Print
عبد الكريم قادري

الرواية التاريخية بين التخييل والتوثيق

4 مايو 2022
هنا/الآن



تنطلق الرواية التاريخية أو رواية الخيال التاريخي عادة من الماضي، ومن خلاله ترسم أو تعيد رسم بعض التفاصيل الزمنية في تلك الفترة، سواء تقوم بخلق شخصيات تاريخية موجودة، أو تنسجها من الخيال، وفي كل جانب تتم مراعاة العادات والتقاليد والموجودات الأخرى، وعدم تغريبها بمعطيات لا تراعي تلك الفترة الزمنية، وهذا حتى لا يتم مخادعة المتلقي وتكريس مرجعيات خاطئة في عقله الباطن، لأنه مهما كان ذكاء هذا القارئ فإن المعلومة تتسلل إلى الذهن لتصبح حقيقة مع الوقت. وتتكئ العديد من الروايات الحديثة وحتى القديمة منها على التاريخ كمنطلق جديد لإعادة تشكيل الوقائع والأحداث من وجهة نظر الروائي، وتتعدد الأسباب التي تفسر وتبرر هذه العودة، مع أن حاضر الفرد/ الروائي، عامر بالوقائع التي تغري بإعادة تشكيلها سرديًا، وهناك من النقاد وحتى من الكتّاب أنفسهم من يعتقدون بأن العودة للتاريخ هو إفلاس كلي، لأن هذا يعكس ضحالة في الخيال، وتعديًا صارخًا على صلاحيات المؤرخ وكتّاب التراجم والسير والوقائع والأحداث، وهو أمر بوسع أي شخص القيام به، ولا يتطلب أي موهبة تذكر، ولا يعكس أي جهد في الخيال، وتكون الردود موحدة عادة، تشترك في العديد من العناصر، وهي أن من حق الكاتب أن يعيد اكتشاف التاريخ أو تشكيله حسب ما يراه مناسبًا، لأن منطلقه الأساسي قبل أن يكون تاريخيًا هو خيالي، ولا يُطلب من أي فرد استقاء الأحداث منها، وما يطلب منهم هو المتعة ولذّة القراءة فقط، وإن أراد المتلقي أن يستأنس بها من منطلق استعابها كتاريخ فهو أمر يخصه، كما تقوم الرواية التاريخية بتشجيع القراء على البحث من جديد، لفهم وقائع معينة، ولن يحدث هذا إلا إذا كان الروائي صاحب موهبة وأسلوب جيد في الكتابة، ويذهب هؤلاء أبعد من ذلك حين يقولون بأن الرواية التاريخية هي أصعب وأكثر تعقيدًا من الرواية العادية، لأنه في هذه الحالة يجب استحضار المسؤولية الأخلاقية تجاه الأحداث، لمنع الانحراف الأيديولوجي وتزييف التاريخ بوقائع غير مسنودة من مصادر صادقة، وهو الأمر الذي يتطلب جهدًا كبيرًا في عمليات البحث والتقصي، من خلال قراءة عشرات الكتب من عديد المصادر، للخروج بخلاصة متوازنة ورزينة ومحصّنة من الأقاويل والاتهامات الباطلة، وهو أمر يتطلب موهبة وسعة اطلاع وعقلًا متقدًّا وحضور بديهة، كما أن هناك العديد من النصوص الروائية العظيمة التي استند أصحابها على التاريخ، لكن لا تزال تقرأ إلى غاية اليوم، وتعد من عيون الروايات العالمية.

وبين هذا وذاك تبقى الرواية جنسًا أدبيًا مفتوح على جميع الاحتمالات والتجارب، ومن حق السارد أن يختار القالب الذي يناسب سياقها العام واهتمامه، ومن حق الآخر الذي لا يحب أو لا يحترم الرواية التاريخية أن يرفض هذه الخيارات ويسحب منها حتى جنسيتها، ويبقى القول الفصل دائمًا للناقد الموضوعي والقارئ الذي يعتبر رأس مال كل كاتب.

عبد الوهاب عيساوي 



الرواية التاريخية تختلف عما يقوم به المؤرخ

لإثراء هذا الملف تواصلتُ مع أسماء روائية ونقدية، بالأساس من الجزائر، أغنت المشهد الأدبي بنصوص روائية أو دراسات نقدية عكست هذا الموضوع، من بينهم الروائي الجزائري عبد الوهاب عيساوي، صاحب الرواية التاريخية المهمة "الديوان الإسبرطي" التي صدرت عام 2019 عن دار ميم للنشر في الجزائر، وقد حصل صاحبها على الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) عام 2020، وهو يرى أن الرواية التاريخية لا تعكس الأحداث الزمنية الحقيقية دائمًا، ويضيف: "الرواية التاريخية وإنْ كانت تعكس بعض الأحداث المتعلقة بفترة زمنية معينة، إلاّ أنها تختلف عما يقوم به المؤرّخ الذي يتقيّدُ بالحادثة التاريخية دون تحوير، بينما يتقصّى الروائي الجانب غير المكشوف عنه، أو الذي لا يلتفت إليه المؤرخ، وخاصة في التاريخ العربي، إذ نجد أن مختلف الدراسات اعتمدت على الوقائع السياسية وعلى الحروب حتى صارت مراحل التاريخ الإسلامي أو العربي مرتبطة بالدول، أو بعائلات أسّست دولًا، بينما كان أجدى لو ارتبطت هذه المراحل أو تمّ التأسيس لها انطلاقًا من ثورات معرفية أو علمية، أو حتى أدبية أو فلسفية". ويذهب عيساوي صوب المسؤولية الأخلاقية بعد أن طرحنا عليه سؤالًا بخصوصها، خاصة من خلالها تثبيت بعض الوقائع المختلفة حولها، فيقول: "في اعتقادي أن مفهوم الفن لا يُقارَب من الناحية الأخلاقية أو الدينية، يظل المفهومان غائمين، وتعرفيهما متباين من شعب إلى آخر.



أجدني أميل إلى مقاربة أخرى تندرج بين قطبي الخير والشر، فلا يمكن أن نمجِّد الحرب أو العدوان لأنه يتنافى دائمًا وأبدًا مع القيمة الخيرية التي يسعى إليها الإنسان". كما أجاب عن مدى انعكاس قيمة الرواية من خلال موضوعها إن كان تاريخيا أو محض خيال، بقوله: "الجوهر في الرواية هو إثارة القلق، أو بعبارة أخرى محاولة الإجابة عن الأسئلة القلقة للإنسانية، وأحيانًا تمارس فعل التقويض... وتبقى الموضوعات مهما كانت مثيرة للجدل استعارات يستعيدها الروائي أو يعود إليها لغرض معرفي يتعلق بسؤال الرواية. يمكن العودة إلى جيل المؤسسين العرب لنتبين هذه الإشكالات، فنجد - على سبيل المثال - نجيب محفوظ يلجأ إلى التخييل التاريخي الفرعوني باحثًا عن الشخصية المصرية المتعددة المشارب، أو حتى في كتابات أخرى على غرار مدن الملح لعبد الرحمن منيف، لقراءة تحولات الإنسان في الجزيرة العربية بعد اكتشاف النفط، وتأثيرات كل تلك الإشكالات الماضية في الإنسان المعاصر. إذًا الأمر متعلق أساسًا بالبحث في الإنسان قبل أن يكون له علاقة باستعادة حوادث قديمة، أما قضية الحكاية أو التخييل فهذه كلها في خدمة الموضوع الروائي، وبالطبع لا يمكن إنكار أن الروائي الذي لا يستطيع أن يحكي حكاية من الصعب أن يكتب رواية، ولكنها في رأيي تبقى تابعًا لجوهر السؤال الإنساني، أو الخوارزمية التي يُبنى على أساسها النص، وينبنى عليها التساؤل: ما الذي تريد الرواية قوله؟".

محمد لمين بحري 



الرواية التاريخية والتخييل والفن السردي

يرى الأكاديمي والناقد الجزائري محمد لمين بحري أن الرواية التاريخية تعكس وجهًا من المظهر التاريخي، أو التجلي التاريخي للموضوع الذي تتحدث عنه، وإلا لما سميت بالتاريخية، وهذا بالمصطلح النقدي يسمى الاشتغال على المرجع التاريخي. وقد تستعمل فيه عدة تقنيات، منها الفلاش باك، والاسترجاع، والشهادات (الموثقة)، والرسائل (الموثقة) والقصاصات والمقالات الصحافية والمخطوطات (الموثقة أيضًا)، وهذه الوسائل استعملها كبار مؤسسي الرواية التاريخية، مثل والتر سكوت، وأقرها منظرو الرواية التاريخية كجورج لوكاتش. ورأيناها في روايات تاريخية عربية، مثل "ثلاثية غرناطة" لرضوى عاشور، وكتاب "الأمير" لواسيني الأعرج، و"الديوان الإسبرطي" لعبد الوهاب عيساوي. كما يضبط محمد لمين مصطلحاته بدقة، انطلاقًا من تحليله للزمن ببعده الحقيقي في الرواية التأريخية، والذي يسميه بـ"زمن القصة" استنادًا على مصطلحات النقد الروائي، ويرى بأن "الزمن الحقيقي هو الذي يستدعيه الكاتب ليشتغل عليه في نصه، لكن زمن القصة ووقائعها الحقيقية، لا يمكن أن يتم تسريده في نص روائي إلا عبر زمن ثان، وهو زمن الخطاب، أي الزمن التخييلي والخاضع للاختيارات الجمالية والفنية التي يقوم الكاتب فيه بتزمين، أو تسريد، أو دمج زمن القصة من خلاله داخل النص الروائي. وهنا يطرح الرهان الحقيقي للرواية التاريخية، الوفاء للفن الروائي، والوفاء للوقائع التاريخية"، كما يرى بأن "ما يتطلبه فن الرواية من كاتب الرواية التاريخية هو الكثير من الفن السردي، وليس الكثير من الأحداث التاريخية، لأن كثرة الأحداث التاريخية دون صنعة سردية وتمكن من فنون التأليف والصوغ الروائي لا تقدم لنا لا التاريخ ولا الرواية في النهاية. لأنه للتاريخ منهجه كي يتخذ بعده وقيمته العلميين، وهذا ليس مطلوبًا من الروائي الذي يجب أن يكون وفيًا لصنعة الرواية أولًا ومتمكنا من أدواتها ثانيًا وما التاريخ لديه هنا سوى ثيمة من الثيمات الكثيرة التي تعالجها الرواية، وبالتالي رهان القيمة هنا فني سردي وليس علميًا وتوثيقيًا".

كما يصحح بحري النظرة الشائعة حول الرواية التاريخية كونها جافة من التخييل، بقوله "إن أكبر مغالطة في النظر إلى فن الرواية التاريخية هو اعتبارها جافة من التخييل، أو وفية للوقائع أكثر من وفائها للتاريخ. غير أن العكس هو الحاصل على مستوى الكتابة"، ويرى أن "الرهان الأعلى والأدنى لنجاح أي عمل روائي مهما كان لونه سواء أكان واقعيًا أو فانتازيًا هو التخييل السردي أولًا، وللتخييل أدواته الفنية المخولة بإخضاع كل الوقائع التاريخية أو الواقعية إلى الخيارات الفنية للكتاب، لكي يعطينا رواية من خلال رؤيته للمحتوى التاريخي الذي يشتغل عليه، وليس كي يعطينا تاريخًا ما من خلال نص روائي. أي أن الرواية هي التي تصهر التاريخ بأحداثه وشخصياته، في محاليلها الفنية، وتعيد إخراجه أو إنتاجه لنا روائيًا، وليس التاريخ هو من يخضع الرواية لقوانينه. ببساطة لأن الخيار هنا فني وجمالي، يعود إلى فن الرواية، وليس علميًا يخضع لعلم التاريخ".

وعن خيانة التاريخ والأدوات الفنية الفنية المستعملة والإحاطة والموقف السردي يقول بحري: "وفي إمساك الكاتب الروائي وإحاطته بالمجالين، ليس عليه أن يخون التاريخ أيضًا لأن الموقف السردي ليس عليه مناقضة الوقائع بل تقديم رؤية حولها، لأن الرواية نص ينبع من فكرة ويقوم على أدوات فنية تنتهي إلى صياغة منظور سردي أو رؤية للعالم، وموقف من ذلك التاريخ المستوحى، وبالتالي هي مفهوم فكري وموقف فني، يمكن أن يحلل ويناقش مثله مثل موقف كل فنان من قضية تاريخية معينة، والاختلاف هنا يكون فقط في نوعية الفن الذي صاغ به المبدع رؤيته. قد يكون تشكيليًا (فيكون موضوعه تاريخيًا) أو مسرحيًا (فيكون المسرح تاريخي الموضوع) أو سينمائيًا (فتكون نمط السينما تاريخية)... إلخ. وإن كان ذلك المنظور في قالب روائي، فسنكون ببساطة أمام رواية تاريخية". ويختم هذه المداخلة بدعوته لضرورة "التفريق بين الرواية التاريخية التي تستهدف التاريخ موضوعًا وغاية فنية. وبين توظيف التاريخ في الرواية كعنصر فرعي من عناصرها لبلوغ غاية ليست تاريخية بالضرورة، أي يكون التاريخ هنا مجرد وسيلة وليس غاية أو موضوعًا للسرد (ثلاثية أحلام مستغانمي مثلًا)، والأمور بغاياتها تعرف".

جان دوست 



الرواية التاريخية تعيد قراءة التاريخ ونستنطق شخوصه

يعتقد الروائي الكردي السوري جان دوست أن علينا أن نفرق بين رواية تتخذ التاريخ مادة لها وبين رواية أخرى تتخذ بعض شخصيات التاريخ مادة يشتغل عليها الروائي فيما يشبه إعادة صياغة أو إعادة خلق لشخصية حقيقية انتهى زمنها. الرواية التاريخية هي التي تُعنى بالحدث التاريخي وهي في هذا الإطار مقيدة بالواقع التاريخي وزمن وقوع الأحداث والشخصيات الفاعلة فيها تاريخيًا وكأننا في هذا النوع من الرواية نعيد قراءة التاريخ ونستنطق شخوصه دون المساس بالواقعية التاريخية الملزمة. بطبيعة الحال هناك مسؤولية أخلاقية في نقل الحدث بدقة وأمانة وعدم تحميله ما لا يحتمل. ونحن لا نغفل عن أن للروائي رسائل خاصة يضمنها نصَّه مستغلًا هذا الحدث التاريخي أو ذاك والشرط الأساسي في اعتقادي أن يكون الروائي غير منحاز للشخصية التي يكتب عنها ولا ينبغي عليه مثلًا أن يتبنى في قراءته الروائية للتاريخ وجهة نظر السلطة أو أي جهة أخرى تريد التسويق لفكرة سياسية ما.

أما قيمة الرواية، أي رواية فتحددها، برأي دوست، عوامل كثيرة منها طريقة السرد واللغة والحبكة الجيدة والقصة المثيرة والشخصيات إلى آخر القائمة. ولست مع القائلين إن ضعف الخيال هو الذي يدفع روائيًا ما إلى الانخراط في كتابة رواية تاريخية. فالخيال يلعب الدور الرئيس في الرواية التاريخية ويتكبد الروائي مشاق البحث في الكتب والحصول على التفاصيل الدقيقة التي قد تنفع نصه وهو في حاجة ماسة إلى الخيال تمامًا مثل باقي الروائيين.

عبد الحق بلعابد 



يمكن للرواية أن تقدم قراءة جديدة للوثيقة التاريخية

وقال د. عبد الحق بلعابد، وهو أكاديمي وباحث جزائري يدرس في جامعة قطر:

لا بد أن نعرف في البداية أن هناك حوارية ظاهرة بين الرواية والتاريخ، لأن الرواية من حيث هي سرد ولدت مع التاريخ لما ترويه كما يقول النقاد، والتاريخ ما هو إلا مرويات ومسرودات تساكن الحقيقة والتخييل في النقل والتدوين، ومن هناك استطعنا مع لوكاش أن نستحدث ما يعرف في الأجناس الأدبية بالرواية التاريخية التي تروي أحداثًا حدثت في التاريخ ولكن من وجهة نظر تخييلية تريد أن تقدم رأيًا أو موقفًا أو تجيب عن منعطف تاريخي سكتت عنه الوثيقة فأجابت عن الرواية، فهذا نحن في الرواية التاريخية لا نعود إلى التاريخ بقدر ما نعود بالتاريخ لتسريد أحداثه ووقائعه ورسم معالمه ومفاهيمه، كما نجد مثلًا في رواية "الأمير" لواسيني الأعرج، فهي رواية تاريخية لشخصية تاريخية جزائرية مقاومة (الأمير عبد القادر)، وكذلك شخصية قس (سينيور دي بوش) كشخصية دينية مسيحية فرنسية، فالرواية حافظت على تاريخية الشخصيات، إلا أن وجهة نظره السردية ركزت على الجانب الإنساني فيهما وأعلى من صوت التسامح المغفل في كل ما كتب عنهما تاريخيًا، وكذلك استحدث شخصية غير موجودة تاريخيا وهو مرافق (دي بوش) جون موبي الذي كان شاهدًا على العلاقة التاريخية والإنسانية بين الأمير والقس، وهنا يمكن للرواية أن تقدم قراءة جديدة للوثيقة التاريخية وتغني صورتها التاريخية والسردية والدرامية، والأمثلة كثير من روايات جورجي زيدان إلى رواية "العلامة" لبنسالم حميش وكيف استطاعت الرواية كجنس هجين أن تحاور التاريخ وتعيد كتابته تخييليًا، لهذا نقول إن التاريخ وإن كتب بقوة السلطان، فإن الرواية تسرد بحكمة البيان، فبين صدقية التاريخي، وتخييلية الروائي تسكن الرواية التاريخية.



سعيد خطيبي 



ضدّ حرس التّاريخ

وقال الروائي سعيد خطيبي: ينطلق الرّوائي من النّقطة التي ينتهي عندها المؤرّخ. فالعلاقة بين الطّرفين ليست تكامليّة، بل في تضادّ. المؤرّخ ابتكر مهنته في كتابة التّاريخ الرّسمي، تاريخ السّلطة، بينما الرّوائي يكتب التّاريخ الآخر، تاريخ المنهزمين أو من أهملتهم سجالات حرس التّاريخ. لا يبتغي الحياد، فالحياد يقتل روح الأدب، يل يبتغي جماليات النصّ. المؤرّخ مولع بالتدوين، بينما الرّوائي يستعين بالتّخييل. عن نفسي، أنطلق من أحداث تاريخية حقيقية، من مرجعية وأرشفة، ثم أتخيّل ماذا كان يمكن أن يحصل. انطلاقًا من سؤال: ماذا لو حصل عكس ما هو معلوم؟ لا أثق تمامًا بما جاء في كتب المؤرّخين وأطرح ما يوفره الأدب من احتمالات. لست معنيًا بالتّوثيق، مستفيدًا من الحريات التي تهبني إيّاها الرّواية في التّفكير في مصائر البشر والأناس العاديين. تاريخ الأفراد أهمّ من تاريخ الأمم. بالتّالي فإن العمل الأدبي ليس معنيًا بتكرار الحدث كما وقع، ليس ملزمًا بمحاصرة القارئ بالوقائع كما جرت حرفيًا، بل كما يتخيّلها الكاتب. لا مسؤولية للكاتب سوى على النصّ الذي يكتبه، في التّكنيك وفيما استطاع إليه من قدرة على إقناع فنّي، أما إعادة كتابة الأحداث فهي من تخصّص المؤرّخ، موظّف السّلطة غير الرّسمي، الذي يستعين بالسّند لا بالمخيّلة. إن المؤرّخ يكتفي بما جاء من أحداث في البقعة التي يكتب عنها، بينما الرّوائي يذهب أبعد من ذلك، في مقارنة تاريخه الوطني بتاريخ الآخرين، وذلك ما أعمل عليه. في إخراج التّاريخي الجزائري من محليّته وربطه بتاريخ شعوب أخرى شهدت أحداثًا تشبه ما عرفناه في العقود الماضيّة. لست أظنّ أن الكاتب يلجأ إلى التّاريخ نظرًا إلى فقر في المخيلة، بل إن اشتغاله على التّاريخ عمل مجهد وشاقّ، في بلد مثل الجزائر حيث الأرشيف من التّابوهات وحيث البعض يلجأ إلى رواية البلاغة اللغوية أو في كتابة الرّاهن بشكل لا يفترض جهدًا كبيرًا، بينما الرّواية التّاريخية تستلزم إعادة صياغة الحياة، تستلزم مراجعة ما سقط سهوًا من أوراق المؤرخين، وفي تصحيح نظرهم تجاه الأحداث.



برأيي التابوهات اليوم تغيّرت، لم يعد القارئ مهتمًا بابتذال صورة المرأة في الفراش أو في خلوتها، أن يصوّرها في حمام أو خلف جدران أربعة، فالقارئ تكفيه كبسة على فأرة اللابتوب كي يشاهد ما طاب له من أفلام أيروتيكية، بلغات العالم كلها، وبمقدوره الاستماع إلى العشرات من النّقاشات ومن الخطب في الطّعن في الدّين، كما أن هذا القارئ يُمارس حقّه في نقد السياسة، كلّ يوم، في المقهى وفي الشارع، بالتالي فإن ذلك الثالوث من المحرمات صار قبرًا يأوي إليه كل من حكم على نفسه بقصر النّظر، والمغامرة إنما في التابوهات الجديدة، على رأسها تابو التاريخ، لا سيما التاريخ المعاصر. من دون أن ننسى أن الرّواية في الجزائر تأسّست من كتابة التّاريخ، على غرار مولود فرعون في كتابة التّاريخ الشّخصي (في "نجل الفقير" مثلًا) أو محمّد ديب في كتابة التّاريخ الجمعي (في "الدّار الكبيرة").