Print
مالمو- ندى الأزهري

من أجواء مهرجان عربي للسينما بمالمو.. "الأستاذ" و"الغريب" والغربة

12 مايو 2022
هنا/الآن

 

تتدافع الصور والأفكار حين البدء بالكتابة عن مهرجان مالمو للسينما العربية في السويد. هل الحدود هي الأنسب؟ فحين الوصول من بلد أوروبي إلى آخر، يبحث المواطن المعتاد على قهر الحدود، العربية منها على وجه الخصوص والسورية- اللبنانية بوجه أكثر خصوصية، دون جدوى، عن مركز التدقيق في الجوازات. يجد نفسه فجأة أمام لوحة الخروج من المطار فيشعر بشيء من الارتباك، ماذا فعل كي لا يبرز جواز سفره، إحساس بأن الحدود "داشرة"، لا حسيب ولا رقيب، هذا ما يربكه لا سيما وأن المستقبلين الموفدين من المهرجان هم عرب، ومعظمهم "سوري فلسطيني" كما يعرّفون أنفسهم. شبابٌ متحمسون يجهدون في تأمين راحة الضيوف القادمين من معظم الدول العربية ليجتمعوا على أرض اسكندنافية، يجتمعون يوميًا، وإن اشتكى بعض من تجمعات أكثر تماسكًا قائمة على الهوية، إنما يمكن القول إن المثل المصري القائل "ايه لمّ الشامي ع المغربي؟ "لا ينطبق هنا تمامًا.

مهرجان مالمو، كما قال مديره ومؤسسه محمد قبلاوي، احتفل بدورة العودة هذا العام مع دورة متميزة بعد سنتي كورونا، ومع وجود هذا العدد الكبير والمتزايد من المدعوين. المهرجان، في نسخته الثانية عشرة (4-9 أيار/ مايو)، هو ليس الوحيد أوروبيًا ولكنه بالتأكيد الأنجح والأكبر إن قسنا شهرته بالآخرين. فهذه لا تأتي من لا شيء. لعل هذا عائد إلى نشاط وجهود المؤسس والمدير، وإلى الدعم الكبير المعنوي والمادي الذي تقدمه المدينة والمقاطعة للمهرجان. هذا بدا جليًّا من البداية، ومن خلال إقامة حفل الافتتاح في مبنى بلدية مالمو التاريخي بحضور عمدة المدينة التي أعلنت سعادتها لتطور المهرجان الواضح. كان قبلاوي الوحيد الذي يلقي خطبه الرسمية بالسويدية ثم بالعربية، فاللغة الإنكليزية كانت سائدة. الخطب كانت موجزة وهذا دليل المهرجان الناجح، فأمام المدعوين حفل عشاء ثم فيلم الافتتاح وبعد ربع ساعة من الكلام الرسمي يبيتون في واد آخر.  

من الأفلام المشاركة في المهرجان



توضّحت الصبغة العربية للمهرجان مع قرابة مائتي مدعو معظمهم من العرب، كما النجوم الذين مرّوا على السجادة الحمراء. وافْتُقد قليلًا الحضور السويدي سواء في الافتتاح أم في قاعات السينما أم حتى في لجان الاستقبال. في بعض المهرجانات الدولية يُسمّى أحيانًا عضو محليّ من البلد في لجان التحكيم أو في لجان الاستقبال المرافقة للضيوف (مسؤول لجنة التحكيم مثلًا، السائقون...) أو تشارك مطاعم محليّة في الرعاية تسمح بالتعرف على ثقافة البلد الغذائية مثلًا، أو تعرض موسيقاه في حفلاته، كل ما يمكن أن يتيح التقرب من أجواء المكان وثقافته. هذا مهمٌّ للقادم من البلاد العربية خاصة، التواصل مع أهل البلد المضيف والتبادل بين ثقافة عربية وثقافة سويدية ولو على نحو بسيط. افتقدت إذًا بعض الشيء هذه اللمسة السويدية لتظاهرة عربية في السويد، قد تكون تواجدت أكثر في ما يخصّ منصة أيام مالمو لصناعة السينما التي تسعى لدعم الإنتاج المشترك بين العالم العربي ودول الشمال ومدّ جسور تواصل بين صناع السينما في الجهتين. وعلى أي حال فهذا الذي يبغي التواصل العربي وبهجته، بعيدًا عن الخلافات السياسية، حصل على مبتغاه.

خلال حفل الاستقبال والعشاء في القاعة العريقة برسوماتها وتصميمها المعماري، لم تكن الأحاديث الشخصية تعارفية فقط، هناك من تكلم بإحباط عن وضع الإنتاج في السينما العربية. في حديث مع مخرج عربي، بدا سعيدًا حقًا بتواجده في هذه "اللمة الحلوة"، حسب وصفه، مع أنها لم تمنع شعورًا بالمرارة حتى لا نقول تثبيط همم من وضْعِ المخرجين العرب الذين عليهم بعد كل سنوات التجربة والخبرة البدء من جديد في مواجهة إداريين في صناعة السينما، وصلوا إلى مراكزهم ليس بالكفاءة ولكن ببيع الكلام المعسول، هؤلاء الدخلاء على المهنة، ولكنهم أصحاب القرار وهم "يتحكمون ليس فقط بالمشروع بل بحياتك كلها"، وهذا حيث يصدّق المسؤول نفسه وأنه يفهم في مجال السينما، والأدهى أنه "حين يوزع منحًا فكأنه يوزعها من جيبه الخاص". انتقد المخرج الذي نجح فيلمه الأول في العروض الخارجية بعد منعه في بلده، العلاقات والشللية التي تسود أجواء الصناعة السينمائية العربية لتصبح تلك جزءًا أهم وأكبر من المشروع نفسه.

إبراهيم العريس يوقّع كتابه "إنغمار برغمان، عالمه، حياته وأعماله" 


ما أثار شجون المخرج العربي وذكّره بما يعاني من صعوبات في بلده لتمويل فيلمه القادم، هو أيام الصناعة السينمائية في مالمو، حيث يخصص المهرجان منحًا لتطوير المشاريع السينمائية العربية وقد اختار 21 مشروعًا تمثّل 19 دولة لتتنافس في أربع فئات: تطوير الأفلام القصيرة، تطوير الأفلام الروائية الطويلة، تطوير الأفلام الوثائقية، ومنح ما بعد الإنتاج للأفلام الروائية والوثائقية.

ساد المهرجان توازن في اختياراته بين السينما المصرية وسينما بقية البلدان العربية. فافتُتح بفيلم عربي واختُتم بفيلم مصري. وإن تفوقت أفلام المسابقة في مستواها على الفيلمين، فقد كان الاستمتاع كبيرًا مع فيلم الافتتاح الأردني "بنات عبد الرحمن" لمخرجه زيد أبو حمدان، وبطولة صبا مبارك وفرح بسيسو. المتعة جاءت على الأخصّ من الجمهور العربي بأسلوبه في التفاعل مع الفيلم والتعليقات للبعض وكأنه جمهور توقّف به الزمن عند الماضي، أيام وجود قاعات السينما والذهاب إليها وعاد اليوم من جديد إليها، بفضل المهرجان، ليتابع المشاهدة على طريقته. فكانت تعليقات من نوع "هالفيلم كله نسوان"، بعد مرور دقائق طويلة بالتعريف بالشخصيات النسائية وعدم ظهور رجل في الساحة، أو تصفيق مشجع وحارّ عند تمرّد امرأة بعد خضوع وإغلاق باب في وجه زوج أو قيادتها السيارة بسرعة جنونية. ومع ضجيج القاعة بالتصفيق والتشجيع كان يسود جوّ من الحبور والمرح على فيلم تعاني فيه النساء.

من الأفلام المشاركة في المهرجان



"أبو صدام" لنادين خان، الفائز بطله محمد ممدوح بجائزة أفضل ممثل، و"سعاد" لأيتن أمين، هما الفيلمان المصريان الوحيدان في مسابقة الأفلام العربية الطويلة في مهرجان للسينما العربية. بقية البلدان العربية قادمة بقوة مع فيلم من الجزائر: "صولا" لصلاح إسعاد الذي حاز على جائزة أفضل فيلم عربي في المسابقة وجائزة التمثيل لممثلته صولا بحري، وفيلمين من الأردن مع "فرحة" لدارين سلّام الذي فاز بجائزة لجنة التحكيم، و"الحارة" لباسل غندور الذي حصل على تنويه خاص من اللجنة ولكن أيضا على جائزة الجمهور، وفيلمين من تونس مع "أطياف" لمهدي هميلي الذي حاز على جائزة أفضل مخرج، و"قدحة" الفائز بجائزة أحسن سيناريو لأنيس الأسود وشيما بن شعبان، وفيلم من السعودية مع "جنون" لمعن وياسر عبد الرحمن، وآخر من لبنان مع "كوستا برافا" لمونيا عقل، وفيلم رائع من المغرب لم يفز بشيء مع "بين الأمواج" للهادي أولاد مهند، وآخر من العراق "كل شي ماكو" لميسون الباجة جي، وأخيرًا فيلم من الجولان مع "الغريب" للسوري أمير فخر الدين، وهو مخرج سيكون له شأنه في السينما العربية، على ما أعتقد.

في نقاش خاص أيضًا مع لجنة التحكيم حول عدم فوز فيلم "الغريب" ولا بأي جائزة على الرغم من تميّزه شكلًّا ومضمونًا وإثارته لمشاعر وأحاسيس عميقة عبر تجديده في بناء عالم غريب لشخصية غريبة وليس عن طريق رواية قصة أو سيرة؛ عضو في لجنة التحكيم برّر ذلك بأنه يجب إعادة الجمهور العربي إلى صالات السينما، بما يعني أنه مع فيلم كهذا يثير إعجاب النقاد (فقط؟) فلا فرصة في ذلك. ولكن، أليس من أهداف الجوائز التنبيه إلى أفلام ذات قيمة تستحق المشاهدة من محبي السينما من نقاد وعارفين من الجمهور العربي؟ وهل يحتاج الفيلم التجاري إلى الجوائز؟ فأفلام الفكاهي الفرنسي لويس دو فونيس، مثلا، لم تفز بالجوائز ولم تحتج لها. وإن كان البعض يفضّل الأفلام التي تلقى إعجاب الجمهور العريض فيجب الاهتمام أيضًا بهؤلاء الذين يفضلون الأشياء المختلفة على الرغم من قلة عددهم.

من المشاركين في المهرجان

لكن هناك أفلام تجمع كل أنواع المشاهدين، كفيلم اللبناني جورج هاشم الفائز بجائزة أفضل وثائقي عربي في مسابقة الفيلم الوثائقي. في الفيل- "لولا فسحة المترو"- حنين وحب وحميمية في توصيله مشاعر أفراد فنانين بنوا عرضًا مسرحيًا غنائيًا "هشّك بيك" تواصل عرضه في بيروت سبع سنوات وكان مساحة حلوة فرحة ومبهجة ينسون فيها كل شيء مع الجمهور ليعود بعدها كل إلى مشاكله في لبنان المتعب. يبدو أن الوثائقي اللبناني يفرض نفسه على عالم الوثائقي العربي بأهميته وبحثه عن الشكل والمضمون معًا، كما يمكن لمسه في الفيلمين المشاركين أيضًا من لبنان، "فياسكو" لنيكولا خوري، و"السجناء الزرق" لزينة دكاش. من مصر جاء "من القاهرة"، وثائقي لهالة جلال، ممتع ومؤثر بصدق مشاعر بطلاته وحرارتها عن الجسد الأنثوي الذي لا ينُظر إليه بأنه مكان خاص للروح أيضًا، وقد فاز بجائزة لجنة التحكيم. شاركت أيضًا أفلام أخرى أثبت بعضها حضوره مثل  "كباتن الزعتري" لعلي العربي، و"حلال سينما" للتونسي أمين بو خريص، و"المعلقات" للمغربية مريم عبده، و"يوميات شارع جبرائيل" عن يوميات فلسطيني خلال الحجر في فرنسا لرشيد مشهراوي.

الفيلم القصير كانت له مسابقته وجوائزه المالية أيضًا، وقد فاز بجائزة أحسن فيلم "ثم يأتي الظلام" للبنانية ماري روز أسطا، فيما حصل "شيطانة" للتونسية أمل غويلاتي على جائزة لجنة التحكيم.

كانت لافتة التجمعات حول النجم السوري جمال سليمان (عضو لجنة تحكيم الأفلام الروائية الطويلة) لأخذ صور معه


كانت هناك عروض أخرى واستحداث أقسام جديدة في المهرجان ونظرة على السينما السعودية التي سيكتشفها العالم العربي ومهرجاناته في السنوات القليلة القادمة، كما كان هناك لأول مرة إصدار لكتاب مع "إنغمار برغمان، عالمه، حياته وأعماله" بعين ناقد سينمائي عربي هو إبراهيم العريس.

أما الجمهور فيجب التفكير في كيفية جذبه، سواء السويدي أو العربي، الذي يشكل حوالي ربع سكان المدينة. الجمهور العربي كان يلتف حول نجوم عرب في كل مكان يراهم فيه، في الشارع، والمطعم، وهذا ربما أكثر من صالات السينما. كان هذا الجمهور الشاب المهاجر يبدي فرحة ودهشة وهو يلتقي النجوم في الخارج. وكانت لافتة هذه التجمعات حول النجم السوري جمال سليمان (عضو لجنة تحكيم الأفلام الروائية الطويلة) لأخذ صور معه. هرع عمال المطعم السوري في مالمو كل بدوره لأخذ صورة مع "الأستاذ جمال"، وهم يرونه يقف في الصفّ للدخول، وكم ترددت عبارة "نفتخر بك أستاذ قبل وبعد الأحداث"، وما كان "الأستاذ" يستعد للجلوس لإكمال طبقه حتى يقترب آخر على خجل سائلًا صورة معه، وبعد أن توافد لأخذ صور معه أكثر من ثلاثين شخصًا في المطعم بقي صحن "الأستاذ" ممتلئًا. كان كلام السوريين في الخارج بالنسبة له هو أعظم جائزة، كما قال، أما بالنسبة لنا فقد كان وجوده معنا مناسبة لتبادل أحاديث شائقة معه، وواسطة للحصول على ما هو غير مُقرّر في الوجبة: حلاوة الجبن السورية!

 

جانب من الحضور في المهرجان