"رمضان في المدينة" هو عنوان اللافتة الكبيرة التي انتظمت تحتها سهرات ليالي رمضان في فضاء مدينة الثقافة الشاذلي القليبي في قلب تونس العاصمة.
انطلقت البرمجة التي أشرفت على إعدادها وزارة الثقافة بإدارة المدير العام لمسرح الأوبرا ومدينة الثقافة مُحَمَّد الهادي الجويني، من إقامة شهر التراث، حيث ارتدت بناية مدينة الثقافة الفخمة حلّة فائقة الجمال من خلال تغليف أعمدتها بقطع من النسيج التقليدي التونسي بألوانه الزاهية التي تشرح نفس الناظر. أمّا أرضها فقد بسطت بتلك المفارش الملوّنة بنقوشها البربرية، بينما احتل المقهى مكانة مميزة في بهو المدينة الفسيح بديكوره المرتكز بالأساس على هذه الأنسجة التقليدية التي غُلّفت بها الكراسي على اختلاف أشكالها وطعّمت بها قطع الديكور مثل المرايا والتحف القديمة، أما التراث في الأكل فقد تجسّد في تلك الحلويات التقليدية التي يعرضها المقهى في سهراته الرمضانية. بقية الاختصاصات التي بدأت حيواتها انطلاقًا من التراث، مثل اللباس والحليّ والأواني، وغيرها، خصّصت لها أماكن عرض زادت المدينة رونقًا وسحرًا بعد أن ختمتها بطابع هوّيتها التونسية الصرفة.
في هذا الإطار المكاني الجميل، تتالت سهرات "رمضان في المدينة"، مثل سهرة تكريم الفنان الراحل وديع الصافي، بمناسبة مرور مئة عام على ولادته، وحفل المطربة ليلي حجيج التي اشتهرت بأدائها للموشحات والطرب الأصيل، والعرض الصوفي "المدحة"، وحفل للفنان زياد غرسة الذي اشتهر بغنائه التونسي الصميم، الي جانب عرض الحضرة الشهير، وعرض "ربوخ"، والعديد من عروض الباليه، ومعارض الخط العربي.
برمجة ثقافية فنية حافلة ومفيدة مثّل خلالها عرض المطرب لطفي بوشناق لؤلؤة فريدة. ففي مسرح الأوبرا الفخم الفسيح الذي يتسع لقرابة ألفي شخص تزاحم عدد من المتفرّجين عند الأبواب والممرّات بعد أن انتهت حجوزات المقاعد وتابعوا العرض وقوفًا. وبتجليات دينية وبعض الوصلات في الإنشاد والتغني بالصلاة والسلام على رسول الله كانت انطلاقة الحفل خاشعة ولائقة بسهرة في الشهر الكريم.
في الجزء الثاني من الحفل، راح بوشناق يردّدُ أغانيه الخاصة الجديدة منها والقديمة التي يحفظها الجمهور، فردّدها معه، وأحيانًا غناها لوحده، وهي كلّها أغانٍ تونسية بلهجتنا العامية التي كتب أغلبها بصور شعرية جميلة وشفافة الشاعران آدم فتحي، وعلي الورتاني، مثل "هاذي غناية ليكم"، و"سينما"، و"انت شمسي انت"، و"شفتك ما نعرف وين"، و"يا للا وينك"، و.. و..
ولو بقي بوشناق يغني حتى الصباح فإنّه لن يغني إلاّ من إنتاجه الخاص، ذلك أنّه يكاد يكون الفنان الوحيد في تونس الذي ينتج أغاني بمثل تلك الكثافة والجودة، فهو محب، بل عاشق للشعر العربي القديم والحديث، ويحفظ منه الكثير، وهو أيضًا فنان مثقف ومطلٌع ومتابع جيّد لمستجدات الحياة السياسية والثقافية في تونس والبلاد العربية، بل إنّ كل ذلك شكّل الخلفية المعرفية التي جعلت إنتاجه الفنّي يكون بمثابة مشروع فنّي تنويري يدعو فيه إلى العمل والكدّ لبناء أساسات الحياة الكريمة التي تستحق أن يعشقها ويغنّي لها.
بوشناق صالح الشباب التونسي مع الأغنية التونسية الأصيلة بجمالية كلماتها وألحانها بإيقاعاتها التونسية التي يتلاعب بها بين أغنية وأخرى، كما يتلاعب الساحر بأوراق اللعب، ما جعل هذا الشباب الذي يتزاحم على أبواب المسارح للاستمتاع لا بصوته فقط بل بالموسيقى ذات الإيقاعات التونسية التي تحرّض على الرقص، فيندمج سحر الصوت مع سحر الشعر، مع سحر الإيقاع، لتُخطف روح المتلقي إلى ملكوت الحلم والتحليق في سماء الفرح. نعم، ذلك هو مفعول الطرب الجميل الصافي.
نجح بوشناق في أن يكون في هذه المرتبة العالية من عشق الجماهير له مع التقدير بعد مسيرة طويلة، شاقة ومضنية من العمل المستمرّ، الذي لم ينقطع قطّ، من خلال البحث في الشعر، وفي الموسيقى، لمواكبة التطور في هذا المجال مع المحافظة على أصالته. ولعّل رغبته الشديدة في العمل بلا هوادة هي التي جعلته ينشئ استوديو خاصًا للعمل ولتسجيل أغانيه في ظروف يحدّدها بنفسه.
بوشناق منذ انطلاقته كان جادًا في مشروعه الفنّي، فعمل عليه ليلًا نهارًا، حتى بلغ هذه المرتبة من النجاح الفني الكبير، سواء على المستوى التونسي المحلي، أو العربي، ذلك أنّ بوشناق مؤمن بالعروبة حتى النخاع.
انتهى عرض بوشناق الغنائي الممتع والمنعش للروح والجميع يرقص خفيفًا، وغادر وهو يحمل مخلفات طعم لذيذ، وجملة جميلة من آخر أغنية غناها تقول كلماتها ما معناه: "عندما رأيت خيالك بدون تردد قلبي قفز من بين ضلوعي وذهب إليك...".