القدس مرئيّة من قبل الإسرائيليين، ومن قبل السيّاح الذين تبقى القدس بؤرة جذب لهم، هو صورة عن الأضداد المتنازِعة في المخيلة الإسرائيلية حول صورة المكان. فهاتان الصورتان المتضادتان للجدار تبرزان المفارقة بين الكيفية التي تقدم بها إسرائيل الجدارَ للإسرائيليين وللعالم: سياج قصير مقبولةٌ هيئتُه التي تقترب من طبيعة المكان، والكيفية التي تقدم بها الجدار ذاته، وعلى أرض الواقع، إلى الفلسطينيين: جدار إسمنتي رماديّ عسكري فاصل، أشبه بسورٍ مرتفع لسجن كبير يُحاصر داخله الفلسطينيون.
أخيرًا، يؤدّي الجدارُ عمليًا وظيفةَ ترجمةِ التصوّرات الإسرائيلية حول "الآخر ـ الفلسطيني"، الرّامية إلى عزله وفصله وإنهاكه بالحصار؛ وهو ترجمةٌ لمبدأ إنكار المستعمِر للوجود الفلسطيني. بمعنى آخر، الجدار هو انعكاسٌ، في المكان وعلى أرض الواقع، لصورة الفلسطيني داخل المخيلة الإسرائيلية، "كآخر" معزول في سجن، لا حقّ له في الوجود، وفي حياة عادية.



هوامش:

(1) بدأت حكومة الاحتلال ببناء جدر الفصل العنصري بتاريخ 23/6/2002، كجزء من خطة أرييل شارون للاستيلاء على مزيد من الأراضي الفلسطينية، وطرد سكانها. للمزيد حول الجدار، ينظر: أحمد مصطفى جابر، "تقرير: أساطير وحقائق عن جدار الفصل العنصريّ"، بوابة الهدف الإخبارية، 10/11/2018، http://bit.ly/2HsqE1z
(2) هذه المادة مستخلصة من بحث للكاتبة بعنوان "صورة المكان بين الأضداد في المخيلة الإسرائيلية: القدس نموذجًا"، قُدمت إلى مؤتمر "القدس: تحديات الواقع وإمكانات المواجهة"، والذي نظّمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بالتعاون مع مؤسسة الدراسات الفلسطينية والجامعة الأردنية، في عمّان في الفترة ما بين 15 ـ 17 حزيران/ يونيو 2019.
(3) زئيف جابوتنسكي، "عن الجدار الحديدي"، ترجمة نبيل الصالح، قضايا إسرائيلية، العددان 37 ـ 38 (آب/ أغسطس 2010)، ص 31 ـ 32.
(4) المرجع نفسه، ص 34 ـ 35.
(5) من بين من يرون أن عقيدة "الجدار الحديدي" لا تزال معتمدة في إسرائيل شموئيل كاتس، أحد أعضاء عصابة الإتسل، ومن قيادات حزب حيروت، ونائب في الكنيست الأول. يتفق معه في ذلك العديد من الباحثين، مثل آفي شلايم، وإيان لوستيك، والقيادات الصهيونية، والمنظّرون العسكريون، مثل ليمور ليفنات، وبنيامين نتنياهو، وإسحق بن يسرائيل. انظر: نبيه بشير: "قراءة جديدة لعقيدة الجدار الحديدي"، قضايا إسرائيلية، العدد 69 (نيسان/ أبريل 2018)، ص 40.
(6) Avi Shlaim, The Iron Wall: Israel and the Arab World, 2nd Updated and Expanded Edition, (New York and London: W.W Norton & Company, 2014), p. xviii.
(7) المرجع نفسه، ص xix – xviii.
(8) بشير، ص 42 ـ 43.
(9) حول آثار الجدار، انظر: محمد خضر قرش (أدار الندوة وحررها)، "آثار الجدار العنصري على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في القدس"، شؤون فلسطينية، ندوة العدد، العدد 256 (ربيع 2014)، ص 100 ـ 121.
(10) للمزيد يُنظر: مليحة مسلماني، "تطبيع حاجز قلنديا العسكري: موسيقى وترحيب"، ضفة ثالثة، 03/07/2019، https://bit.ly/3Bthqfs
(11) أحمد مختار عمر، معجم اللغة العربية المعاصرة، المجلد الأول، ط 1 (القاهرة: عالم الكتب، 2008)، ص 1145.
(12) المرجع نفسه، ص 350.
(13) يُنظر موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية بالإنكليزية:
“Saving Lives-Israel’s Security Fence”, Israel Ministry of Foreign Affairs, 26/11/2003, in: http://bit.ly/2QbF34N
(14) يُنظر موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية بالعربية:
"السياج الأمني الفاصل ــ أجوبة على أسئلة كثيرًا ما تُطرح"، وزارة الخارجية الإسرائيلية، http://bit.ly/2w57hVJ
(15) حول آثار الجدار يُنظر: محمد خضر قرش (أدار الندوة وحررها)، "آثار الجدار العنصري على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في القدس"، شؤون فلسطينية، ندوة العدد، العدد 256 (ربيع 2014)، ص 100 ـ 121.
وهناك وثائق ودراسات عديدة حول الجدار في ملف خاص على موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية، يُنظر: "عشر سنوات على جدار الفصل"، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، https://bit.ly/3x4wn3X
(16) يُنظر: "جدار الفصل"، مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة (بتسيلم)، 11/ 11/2017،
https://www.btselem.org/arabic/separation_barrier
(17) أحمد مصطفى جابر، "تقرير: أساطير وحقائق عن جدار الفصل العنصريّ"، بوابة الهدف الإخبارية، 10/11/2018، http://bit.ly/2HsqE1z
(18) المرجع نفسه.