Print
ضفة ثالثة ـ خاص

الرواية العربيّة.. إلى أين؟

26 فبراير 2022
هنا/الآن

يُعدُّ فنّ الرواية، اليوم، أحد أبرز الفنون في الساحة الثقافيّة، والجنس الإبداعي الأقرب إلى القارئ، مع تراجع الاهتمام بباقي الفنون الإبداعيّة، من شِعر، أو قصّة، وغيرهما، عدا عن كثرة الجوائز التي ترعى هذا الفن دونًا عن غيره من الفنون، ماديًّا ومعنويًا، وعلى طول الجغرافيا العربيّة.
فماذا يَنتظر الرواية العربيّة؟ ما الذي يخبّئه الغد لهذا الجنس الأدبي الأكثر تداولًا، في أيامنا هذه، حتى رأوا فيه لا "ديوان العرب" فحسب، بل "مالئ الدنيا وشاغل الناس" أيضًا؟
حول مستقبل الرواية العربية، وكذلك عن أبرز المعوّقات والتحديات التي تواجهها، يتحدث لنا مجموعة من الكتّاب والروائيين العرب من خلال الاستطلاع التالي.

(عماد الدين موسى)



يوسف نبيل (مصر):
لدينا أسماء مهمة..

يوسف نبيل 





بصورة عامة، أظن أن الرواية العربية تعايش عصرًا مزدهرًا نسبيًا. لدينا الآن أسماء كبيرة ومهمة في البلدان العربية، وهم يمثلون اتجاهات مختلفة تمامًا تتجلى فيها النواحي الفردية والأسلوبية المختلفة، فلم تعد هنالك أيدولوجيات ضخمة، أو كبيرة، تشمل تحتها فنونًا أدبية دعائية. أقول كل هذا بدرجة نسبية، وليست مطلقة بالطبع. بالإضافة إلى ذلك، لعبت وسائل التواصل الإلكترونية دورًا رائعًا في تعريف القراء على مؤلفين من بلدان مختلفة، والتفاعل معهم ومع إبداعاتهم بصورة مباشرة.
بالرغم من كثرة عدد الروايات الجيدة، وكثرة الأسماء المهمة في عالم الأدب، إلا أن ذلك يتزامن مع مشكلات أخرى عديدة، منها انخفاض نسبة القراءة بصورة عامة في أغلب البلدان العربية. أعداد المطبوعات والطبعات العربية هزيلة جدًا مقارنة بها في بعض دول أوروبا مثلًا. بالإضافة إلى ذلك، تعاني صناعة النشر بصورة عامة بسبب مشكلات اقتصادية وسياسية مختلفة تؤثر على نسبة المقروئية بصورة مباشرة، بالإضافة إلى مشكلات تتعلق بالقوانين، مثل مشكلة تزوير الكتب. في مصر الآن تضخمت عملية تزوير الكتب، حتى صارت الكتب المزورة تُصدَّر إلى بعض البلدان العربية في ظل غياب لقوانين رادعة وإرادة لعلاج الإشكالية.
يعلم الجميع أن الكاتب العربي لا يمكنه أن يرتزق من كتابته في أغلب الأحوال، ومن هنا ظهرت أهمية الجوائز للكتَّاب. هم في حاجة ماسة بالطبع إلى القيمة المادية، كما أن الجوائز صارت وسيلة أساسية لتسليط الضوء على أعمال مختلفة. يختلف الأمر بالطبع من جائزة لجائزة، كما أن الأمور تتغيّر من عام لعام، ومن ثم تُصاب الجوائز العربية عمومًا بكل إشكاليات البلدان العربية المعروفة، حيث نجد في بعض دوراتها قرارات غير مبررة وأعمالًا دون المستوى، لكن بلا شك نجد العكس في أعوام أخرى. صنعت الجوائز حراكًا واضحًا ـ شئنا أم أبينا ـ ورغم كل عيوبها نشطّت عملية النشر بصورة واضحة، ووفّرت لبعض المبدعين مبالغ مالية هم في حاجة إليها، وتقديرًا معنويًا هم في أمس الحاجة إليه.
منذ أعوام وسوق الكتاب المترجم في ازدهار، والأمر يتبدل كل فترة، ففي بعض الفترات تزدهر الكتب المؤلفة، ثم يحدث بعض الركود إثر حالة من التشبع، وينشط سوق الكتاب المترجم، وقد يقل هذا النشاط في فترات قادمة. لكن هنالك تأثيرات واضحة لا شك فيها لازدهار حركة الترجمة نسبيًا (فعدد الترجمات هزيل بصورة عامة، لكننا نصف الحركة بالازدهار لازدياده بصورة واضحة جدًا في الأعوام الأخيرة). التأثير الأول السلبي هو تسلل لغة المترجمات بصورة واضحة إلى بعض الكتّاب. نجد كثيرًا من الكتّاب يستخدمون الآن لغة ركيكة أحيانًا، وهي متأثرة بالتراكيب الترجمية التي يلجأ إليها المترجمون أحيانًا. التأثير الثاني إيجابي من حيث إتاحة الفرصة للمؤلفين العرب لأن يطلعوا على عدد أكبر من الإنتاج الأجنبي في مجال الأدب والفكر والفلسفة؛ الأمر الذي يثريهم فكريًا، ويفتح لهم آفاقًا أرحب. التأثير الثالث هو وجود بعض المنافسة بين نشر الترجمات والمؤلفات العربية، حيث مالت بعض دور النشر إلى الاقتصار على نشر الكتب المترجمة فقط، الأمر الذي صعَّب المهمة على المؤلفين، وهنا لعبت الجوائز دورًا هامًا في تشجيع بعض الدور على نشر المؤلفات مع الاتفاق مع المؤلفين على تقاضي نسبة من أي جائزة في حالة فوز المؤلف.



العربي رمضاني (ليبيا):
الكتابةُ نفي للسلطة

العربي رمضاني 





قبل الحديث عن مستقبل الرواية العربية، علينا أن نتوقف عند حاضرها، هل حقًا ما يكتب رواية، وهل الجوائز تكريس ومجاملة للسائد من الروايات العربية، أم أنها مضمار آخر تتنافس فيه دور النشر لضمان هامش ربح؟ 
الرواية العربية منذ فوز نجيب محفوظ بنوبل للآدب شهدت حركية لافتة، صارت الميدان الأكثر جذبًا للكتاب في المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج، وأفرزت أسماء معروفة لها حضور طاغ في المشهد الثقافي العربي، وأهم ما عزّز هذا الفضاء ظهور جوائز أدبية من قبيل جائزة نجيب محفوظ، جائزة الطيب صالح، البوكر، الشيخ زايد، وكتارا، وغيرها.
يرتبط هذا الازدهار المتنامي بشكل مضطرد مع انتعاش الرواية والإقبال عليها ممن يمتهنون الكتابة، لكن السؤال اللافت من يحدد قيمة وفرادة النص الروائي، هل دار النشر، أم اسم الكاتب، أم جودة النص؟!
بكل حيادية، ومن خلال متابعة ما يصدر من روايات، هنالك فوضى كبيرة في النشر ساهمت الجوائز في تعزيزها، كونها صارت الدافع الأبرز للكتابة من أجل الظفر بمبلغ كبير من المال، مع ضمان الترويج والترجمة. وهذا عمليًا حق مشروع لكاتب في أغلب الأحوال، فبسبب رداءة الوضع المعيشي لا يتوفر الكاتب على استقلال مادي يسهل تفرغه للكتابة والإبداع. لكن هل وصول عمل ما إلى القوائم القصيرة والطويلة لجائزة أدبية دليل على جودته، وهل هنالك معايير شفافة في وصول الروايات إلى تلك المراحل؟ الواقع الثقافي العربي كما هو معروف غارق في المحاباة والمجاملة والشلليّات، وهذا الداء ينسحب على الكتابة برمتها.
اعترف قبل سنوات كاتب بدور مجموعة من أصدقائه كانوا ضمن لجان جائزة عربية معروفة في ترشيحه، ثم فرضه في القائمة القصيرة، إلى غاية تفويزه.
هذا أنصع دليل على ما يُطبخ في دهاليز تلك الجوائز، وحجم انعكاسه الخطر على الأعمال الجادة والمتميزة، وهي لعبة أطرافها بعض دور النشر والكُتاب ووزارات الثقافة في البلدان التي تحتضن هذه الجوائز. الأرقام المُرشحة سنويًا للحصول على جائزة أدبية تبدو للوهلة الأولى كمؤشر صحي على انتعاش الحياة الثقافية، لكن حين تكون مقتصرة فقط على جنس الرواية من دون بقية الأجناس التي لا تختلف في قيمتها عن الرواية، علينا أن نتساءل عن هذا الإقبال المهول غير الخاضع لآلية نقدية صارمة تحترم الكلمة والقراء وقيمة الكتابة.
قبل مجيء الوباء الحالي وتأثيره المميت على عالم النشر والكتابة عربيًا وعالميًا، لم يتغير شيء في واقع النشر، عربيًا على الأقل، كونه يعاني من تراجع مستمر منذ فترة طويلة.
الكتاب يزدهر فقط في فترات المعارض السنوية للكتاب. ومع تردي الأوضاع الاقتصادية والأمنية في عديد بلدان المنطقة، صار الكتاب والنشر ترفًا بعيد المنال. ومع أنظمة أمر واقع سلطوية تحتقر الثقافة ومرعوبة من الكلمة الحرة البعيدة عن الخطاب الرسمي، الكتابة تخضع لأكثر من مطب، وحتى في البلدان التي تحتضن الجوائز، هنالك خطوط حمر لا يمكن تجاوزها. 
الكتابة عمومًا نفي لكل سلطة، على رأي محمد بنيس، وما دامت كذلك أتصور أن السرد العربي، بعيدًا عن الأعمال المحصورة في الجوائز الأدبية، يتوفر على إسهامات جيدة تستحق الإشادة، رغم الواقع المُظلم للمنطقة، من تراجع للحريات، وتصاعد الخطاب الأصولي، وضُعف المقروئية، وظروف النشر الصعبة. والأمر ينسحب على الترجمة أيضًا، التي تبقى خجولة، وتقتصر غالبًا على الأعمال الأدبية المحصورة في حملة جوائز نوبل، والمان بوكر. واللافت إصرار بعض دور النشر على إعادة ترجمة أعمال تُرجمت سابقًا من دون التفكير بجدية بعيدًا عن الأرباح في التوجه نحو قارات ثقافية أخرى تتجاوز المركزية الغربية والانفتاح مثلًا على الأدب الأفريقي والآسيوي واليوناني، وغيرها من الآداب الكونية التي لا تختلف في أهميتها عن الأدب الأنغلوفوني، والفرانكفوني، واللاتيني.



عبد الهادي سعدون (العراق):
رواية العقود الأخيرة

عبدالهادي سعدون 




الرواية العربية اليوم لا يمكن تجاوزها بسهولة من دون الإشارة لها في النقد العربي، أو حتى التصنيف العالمي، من دراسة وترجمة ونشر. ولعل لرواية العقود الأخيرة الحصة الأكبر، لتعدد أسمائها، ولكثرة نتاجهم وتنوعه وتوزعه على جغرافيات ومناخات مختلفة. لم يعد الأدب العربي بعد دخولنا الألفية الثالثة، وما مرت وتمر به البلدان العربية من أحداث جسيمة، أقول لم نعد ديوانًا شعريًا فقط، أو أن يتم الإشارة لثقلنا الشعري في المنطقة وخارجها، بل يمكننا الحديث عن أكثر من اسم روائي، وأكثر من رواية توضع في المقام الأول في النتاج العربي والعالمي. لن نكون منصفين بالمرة لو تنبهنا للكم الكبير وخطره على النتاج الجيد، لأن الكتاب الحقيقي هو الذي يظل في ذهنية النقد الأدبي والقراء على حد سواء. وهي تجربة لن يقال عنها سوى إنها متوازية ومتقاربة مع نتاج الرواية الغربية، لا تفصلها عنها بشيء غير التجربة الخاصة الأخرى، والأرض الأخرى، والذائقة المكتسبة.
في هذا أنا متأكد من أن الرواية العربية قد وطدت لنفسها المكانة، وركزت ثقلها السردي منذ زمن، ولا يحتاج بعده سوى التجريب والمغامرة والكتابة المستمرة لخلق أجيال بعد أخرى في خارطة الأدب العربي، لو لاحظنا أنه لم يعد هنالك بلد عربي بعيد عن هذه الظاهرة، بل إن كانت حصرًا على بلدان بعدد أصابع اليد. الرواية اليوم هي ديوان العرب، ولم تعد حقلًا لمجموعة، بل لآلاف الروائيين والكتاب العرب. شيوع الظاهرة، وتهافت دور النشر على نشر النتاج الروائي، وكذلك بروز جوائز عربية للرواية مادية ومعنوية كبيرة، أصبحت من أهم إمدادات توسع الظاهرة السردية، وبالتالي أيضًا وصولها إلى نطاق كبير من القراء، ليس في العالم العربي وحسب، بل وتتلقفها دور النشر العالمية. هذه الأخيرة بدأت تنتبه فعلًا لأهمية الرواية العربية وتجديديتها، وبدأوا ينتبهون لجيل كتاب مهم عبر كتبهم الروائية يقدمون نموذجًا أدبيًا رفيعًا، ويشكلون عبرها ظاهرة لفهم عوالمنا بتناقضاتها واختلافاتها وتفردها أيضًا.
هذه النقاط السابقة بدورها شجعت، وما تزال، دور النشر العربية للمسك بخيوط الترجمة من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية. هذه الخيوط المتشابكة بنقاط وتصورات عديدة مهمة لفهم العملية ككل، إضافة للتعطش الكبير للاطلاع على ما يدور بعيدًا عنا، ولأهمية التواصل المستمر مع نقاط العالم المتناثرة عبر نشر الجديد والمتنوع والمختلف والمتفرد في لغات العالم وثقافاته وأنماط تفكيره وكتاباته. أعتقد أن العملية كلها مرتبطة الواحدة بالأخرى ارتباطًا مهمًا ورئيسيًا، بل أجزم أنها متشابكة ومندمجة بشكل أخطر وأوسع مما نتصوره ونتخيله للوهلة الأولى. كلنا في سكة سير واحدة، لا بد من رؤية أحدنا للآخر، ومعرفة أحدًا آخر. إذا كانت الحياة تتطلب ذلك، فالقراءة والنتاج الفكري والترجمة والتواصل الثقافي الحلقة الأهم فيها كلها.



مها حسن (سورية):
اللوحة غير المُرضية للكتابة

مها حسن 




قد يبدو المشهد الروائي للوهلة الأولى محبِطًا، حيث الجميع يتّهم الجميع بالتقصير في أداء دوره، وبالتالي المساهمة في تشكيل اللوحة غير المُرضية للكتابة العربية.
ككاتبة، أعاني، مثل باقي الكتّاب في المنطقة من مشكلة توزيع كتبي ووصولها إلى القراء، الأمر الذي أدى إلى قرصنة كثير من هذه الكتب. أما دور النشر، التي نراها مقصّرة في التزاماتها المادية والمعنوية تجاه الكتاب، فهي تتّهم القراء بأنهم إما لا يقرأون، أو يُقرصنون الكتب..
القراء من جهتهم، يعتقدون، وهذا لدى شريحة كبيرة منهم، أن الكاتب الغربي متفوق على العربي، لذلك لا يتحمسون سريعًا لقراءة النص العربي، إلا إذا كان صاحبه من الأسماء المكرّسة، وهذا التكريس هو لبّ المشكلة، التي تحمل بذرة الإساءة للرواية العربية، حيث يأتي السؤال حاضرًا دائمًا: ماذا ومن يساهم في تكريس الكاتب العربي؟
هذا يقودنا بالضرورة إلى الإعلام من جهة، والجوائز من جهة أخرى.
الإعلام العربي في اعتقادي هو أحد أهم منابع إفساد الذائقة الأدبية، وانصراف الجمهور عن القراءة من طرف، وتوجيهه، فيما لو تم التحدث عن القراءة، صوب نوع هابط من الكتب، لتغدو ظاهرة "البيست سيلر" صادمة في الكتابة العربية: نصوص تقليدية من حيث البناء والشكل والتكنيك، وهابطة من حيث المضمون الفكري والإبداعي..
قلّما سمعنا عن كاتب يصل إلى لوائح البيست سيلر، وقد أضاف إلى الكتابة. بل هو غالبًا يدغدغ مشاعر العامّة، بطريقة بعيدة عن الإبداع، مكرّسًا صورة الأدب السطحي..
احتفاء الإعلام بهذا النوع من الأدب لا يفسد فقط ذائقة القراء، بل يخلق توجهات خاطئة في الكتابة، لدى الأجيال الجديدة، التي تتبع بوصلة الشهرة، وتعتقد أن النص المهم والناجح هو النص الذي يشغل المشهد الإعلامي.
لطالما، من تجربتي الشخصية، صدمتني اعترافات شبّان وشابات يفكرون بالكتابة، حالمين بأسماء ليست ذات قيمة إبداعية، فقط لأنهم مشاهير.. من هنا، تغدو وصفة الشهرة مرعبة، ويتحول الهوس بالشهرة إلى دافع أساسي للكتابة، بدلًا من هوس الإبداع الذي يريد صاحبه أن يقول شيئًا خاصًا به..
من جهتها، ساهمت الجوائز العربية في إفساد ذائقة القارئ، وإفساد الكتابة عبر لوائح موضوعات، صار الكتاب المكرسون والجدد معًا يتّبعونها وهم يكتبون لاهثين خلف الجوائز..
رغم النوايا النبيلة للمؤسسات المانحة للجوائز، ولكن هذه الجهات لا تجيد اختيار طواقم عملها، إذ تسيطر عليها، عدا بعض الاستثناءات، قواعد بيروقراطية لا تتعلق بالإبداع. هنالك اعتقادات خاطئة مثلًا في اختيار لجان التحكيم، وهنالك مجموعة قواعد داخلية تتبعها لجان التحكيم لا تمت للفعل الإبداعي بصلة، وهذه تفرّعات يصعب التحدث عنها في عجالة.
ولكن... ينبغي وضع (لكن) في نهاية الكلام، كي لا يبدو المشهد شديد القتامة، بل ثمة ضوء مهم ينبثق من مصادر عدة: الكاتب الجاد ذو المشروع الشخصي، رغم الإحباطات حوله ـ القارئ الجاد، النهم لاكتشاف كتابة جديدة، وهذا النوع الذي ساعدت وسائل التواصل ومنتديات القراءة، وغيرها من المجموعات المؤسسة عبر شبكة الإنترنت، على إيجاده ومنحه حرية التعبير، تكبر دائرته مع الأيام، وستكبر أكثر، وهنالك لجان التحكيم أيضًا، التي تحدث بعض المصادفات، ليكون ثمة مبدع في اللجنة يستطيع الدفاع عن نص مختلف، ليقدم نموذجًا مبتكرًا عن الكتابة، وأخيرًا النقد، أو الإعلام الثقافي الناضج، الذي بدأت بعض نماذجه تظهر، من خلال "إعطاء الخبز لخبازه"، بمعنى إفساح المجال للنقّاد الحقيقيين والجادين، بدلًا من نجوم الإعلام الذين لا يقرأون، وليست لديهم القدرة على تمييز واكتشاف الكتابة الحقة.



محمد جعفر (الجزائر):
هل نملك رواية عربية؟

محمد جعفر 




أعتقد أن نجاح أي عمل أدبي مرهون بمدى قدرته على الاستبصار والرؤية داخل المجتمع الذي ولد فيه. والعالم العربي يعيش في السنوات الأخيرة حركية غير مسبوقة على كافة مناحي الحياة، اجتماعية وسياسية وثقافية وسوسيولوجية. ومن هنا، وجب أن نتساءل هل نملك واقعًا ثقافيًا وروائيًا مواكبًا باعتبار الرواية أهم راصد لهذه التحولات؟ وهل هو كاف في بيئة لا تقرأ، ويكاد التلقي فيها يكون شبه معدوم؟ ثم ماذا عن العناصر الأخرى المرتبطة بصناعة الكتاب، والتي تشكل دعامته الأساسية ورافدًا له، من نشر، وتوزيع، ونقد وإعلام؟ ثم ما هو المأمول، وما الذي تحقق في عالم الكتابة والرواية، على وجه التخصيص، وما الذي لم يتحقق؟
كذلك أتساءل، هل نملك رواية عربية كظاهرة، على غرار رواية أميركا الجنوبية، أو الرواية اليابانية، أو رواية الأدب الإفريقي؟ هل حصل فعلًا أن حرثنا أراضي جديدة لم يسبقنا إليها أحد، أم لا نزال نكتفي باجترار ما سبقتنا إليه آداب الدول الأخرى؟ ثم ماذا عن التأثر والتأثير، والخلاصة تقول إنك إذا لم تبدع جديدًا غدوت مجرد تابع؟ وأي اختراق قد تحقق لكتابنا في البيئة الأجنبية، وبما يعني عالمية أدبهم وما يكتبون، ونحن نكتشف أن الفائز بنوبل للآداب بالكاد هو مقروء في البلاد الأخرى، ولعل الوحيد الذي أصاب النجاح من الكتاب العرب هو علاء الأسواني، أو هذا ما تقوله معدلات القراءة ونسبها، فأين يذهب من تبقى ممن تُرجم لهم، وليس لهم أي صيت أو تأثير، أم هل يكون ذلك مرهونًا باللغة التي يكتبون بها، فتكون العربية عاجزة، فيما تملك الفرنسية والإنكليزية كل المقدرات، ولهذا ينجح على سبيل المثال أمين معلوف، وكمال داود، وبوعلام صنصال؟
كذلك ماذا قدمت الجوائز، والمحلية منها كما عندنا في الجزائر غير قادرة على تسويق الكاتب كظاهرة يجب الالتفاف حولها، والعربية منها لا تستطيع تحقيق تميزه في المحافل الدولية؟ جوائز وإن حققت الانتشار لكثيرين في حدود، وقدمت ما أمكنها من دعم مادي، إلا أنها قلصت من مساحة المناورة التي كان يمتلكها الكُتاب في السابق، وضيقت الأفق من ناحية التجديد، لتكاد تنحصر العلامة الكاملة في الأساليب الكلاسيكية والرواية التقليدية، كما أنها أعدمت كل السبل السابقة، لتفتح سبيلًا واحدًا هو المضمار الذي يتحدد وفق معطياتها منذ البدء كثيمات جاهزة، وفيه يتسابق كل المتسابقين. وماذا عن النقد أيضًا، نقد في مجمله لا يقرأ ولا يواكب، منغلق على نفسه ولا يحفز، ولا يكاد يتشكل إلا من آليات شكلية في الغالب الأعم، أصحابه هم أنفسهم الذين يشكلون الشريحة العظمى في لجان التحكيم، ولا عجب في أنك تجد نفسك بعد كل تمحيص منهم أمام أعمال لا تستحق القراءة، فإذا استحقتها، فلا يمكن الوقوف أمامها طويلًا، فيما لا نجد صيتًا لأعمال هي فعلًا يمكنها أن تتصدر، فتغمر من دون ضجة، ومن دون إثارة شيء.
كذلك، هل سوق صناعة الكتاب بخير؟ ويمكن لغير العارف بأن يقول إنها كذلك، مستدلًا على الأمر بالعناوين الكثيرة التي تسحب، ومغاليًا في تفاؤله، غير مدرك، أو منتبه، أن هذا الازدهار الذي يُتخيل له، إنما هو يقوم بدور التعمية على ما هو جيد، كما أنه يرهن سوق القراءة لما يقدم أعمالًا تفتقد لأبسط مقومات النجاح والجودة، هكذا يعاف القارئ كل ما هو محلي، ولا يقبل إلا على ما هو أجنبي كعلامة لها مصداقيتها. وأمام هذه الحالات كلها، ألا نكون نعيش في عالم من الزيف، أو على الأقل في عالم من الوهم حين يدعي الجميع أننا نعيش عصر الرواية بامتياز، ثم لا رواية هناك!



محمد سعيد احجيوج (المغرب):
الرواية العربية تتطوّر..

محمد سعيد احجيوج 




هل الرواية العربية بخير؟ على أي أساس يمكننا مقاربة السؤال والتقييم بموضوعية؟ من جهة الكم، يمكن التوقع بدرجة قريبة من الدقة أن مجموع الروايات العربية التي تصدر كل سنة هو حوالي ألف رواية. قد يبدو الرقم كبيرًا جدًا، وقد يبدو الرقم صغيرًا جدًا، حسب زاوية النظر، هل هي قياس الجودة، أم المقارنة مع عدد الإصدارات حول العالم. إذًا، من حيث الكم يمكن القول إن الرواية العربية بخير، ومستقبلها منفتح على احتمالات أفضل. هنالك حركية في النشر، وإنتاج متواصل. لكن ماذا عن الجودة؟ سنكون حمقى إذا افترضنا أن تلك الألف يجب أن تكون فوق المتوسط. هذا غير ممكن، حتى بالمقارنة مع دول أخرى، من دون أن ننسى بطبيعة الحال الوضع العام للثقافة العربية، للمجتمع العربي برمته، المتخلف في غير ما جهة.
لكن من مجموع ما يصدر يمكن إفراز خمسين رواية، أو أكثر، مستواها جيد. ويمكن أن نجد من بينها عشرة على الأقل يمكن وصفها بالتميز. هذا طبيعي، وهكذا كان الوضع منذ سنوات، وسيبقى كذلك. إذاً، من منطلق الأحكام النسبية، وفق الحالة الثقافية العامة، الرواية العربية بخير، وهي تتطور بشكل مستقر. يمكن دائمًا إيجاد نماذج فردية متميزة جدًا على امتداد العالم العربي. المشكلة لدينا في ضعف قنوات التوزيع، وفي تواضع صناعة النشر نفسها.
أمام ضعف المقروئية، التي من أسبابها مشاكل التوزيع، وضعف صناعة النشر، لا يملك الكاتب أن يتفرغ للكتابة لتكون مصدر رزقه، وهو لذلك يطمح/ يطمع في الجوائز الدسمة التي يمكن أن تحسن نمط حياته بضع سنوات، أو الترجمات إلى اللغات الأخرى، خاصة الإنكليزية، بأمل أن الترجمة يمكن أن تأتي له بعقد مريح ماديًا. لكن هذا غير صحيح.
الجوائز، بطبيعتها، مزاجية نزقة تحكمها عوامل مختلفة، منها الداخلي في ما يخص توجهات الممولين، والخارجي في ما يخص ذائقة وتوجهات المحكمين. لا تنجح الجوائز دائمًا في تكريم الجودة، وهي لذلك، من حيث قصدت أو لا، تزكي الوضع القائم بكل قبحه أكثر مما تخلق مسارًا إبداعيًا أفضل لنقل الثقافة عمومًا، والكاتب خاصة، إلى مستوى أرقى.
وأما الترجمة، التربح من الترجمة، فهو وهم ليس إلا، إلا في حالات نادرة. الناشر الغربي لا يهتم بالأدب العربي إلا من زاوية استشراقية ضيقة. قليلة هي دور النشر الكبيرة التي تهتم بالرواية العربية، وأغلب الترجمات الإنكليزية للروايات العربية تصدر عن دور نشر صغيرة، تعتمد على إعانات الدولة (بريطانيا خاصة)، أو أقسام النشر في الجامعات، وفي الحالتين معًا لا تأتي تلك العقود بالعائد المادي الذي كان يحلم به الكاتب.
لكن الترجمة في الاتجاه الآخر، إلى العربية، نشطة. هنالك اهتمام من القراء، وتسابق من الناشرين. الأمر في العموم محكوم بالجودة، وهم الجودة لو شئنا الدقة. يعتقد القارئ أن المترجَم أفضل من العربي (بل وصلنا إلى درجة تقديس بعض المترجمين، وصار يكفي وجود اسم أحدهم على الغلاف لنقل الكتاب إلى مصاف الأعمال العظيمة)، لكن الحقيقة غير ذلك. الغث في الترجمات كثير، وحتى الأعمال العالمية التي فرضت نفسها منذ عقود تجد الناشرين يتهافتون على إسنادها إلى مترجمين هواة لإصدار ترجمات جديدة مليئة بالكوارث.
قليلة هي الأعمال المتميزة، ويصعب العثور عليها. لكن من منطلق ما هو كائن، من منطلق الوضع العربي العام، الرواية العربية بخير. أما من جهة المشتهى، ما نتمناه، ما نحلم به، الرواية العربية في مجملها تعيش في الحضيض (سواء من جهة المواضيع المكررة، أو من جهة الأساليب الفنية المتواضعة)، كما هي الثقافة العربية برمتها. الرواية العربية إلى أين؟ إلى لا مكان. لا أمل في تطورها أكثر، ما دام التميز هو جهد فردي محدود العدد.
قد يبدو التناقض صارخًا بين الفقرة الأولى والأخيرة، أعلاه، لكنَّ الرأيين معًا هما وجهان للعملة نفسها. لدينا وضع قائم يمكن النظر إليه من منطلق ليس بالإمكان أفضل مما كان، وهذه رؤية الجمهور، أو من منطلق السعي لنكون أفضل، وهذه رؤية الرواد، الذين سيبقون دومًا أفرادًا خارج زمنهم، لا ينالون قيد حياتهم أدنى اعتراف.



فجر يعقوب (فلسطين):
ضعف الخطاب العربي

فجر يعقوب 




مستقبل الرواية العربية خاضع لما يحدث من حولها من تطورات تقنية وتكنولوجية غير مشاركين فيها، وبالتالي لا يمكن مناقشته من خارج صيرورة هذا الطوفان الإشهاري غير المسبوق في عالم المولتي- ميديا. أعتقد أن معاناة الرواية العربية في الانتشار لا تخفى على أحد، وهي تزيد وتتوسع بسبب من ضعف الخطاب العربي عمومًا الموجه للآخر الذي لم يعد بدوره يبحث سوى عن الصورة التي تدغدغ غرائزه البدائية التي "تنظَّف" منها تاريخيًا، حتى بدا أن قطيعة "أزلية" مع العالم تشكلت لتحمي علاقات "إشكالية" تضمر فيها الأطراف جميعًا نوعًا من العداء المستميت لبعضها البعض، بدلًا من البحث عن سبل للتفاهم والتواصل بغية المحافظة على تعددية النوع الإنساني من الانقراض، بما يعنيه ذلك من تفاهمات ثقافية وأنثروبولوجية.
حتى الجوائز التي تُمنح للرواية العربية لا تمهد الطريق لها نحو العالمية، فالقطيعة مع الآخر أخذت منحى خطرًا، وصار لزامًا تجديد الخطاب العقلاني الذي قد يعيد تعبيد الطريق من أوله، وإلا فإن نسبة انصياع المغلوبين أمام دهاء وقوة الغالبين سوف تدفع نحو مزيد من تقعير الخطاب الروائي بغية دفع الآخر إلى الغرق في مستنقعات هذه الغرائز البدائية التي تتجلى في كل ما ينقصه من صور وتطلعات ومرايا.
ومن المؤكد أن النشر في عالمنا ليس بخير، فالروائي الذي يلهث وراء طباعة أعماله يغرق بدوره في عالم اسفنجي يمتص جهوده وحقوقه ويدفعه لـ"الاستمتاع" ـ مجازًا ـ بتفاصيل مميتة كان ممكنًا لـ"وكيل أعماله"، إن وجد في عالم ألف ليلة وليلة، أو للمؤسسات، ان وجدت بدورها، أن تعنى بحقوقه كمؤلف في اختيار دار النشر والناشر، ووقت الكتابة، وإجراء اللقاءات الأدبية المدفوعة الثمن، بحيث يتفرغ للكتابة الإبداعية دون سواها، فيما تقوم الجهات الداعمة له بالترويج له على مختلف الصعد.
ويبدو لي أن الرواية الغربية المترجمة تملك تأثيرًا أكبر في العقل العربي من الرواية العربية نفسها، وتزخر مواقع التواصل الاجتماعي بسرديات وشذرات تؤكد هذا التأثير، حتى دور النشر العربية التي "تحتل" قسمًا كبيرًا من هذه المواقع تدفع من باب تجاري بحت إلى وسم شذراتها وتغريداتها بأسماء غربية بعضها غير معروف لنا على الاطلاق، مع ميل شديد نحو تسويق هذه الأسماء بتصديرات مختلفة، ولا يبدو حتى اللحظة أن الروائي العربي ـ مع الأسف ـ قد استوعب نوع المعركة التي تدور من حوله. وحتى لا نظلمه كثيرًا، فإن بعض وجوه هذه المعركة له بعد كوني، فنحن مع الأسف لا نعرف نوع المستقبل الذي ينتظرنا، أو حتى ينتظر الرواية العربية.
كان المخرج الفرنسي رينيه كلير، صاحب "تحت سقوف باريس"، يحلم بأن يشاهد الأفلام على شاشة بحجم السماء، ولكننا بتنا نشاهدها على "تيك توك" بأقل من بضعة سنتيمترات، ومع ذلك ما زلنا نشهق من الإعجاب حين نعيد على مسامعنا من الضجر سرد هذه الشذرة الغريبة.