Print
صدام الزيدي

في رحيل عبد العزيز المقالح: "وطني هو الكلمات"

29 نوفمبر 2022
هنا/الآن

غيّب الموت، يوم الاثنين (28 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022)، في مدينة صنعاء، الشاعر والناقد والأستاذ الجامعيّ اليمني عبد العزيز المقالح (عن عمر يناهز 85 عامًا)، تاركًا وراءه موجة حزن كبيرة تملكت أصدقاءه ومحبيه وتلامذته ومرتاديه، ليس في اليمن وحدها، بل من المحيط إلى الخليج، عندما امتلأت منصات التواصل الاجتماعي بعبارات الرثاء ومنشورات الوداع في محبة مبدع عربي استثنائيٍّ هو واحد من نجوم الشعر العربي المعاصر واسم لافت في مضمار الحداثة العربية.

أصدر المقالح كتابه الشعري الأول "لا بد من صنعاء، 1971"، تبعه ديوان مشترك مع السفير عبده عثمان حمل عنوان "مأرب يتكلم، 1972"، وتوالت الدواوين: "رسالة إلى سيف بن ذي يزن، 1973"؛ "هوامش يمانية على تغريبة ابن زريق البغدادي، 1974"؛ "عودة وضاح اليمن، 1976"؛ "الكتابة بسيف الثائر علي بن الفضل، 1978"؛ "الخروج من دوائر الساعة السليمانيّة، 1981"؛ "أوراق الجسد العائد من الموت، 1986"؛ "أبجدية الروح، 1998"؛ "كتاب صنعاء، 1999"؛ "كتاب القرية، 2000"؛ "كتاب الأصدقاء، 2002"؛ "كتاب بلقيس وقصائد لمياه الأحزان، 2004"؛ "كتاب المدن، 2005"؛ "بالقرب من حدائق طاغور، 2018"؛ بينما صدرت مؤخرًا في الأردن مجموعة "مختارات شعرية للمقالح" جمعها الشاعر يحيى الحمادي وقدم لها الكاتب والروائي همدان دماج، وترك المقالح مخطوطات غير مطبوعة من أهمها "كتاب الحرب". إلى ذلك، أثرى المقالح المكتبة الأدبية والنقدية بنحو 20 كتابًا في النقد والدراسات الأدبية.

وعاشت اليمن يومًا حزينًا سيمتد أثره طويلًا عندما طغت منشورات "فيسبوك" يوم الاثنين على ما سواها في وداع حزين عمّدته صور المقالح بلون الغياب في لحظة مشحونة ببؤس الحرب الممتدة لعقد مرير من الزمن، وهي الفترة ذاتها التي شكا فيها المقالح من انزلاق غضروفيّ في عموده الفقري جعله طريح الفراش في بيته زاهدًا عن عروض كثيرة رسمية وغير رسمية تقترح انتقاله للعلاج خارج اليمن التي مكث فيها (صنعاء تحديدًا) أكثر سنوات عمره بعد أن عاد من دراسته العليا في مصر، إلى درجة أن شائعة طالته تفيد بأنه يخاف السفر وركوب الطائرة. ولم تكن شائعة خوف المقالح من السفر على الطائرة (التي لم يكلف نفسه نفيها أو إثباتها) هي الوحيدة، فالرجل الذي عرف بدماثة أخلاقه ورقيّ تعامله مع من حوله بات عرضة لشائعات في السنوات الأخيرة كثير منها اِدّعت وفاته وأخرى تمادت في نشر قصائد في صحف محلية نسبت إليه في ذروة اندلاع ثورة الشباب السلمية في اليمن (فبراير/ شباط 2011) ضد بعض رموز الصراع حينها وهو بريء منها... ليظل المقالح الثائر الذي نشر في 2011 قصيدته الثورية التي يقول فيها "إن لم تتغيّر/ تتعفن".

لم يكن المقالح بعيدًا عن هموم وطنه سواء في اللحظات الأولى لإعلان بيان الثورة اليمنية (26 سبتمبر/ أيلول 1962) وما قبل تلك الفترة العصيبة من انعتاقات اليمنيين، حيث كان أحد الذين تلوا بيان الثورة من مايكروفون إذاعة صنعاء، ليستمر قريبًا من هموم شعبه اليمني والعربي حتى وفاته. وللأجيال الشعرية والأدبية في اليمن حكاية مع المقالح الذي كان أبًا روحيًا للجميع وكم هي الكتب التي رأت النور لكتاب ومؤلفين يمنيين وعرب استهلت بتقديمه ونصحه وتشجيعه فضلًا عن منابر نشر وصفحات ثقافية أدارها ومنتدى أسبوعي التأم في بيته طيلة عقود.

وكرّس المقالح، في سياق كتاباته الدورية في الصحافة اليمنية والعربية، حيزًا من كتاباته لقضية فلسطين ومناهضة المشروع الغربيّ الرامي إلى تقسيم وتشتيت الجغرافيا العربية.




"
الحداثة المتوازنة"..

في تصريح خاص لـ"ضفة ثالثة" يقول الناقد والشاعر العراقي حاتم الصكر (الذي أقام في اليمن لسنوات واقترب من شعرائه ومثقفيه) إنه عندما يذُكر الدكتور عبد العزيز المقالح، يتبادر إلى الذهن فورًا دوره التحديثي في الشعرية العربية وليس اليمنية فحسب، وهذا عائد إلى ما كان يرافق كتاباته الشعرية من تنظيرٍ نقديٍّ متوازن، حتى أن الشاعر السوري الراحل إبراهيم الجرادي عندما جمع كتابًا ضمّ شهاداتٍ لمعاصريه وأصدقائه وزملائه من الأقطار العربية، أعطاه عنوانًا دالًا: "المقالح.. الحداثة المتوازنة"، هذه الحداثة التي لا تذهب كثيرًا في التبني اللامسؤول للنظرية دون عمادٍ تطبيقيّ أو دون تكييفٍ منهجيّ، وكذلك التأصيل الذي تميز به هو أنه كان يمتح ويأخذ كثيرًا من التراث سواءً من الرمز اليمني ودلالاته أو من الرمز والأسطورة العربيين، لكون المقالح في المقام الأول مثقفًا عربيًا، هذا ليس فقط كون منهجه الدراسي عربيًا حيث درس في القاهرة وأطلّ من هناك على مجلة "الآداب" البيروتية ومنابر النشر في العراق والشام وما سواها من الأقطار العربية التي كانت مراكزًا للنشر والإشعاع، وإنما لكونه يؤمن بوحدة الثقافة العربية أساسًا، ولأنه يعد كل رموز وأساطير المنطقة هي رموزه الشخصية.

لذلك، يتميز المقالح، وفقًا للصكر، بتبنيه رموزًا خاصةً به، وكثيرًا ما عمد إلى مزجها بالمُعاصَرة، وهذا واضح حتى في كثيرٍ من عناوين دواوينه الشعرية.

أما في الحقل الدراسي والمنهجي، فيُذكر المقالح مع الهبّة المنهجية في الدراسات والثقافة العربية نحو النصوص ونحو تبنّيها، فقد كان ناقدًا نصيًا في المقام الأول، يهتم نعم بما حول النصوص، لكنه كان يغضّ الجهد في التعريف بالمنهج نفسه، وهو من النقاد العابرين للأجناس الأدبية، حيث كان يمتد نشاطه في التعريف بالرواية ونقدها ونقد النقد أيضًا، التي تتصدر البحوث والدراسات النقدية.

ويتابع الصكر: المقالح يصُبّ انسانيته أيضًا في ما يكتب، فهو لا يهجو وإن كان يعارض أفكارًا كثيرة ويناقشها، لكنه لم يُعرف عنه الكتابة بقسوة وبمُضمر أو بحقد مكتوم كما قد يحصل في بعض الكتابات لبعض معاصريه، لكنه كان في المقام الأول ينشد إنسانيةً في الأدب وإنسانية الإنسان. وأعتقد أن إرثه العام الذي تركه خير دليل على ذلك، وهذا ما يمنح كاتبًا مثل المقالح وشاعرًا مثله الخلود والبقاء في الذاكرة.

قلبٌ اتسع للجميع..

وكان الصكر نعى في صفحته على "فيسبوك" صديقه المقالح قائلًا: "هكذا تستيقظ على خبر رحيل عبد العزيز المقالح.. تتقطر أعوام صنعاء الستة عشر، وما قبلها. جواره وقربه حتى في أعوام الاغتراب الأخيرة... فكما تهب عاصفة فجأةً، يأتي الموت في الريح والكلمات، مختبئًا كصياد.. فرائسه في بريّة أحلامها وآلامها.. وبراءة قلوبها ومحبتها... هو ذلك الصيرفي الذي يختار جياد الجواهر، كما لخّص شاعر قديم".                                             

ويستعيد الصكر تفاصيل من تواصله بالمقالح برغم المسافة الشاسعة بين اليمن وأميركا: صوته عبر الهاتف بالهدوء ذاته والحميمية واللهفة التي تعرف... الصديق والزميل والمعلم والمبدع.. في مجلسه الأسبوعي وفي لقاءاته اليومية. تلك البساطة التي تبهر مَن يعرفه أو يلتقيه.. قلب متسع للجميع.. محبة نادرة في زمن صعب اللحظات والوقائع..

وبنبرة حزن يتابع الصكر: المقالح أول شاعر أقرأ له ديوانًا كاملًا عن أصدقائه.. درسٌ في الوفاء والتواضع.. قيم تتلخص في سيرته، وقلَّ أن يُجمع الناس على مثله.. الكلمات لا تفيه حقه، ولا تحمل ثقل الحزن الذي اخترق القلب.. صار للموت طقس نعيشه ونعبره، ويعيش معنا. لكن فقْد المقالح مما لا يحتمله قلب وهو في وهن دائم... ستفتقدك شمس صنعاء وهي تطلع صباح غد، فلا ترى وجهك الذي أحبّ تراب مدينته وناسها، واستوعب قلبه كل تلك الطيبة والمحبة.. سيكون ظلام شاسع بدونك، وسنفتقد معك الكثير مما كنت تمنح الصداقة بإنسانيتك المتأصلة... لكن لنا في ما تركت من كلمات وأفعال ما يؤنس وحشتنا قليلًا، ويجعل وجودك بيننا دائمًا.




خصوصيّة يمنية

الناقد والأكاديمي اليمني عبد الحميد الحسامي، الذي أنجز عدة دراسات تناولت قصيدة المقالح في سياق مقارباته للشعر اليمني المعاصر، قال لـ"ضفة ثالثة" إنه حين يغادرنا عبد العزيز المقالح شاعرًا وناقدًا ورئيس جامعةٍ (ترأسَ المقالح جامعة صنعاء لعدة سنوات) وإنسانًا، فإننا نقف عند زاويةٍ مهمةٍ من زوايا شخصيته وهي الزاوية الإبداعية. وينوه الحسامي في هذا السياق أن المقالح تمكن من الانتقال إلى الحداثة العربية "من بدايته الكلاسيكية إلى هذا العالم القلِق" بما له وما عليه، وأصبح يمثل علامة مهمة من علامات الحداثة الشعرية في الوطن العربي: "كثيرًا ما يتداخل المقالح ويتخارج مع شعراء الحداثة العرب مثل أدونيس والسياب وأمل دنقل وصلاح عبد الصبور والبياتي، ومن خلالهم، ومن خلال نصوصهم، ومن خلال خصوصية تجربته، ينتزع مواقفه الشعرية ويقدم قصيدةً مقالحيّةً غالبًا ما تنتمي للخصوصية اليمنية وتتبلور في أفقٍ يمنيٍّ تاريخًا وواقعًا".

ويستدرك الحسامي: لا نستطيع أن نعزل المقالح عن حركة الفعل والتفاعل مع حداثة الشعر العربي، فهو يتحمس لهذا المسار الشعري ويحاول أن يُثريه من جانبين، الجانب الأول التجربة الإبداعية المواكبة للحداثة العربية من دواوينه الأولى إلى دواوين الكتابة، "ديوان القرية"؛ "ديوان الأصدقاء"؛ "ديوان المدينة"؛ ديوان "أبجدية الروح"، إلى غير ذلك. هذه الدواوين، يضيف الحسامي، هي ترجمة للحركة الشعرية من جهة، وللحركة النقدية من جهة أخرى، ولم يلبث المقالح أن توّج مساره الحداثي بدعواته النقدية في كتاباته التي تدعو إلى تأسيس الحساسية العربية الجديدة في الشعر من ناحية، وأيضًا ما قام به من ندوات وملتقيات في هذا السياق، ومن جهة أخرى (ثالثة)، حاول أن يستقطب رموز الحداثة العربية للتدريس في جامعة صنعاء وللحضور في فعاليات الجامعة المختلفة من ندوات ومؤتمرات وملتقيات علمية ونقدية، وقبل هذا وذاك، اِستقطب المقالح بإنسانيته وتواضعه لفيفًا من الشعراء من أجيال متعاقبة فكانوا كالمريدين حوله يقتبسون من تجربته ويتمثلون مساره الحداثيّ. ونستطيع أن نقول إن عبد العزيز المقالح شاعر متجدد برؤيته وفي أدواته الفنية، وهو شاعر ينتمي إلى الإنسان وينتمي إلى الوطن وينتمي إلى المستقبل. أما قصيدة المقالح فهي قصيدة متفاعلة مع الحياة ومع الشعر، قديمه وحديثه، "قصيدة متمازجة مع الماضي، متفاعلة مع الحاضر، منتمية للمستقبل".

وينوه الحسامي بأن إبداع المقالح "كان ترجمةً لحياته في مساراتها المختلفة"، و"لكن المسار الذي لم يتغير هو محاولته الدائمة لأن يكون قريبًا من الإنسان وقريبًا من الوطن".

أما عناوين الدواوين في تجربة المقالح، فهي، وفقًا للحسامي، "عناوين غير مباشرة لحركة التحديث العربي"، ولا نستطيع أن نعزل هذه التجربة عن التجربة الحداثية العربية، ولكننا أيضًا نستطيع أن نستمتع بنكهة شعرية يمنية: فيها من الخصوصية اليمنية قدر كبير، وفيها من تواضع الأسلوب الذي لا يقلّ تواضعًا عن صاحبه.. أليس الأسلوب هو الإنسان كما يقال؟

50 عامًا من العطاء الابداعيّ

من جهته، يرى الشاعر والناقد اليمني علوان الجيلاني أن المقالح تاريخ من الإبداع والحضور الثقافي والأدبي: "ملأ الدنيا وشغل الناس منذ سنة 1970 وحتى لحظة رحيله".

ويتحدث الجيلاني لـ"ضفة ثالثة"، عن أكثر من 50 عامًا من الحضور القويّ الممتلئ للمقالح؛ (15) ديوانًا وأكثر من (20) كتابًا في النقد والكتابة الثقافية والفكرية والدراسات الأدبية، وعضوية وتأسيس كثير من المؤسسات اليمنية والعربية، ورئاسة جامعة صنعاء، ومستشار رئيس الجمهورية، لافتًا إلى استثمار المقالح لنفوذه وقوة حضوره ومكانته في الوسط الأكاديمي والأدبي وفي أوساط مسؤولة عند الدولة، لدعوة أدباء وكتاب ومثقفين من أنحاء العالم إلى اليمن، محققًا من خلال ذلك حضورًا واسعًا لليمن.

وعدّ الجيلاني المقالح بوابة كبرى لليمن: خدم الثقافة اليمنية والمشهد الثقافي اليمني وحقق إنجازات كثيرة، وكان مثالًا للدأب والمثابرة والإنجاز المتواصل الذي لا يكلّ ولا يملّ. كما أنه كان قدوة لجيلنا ولأجيال سبقتنا وأجيال ستلي.

ويعتقد الجيلاني أن المقالح سيظلّ علامة كبرى من علامات اليمن، وهو، بدون شك، واحد من عظماء اليمن الكبار الذين يندرُ أن يجود الزمان بمثلهم، مبينًا أن الحظ حالفه لقراءة المقالح مبكرًا: كان له حضور في حياتنا منذ طفولتي، بسبب علاقة جدي وأبي بوالده، الشيخ صالح المقالح، قرأته ربما بشكل شبه كامل، وأذكر أني كنت شديد التعلق به في أيام الابتدائية والإعدادية. كان مقيله (منتدى أسبوعي) أهمّ وأكثر مقايل اليمن تأثيرًا على الإطلاق، كان مجتمعًا أدبيًا بكامله يضمه ذاك المقيل، ومن داخل المقيل ومثاقفاته خرجت كتابات كثيرة وخرجت كتب، وتأثرًا به تربّى عشرات الكتاب والمبدعين من جيلنا ومن غير جيلنا.

غير بعيد، يقول الشاعر والكاتب المسرحي العراقي المقيم في عُمان، عبد الرزاق الربيعي (متذكرًا يومياته في اليمن): لم أحزن على رحيل المقالح، بل حزنت لأنه رحل ولم ير اليمن وقد عادت سعيدة.. يقينًا أنه رحل وفي فمه مرارة، كان ضحية من ضحايا الحرب، أليس هو القائل:

(دثّريني

وشدّي على كفني

واكتبي فوق قبري:

هنا واحد من ضحايا الحروب التي عافها

ثم قال لقادتها قبل أن يبدأوها:

الحروب إذا دخلت قرية أكلت أهلها الطيبين).

*****

أنا هالكٌ حتمًا

فما الداعي إلى تأجيل

موتي

جسدي يشيخُ

ومثله لغتي وصوتي

ذهبَ الذين أحبهم

وفقدتُ أسئلتي

ووقتي

أنا سائرٌ وسط القبورِ

أفرُّ من صمتي

لصمتي.

 

*****

أنا ليس لي وطنٌ

أفاخر باسمهِ

وأقول حين أراه:

فليحيا الوطنْ.

وطني هو الكلماتُ

والذكرى

وبعضٌ من مرارات الشجنْ

باعوه للمستثمرين وللصوص

وللحروبِ

ومشت على أشلائهِ

زمرُ المناصب والمذاهب

والفتن.

*****

صنعاء..

يا بيتًا قديمًا

ساكنًا في الروح

يا تاريخنا المجروح

والمرسوم في وجه النوافذ

والحجارة

أخشى عليك من القريب

ودونما سببٍ

أخاف عليك منكِ

ومن صراعات الإمارةْ.

(من قصيدة حديثة للمقالح عنوانها "أعلنتُ اليأس!")