Print
عبد الكريم قادري

رحيل الممثلة شافية بوذراع.. مسار توزع في النضال والفن

25 مايو 2022
هنا/الآن



 

لم تكن الممثلة الجزائرية المخضرمة شافية بوذراع، التي رحلت يوم 22 أيار/ مايو الحالي عن 92 عامًا، مجرد فنّانة عابرة في نظر جمهورها الجزائري والمغاربي، تمحى صورتها بمجرد انتهاء دورها في المسلسل أو الفيلم أو المسرحية التي شاركت فيها. كانت صورتها في المخيلة الجماعية أوسع من ذلك بكثير، خاصة وأنها عايشت العديد من المراحل الجزائرية المهمة، بداية من الثورة التحريرية (1954-1962) التي ناضلت وشاركت فيها، وفقدت في متونها زوجها ورفيق دربها، الشهيد صالح بوذراع،  خلال أحد المعارك الفاصلة بين جيش التحرير الوطني والجيش الاستعماري سنة 1960 بالولاية السادسة، وقد كان هذا الزوج أحد الوجوه المهمة في ولاية قسنطينة، خاصة وأنه درس في جامع الزيتونة وجامعة الأزهر، كما عاشت شافية مرحلة الاستقلال وعاصرت كل رؤساء الجمهورية بأنظمتهم السياسية المختلفة، ومن بين أكثر هذه المراحل التي آلمتها وتركت ندوبًا في قلبها مرحلة العشرية السوداء (1991-2002)، حيث رأت بلدها ينهار أمام عينيها، بعد أن فقدت الجزائر أكثر من مئتي ألف مواطن بسبب تلك الحرب شبه الأهلية، إضافة إلى الخسائر المادية والاقتصادية الرهيبة.

كانت شافية شاهدة على كل تلك المحن، خاصة في أثناء استهداف المثقفين والفنانين، مثل الكاتب والمنظر والممثل المسرحي عبد القادر علولة (1939-1994)، والفنان القدير عز الدين مجوبي (1945-1995)، والمغني الشاب حسني (1968-1994)، وغيرهم كثر، والذين قتلوا بأيدي المتطرفين، وذنبهم الوحيد كونهم فنانين، وقد خبرت بحسها الفني والوطني تلك الفترة التي تركت ندوبًا غائرة في قلبها، كما سايرت قبلها أو بعدها المنعرجات الحاسمة التي عاشها الفنان الجزائري بخيرها وشرها، بطولها أو قصرها، وربما آخرها أن تسمع بخبر وفاة الممثل والمخرج المسرحي أحمد بن عيسى (1944-2022) الذي رحل قبلها بيومين، ليزيد هذا الخبر من دائرة الفقد المتسعة التي أحاطت بقلبها بعد أن عاشت 92 عامًا.

شافية بوذراع بلباسها العسكري في أثناء الثورة الجزائرية عام 1958 



"الحريق".. شرارة الفن والنضال ووقود الثورة

عٌرفت شافية بوذراع، واسمها الحقيقي عتيقة لطرش، بتسمية "لاله عيني"، وقد التصقت بها هذه التسمية إلى آخر يوم من حياتها وستبقى حتى بعد مماتها، إذ لا يتم ذكر اسمها دون ربطها بـ"لاله عيني"، وهي الشخصية التي أدتها في المسلسل الشهير "الحريق" أو "دار سبيطار" كما هو معروف في المخيال الشعبي، ويتكون من 12 حلقة، مدة كل حلقة ساعة من الزمن، ويُعد هذا العمل من أكثر وأعمق الأعمال الدرامية قربًا من الجمهور الجزائري، وقد قام بإخراجه مصطفى بديع (1982-2001) سنة 1974، وعرض على شاشة التلفزيون الجزائري، والجميل في الأمر أن الأسماء التي شاركت في هذا العمل أصبحت فيما بعد مكرسة بشكل واسع، ومن بينهم مثلا الممثلة بيونة التي أدت دور فاطمة، وعايدة كشود في دور زهرة، وعبد الرحمان لوطاسية في دور عمر الصغير، أما شافية فقد أدت دور "لاله عيني" التي تمارس التجارة في الأسواق الشعبية، كما شارك في العمل كل من المصور يوسف صحراوي، والملحن لمين بشيشي، وصانع الديكور حسان الشافعي، وغيرهم من الأسماء الأخرى التي صنعت هذه الملحمة، والأجمل في كل هذا أن العمل اقتبس من رواية الأديب الكبير محمد ديب (1920-2003)، وتجري أحداثها في مدينة تلمسان التي تقع في الغرب الجزائري، نقل من خلالها معاناة الشعب الجزائري من قهر وتسلط وظلم الاستعمار الفرنسي، وهذا قبل الحرب العالمية الثانية، ومن الناحية الفنية كانت القصة عبارة عن نبوءة بالثورة الجزائرية (1954-1962) أي الحريق (حسب العنوان) الذي سيأتي على تواجد الاستعمار الفرنسي ويحرق كل شيء، ورغم مرور تقريبا نصف قرن على إنتاج هذا العمل، إلا أنه لا يزال راسخًا في وجدان الجزائريين، ولم يستطع أي عمل درامي أن يأخذ المكانة التي حققها، كما كان مثالًا حيًا على الشراكة الناجحة بين الرواية والفن بشكل عام، ولقد حوّلت شخصية لاله عيني التي أدتها شافية بوذراع إلى أيقونة في نظر الجزائريين، حتى أنه هناك من بات يطلق عليها تسمية "أم الجزائريين" خاصة وأنها عكست شعور الأمومة وتفاصيلها باقتدار.

بعد مسلسل "الحريق"، لمع اسم شافية بوذراع في المشهد الفني الجزائري، وأصبح حضورها ضروريًا في معظم الأفلام السينمائية، حيث تهاطلت عليها العروض من داخل الجزائر وحتى خارجها، وفي فرنسا بالتحديد، ولهذا كانت لها مشاركات في معظم الأفلام الجزائرية، من بينها مثلًا مشاركتها في فيلم "الشبكة" (96 دقيقة، 1976) لغوتي بن ددوش رفقة كوكبة من الممثلين كسيد علي كويرات وحسان الحسني وعبد الحليم رايس وفاطمة بلحاج، وفيلم "ليلى والأخريات" (68 دقيقة، 1977) لسيد علي مازيف، و"امرأة لابني" (99 دقيقة، 1982) لعلي غالم، و"شاي بالنعناع" (85 دقيقة، 1984)  لعبد الكريم بهلول، والفيلم الجزائري الألماني "العودة من الصحراء" (85 دقيقة، 1990) للمخرج برنارد ستيفان، والفيلم الفرنسي "محمد برتراند دوفال" (90 دقيقة، 1991)، للمخرج أليكس ماتيار، كما شاركت في تجربة ثانية مع المخرج الجزائري عبد الكريم بهلول في الفيلم الجزائري الفرنسي التونسي "مصاص دماء في الجنة" (100 دقيقة، 1992)، كما كانت لها تجربة سينمائية مع عكاشة تويته في فيلم "صرخة الرجال" (100 دقيقة، 1999)، إضافة إلى مشاركتها في الفيلم الفرنسي "17 شارع بلو" (95 دقيقة، 2001) للمخرج تشاد شينوجا، وفيلم "زبدة بيضاء حمراء" (88 دقيقة، 2006) لمحمد زموري، وفيلم "مال وطني" (90 دقيقة، 2007) للمخرجة فاطمة بلحاج، إضافة إلى العديد من الأعمال المسرحية والتلفزيونية والسينمائية الأخرى التي يصعب حصرها، ورغم تقدم سنها إلا أنها استطاعت أن تتعامل مع أدوارها باحترافية كبيرة، ما جعل العروض تتهاطل عليها من كل جهة، سواء من المخرجين الجزائريين أو الأجانب، لأنها تعكس شخصية الأم المتقدمة في السن بقدرة كبيرة، سواء من ناحية الشكل أو العواطف.

شافية بوذراع في فيلم "الخارجون عن القانون" لرشيد بوشارب 



من جدل "كان" إلى قوائم الأوسكار

من بين أكثر الأفلام التي شاركت فيها شافية بوذراع شهرة وإثارة للجدل وذات قيمة فنية كبيرة، فيلم المخرج الجزائري رشيد بوشارب "الخارجون عن القانون" (140 دقيقة، 2010)،  والذي أثار وقتها جدلًا واسعًا، خاصة أثناء عرضه في فرنسا،  وتدور أحداث هذا الفيلم بين فترتي 1945، و1962 في منطقة ولاية سطيف، وهذا على خلفية المظاهرات الكبيرة التي عرفتها المنطقة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، عندما رفضت فرنسا منح الاستقلال للجزائر بعد مشاركة الأهالي في حروبها، وهو الأمر الذي أخرج  الشعب الجزائري في مظاهرات، تم مواجهتها بقمع رهيب، حيث سقط أكثر من 45 ألف شهيد، وقد ركز فيلم بوشارب على ثلاثة إخوة جزائريين يعيشون في فرنسا بعد أن نجوا من تلك المجزرة الرهيبة، وأدت شافية في هذه القصة دو الأم المجروحة والحزينة الخائفة على أبنائها.

أثار الفيلم جدلًا عالميًا واسعًا، خاصة بعد مشاركته في المسابقة الرسمية لمهرجان "كان" السينمائية، حيث أقيمت مظاهرات واسعة تطالب بعدم عرضه في قاعات السينما الفرنسية وسحبه من المشاركة في المهرجان، كما أثار نقاشًا بين المؤرخين وصناع السينما، خاصة وأنه أظهر الوجه الخفي للمستعمر الفرنسي، وقد شاركت بوذراع في مهرجان "كان" وقدمت نفسها وسارت على البساط الأحمر رفقة النجوم العالميين، كما وصل الفيلم إلى القائمة القصيرة التي تتنافس على جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي، وهذا مع خمسة أفلام أخرى سنة 2011، كما فاز بالعديد من الجوائز العالمية المهمة، من بينها جوائز مهرجان دمشق السينمائي الدولي.

شافية بوذراع مع الممثل جمال بودبوز في "مهرجان كان"



رحيل مرّ وحسرة في القلب  

في أحد اللقاءات التلفزيونية التي جمعتها بالإعلام سنة 2020، وهذا بعد نهوضها من الوعكة الصحية التي ألمت بها، تقول شافية بوذراع بحسرة بأنها لم تتلق حقوقها المادية من العشرات من الأعمال التلفزيونية والسينمائية والمسرحية التي شاركت فيها في الجزائر، على عكس الأعمال التي عملت فيها في الخارج، حيث كانت تصلها مستحقاتها المادية بشكل دوري، كما تحسّرت على عدم إرسالها أو التكفل بعلاجها مثل عشرات الأسماء الفنية، من الذين قدموا أقل مما قدمته على مدار أكثر من نصف قرن كامل، وهذا حقها الطبيعي، وقد جاء هذا التصريح قبل سنتين من وفاتها.

وشكّل رحيلها صدمة كبيرة لدى الوسط الفني ومحبيها، بعد أن عاشت 92 سنة كاملة، أفنت أغلبها في العمل النضالي والفني، ووجّه رئيس الجمهورية، عبد العزيز تبون، رسالة تعزية إلى أهلها، أبرز ما جاء فيها: "نودّعُ كوكبًا أَفَلَ من سماءِ الفنّ الجزائريّ، وقد صدَحَت المرحومةَ رفقةَ ثلّةٍ من فنّاني الرّعيلِ الأوّل للجزائر المستقلّة عبرَ رُكحِ المسارِحِ، وافتتحَت بواكيرَ الإنتاج التّلفزيونيّ والسّينمائيّ، وكانت مثالًا ومدرسَةً لأجيال من الفنّانين، ومَبعثًا للاحترام من جُمهور المتذوّقين على مرّ سنوات طوالٍ، فكانت "لالّه عيني" فنّانة بحقٍّ من طينة الفنّانين العالميين".

كما اعتبرت وزيرة الثقافة والفنون، صورية ملوجي، شافية بوذراع في رسالة نعيها بأن: "الفقيدة المعروفة بشخصية "لاله عيني" تحفة لن تُمحى من الذاكرة الفنية في الجزائر، فهي واحدة من الفنانات الجزائريات اللاتي عكسن الصورة النموذجية للمرأة الجزائرية في كفاحها، ونضالها ضد الحرمان والجهل والفقر، وبطش الاستعمار الفرنسي، فنشرت الحب والابتسامة في الوسط الفني، ومنحت الجمهور متعة المشاهدة، فأحبها، وحرص على متابعة كل كبيرة وصغيرة في مسيرتها الفنية الثرية".