Print
رباب دبس

نحو مخيم فلسطيني جديد.. دور الثقافة والمجتمع المدني

21 يونيو 2022
هنا/الآن

 

تعاني الفئات الشبابية في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان من مشاكل عديدة، أبرزها التسرب المدرسي والبطالة، وانسداد الأفق على عدد من المستويات. يترافق ما ذكر مع آفات اجتماعية تحتاج إلى معالجات، ومظاهر عنف ناجمة عن الاشتباكات بين التنظيمات الفلسطينية من حين إلى آخر، والعشوائية في السكن والاكتظاظ وانعدام المساحات.

هذا الواقع، حول الحياة في المخيمات إلى مساحات طاردة للعيش، مما جعل الهجرة إلى البلاد الأوروبية رغبة، بل حلم شريحة واسعة من جيل الشباب داخلها.

تبيّن دراسة لواقع الشباب الفلسطيني في لبنان بين عامي 2014-  2015، أن الفئة العمرية ما بين 19-  45، للفلسطينيين الذين يعيشون في مخيمات اللجوء، تبلغ نسبتها 46.5 بالمئة من مجموع اللاجئين، 14 بالمئة فقط من هذه الفئة تستطيع إكمال دراستها الثانوية، و8 بالمئة تتمكن من إكمال دراستها الجامعية، فيما أن الفئة العمرية بين 18-20 والتي تشكل 70.3 بالمئة من الشباب هي الأكثر رغبة بالهجرة.

تعكس الأرقام الآنفة مؤشرات للواقع السيء الذي يعيشه الفلسطينيون في المخيمات. إلا أن الإحباط والتهميش والضياع والتسرب المدرسي ليست قدرًا محتومًا، إذ تسعى شرائح من الشباب الفلسطيني لتبديد الصورة النمطية التي طبعت حياة الفلسطينيين لعقود طويلة بالعنف والفوضى.

في هذا السياق تنشط في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، فئات شبابية آمنت بأهمية دور الثقافة في النهوض نحو واقع أفضل، وقد شقت هذه الفئات طريقها عبر عدد من النوادي الثقافية والجمعيات الأهلية والمدنية.

تشير الأرقام التي خلص إليها التقرير الآنف عن حال الشباب الفلسطيني إلى أن 47 بالمئة منهم يفضلون العمل والتطوع في الجمعيات على العمل السياسي. هذا الرقم يعكس رغبة جيل الشباب بالانخراط في نشاطات النوادي الثقافية.

برامج تثقيف متنوعة في مكتبة سعيد خوري في مخيم برج البراجنة



مخيم برج البراجنة..

نشاطات لكسر المألوف

محمد، وهو أحد المتطوعين في "مركز النقب للأنشطة الثقافية" في مخيم برج البراجنة في بيروت، يقول: نحن كجيل شاب، لدينا طاقات ونرغب في العطاء والتغيير والخروج من الأفكار الروتينية، وقد جسدنا ذلك في تطوع شريحة لا بأس بها منّا في عدد من الأنشطة الثقافية والتعليمية والتربوية داخل المخيم دون أي بدل مادي، على قاعدة أن العمل التطوعي الذي نقوم به هو لخدمة أهلنا، فكل متطوع منّا يعمل قبل الظهر، ويخصص وقتًا مماثلًا للأنشطة بعد الظهر، وقد خلق ذلك لدينا تحديًا حقيقيًا تمثل في العمل على استمرار هذه النشاطات وتطويرها والاستفادة منها.

ويضيف محمد: لا أنكر أن عددًا من النشاطات كان موجودًا قبل تأسيس المراكز والنوادي الثقافية، أما وقد تأسست هذه المراكز، فإن منها ما كان بمثابة حاضن لأفكار الشباب ومشاريعهم.

ويستطرد محمد: في السياق المذكور استقدم مركز النقب للأنشطة الشبابية، أساتذة متخصصين لمساعدة عدد من الشباب على تطوير مشاريعهم وتنفيذها وإخراجها، ونظم ورش عمل ودورات قريبة، من حيث مقترحاتها، من الجيل الشاب في جهد أرادوا منه أن يكون نشاطًا مؤسساتيًا. وقد عرض الطلاب ثمرة أعمالهم، فرفعوا عددًا من الجداريات في الساحات والشوارع، بالإضافة إلى أفلام ورسوم.

منيبة معطي (صحافة وإعلام، مشرفة على برنامج التعليم البديل في مركز النقب) تقول: عملي التطوعي مكمل تربوي أكاديمي، أسلط من خلاله الضوء على نقاط الضعف التي يعاني منها الطلاب المقصرون في المواد الدراسية. يصار بعدها إلى تنظيم دورات تساعدهم على إكمال تعليمهم بدلًا من أن يتركوا المدرسة، ونحن بذلك نساهم في الحد من التسرب المدرسي.

تضيف منيبة: ينظم المركز برامج دعم نفسي للطلاب الذين يتعرضون للتعنيف الجسدي واللفظي، ويستقدم في هذا الإطار أخصائيين نفسيين واجتماعيين.

هناك أيضًا دورات توعية للأولاد فيما يتعلق باستخدام البرامج الإلكترونية المفيدة، وتنبيههم إلى الضار منها. ومن النشاطات التي يقدمها المركز ما يساهم في إبراز المواهب الفنية للأولاد، في مجالات مثل الرقص والدبكة والرسم، والتمثيل، والغناء، ولعب كرة القدم، إلى جانب عرض أفلام وثائقية تاريخية توجيهية.

مكتبة مخيم البرج.. مساحة حرة

هناك أيضًا المكتبة في مخيم البرج في بيروت، يواظب على الحضور إليها عدد من الشبان، وهي متخصصة في تاريخ فلسطين، وفيها أيضًا روايات، وقصص أطفال. يطمح القيمون عليها إلى تطوير النشاطات فيها، من خلال إقامة نادٍ للكتاب وناد للسينما، يصار فيهما إلى استضافة مخرجين وكتاب، يشاركون الحضور نقاشاتهم حول الكتب التي تقرأ والأفلام التي تُعرض.

عن النشاطات التي تقام في المكتبة أفادنا ابراهيم (26 سنة، اختصاص هندسة): عكس نشاط المكتبة آثارًا إيجابية كان لها وقع المفاجأة، إذ أن المنتسبين الشباب اندفعوا بزخم كبير في الأنشطة، وقد استحوذت على اهتمامهم أكثر من التنظيمات السياسية. ذلك يثبت أن الشباب كانوا بحاجة إلى هذه المساحة الخاصة بهم ليعبروا عن أنفسهم ويبثوا ما يجول في خاطرهم من أسئلة وأفكار. ساهمت الأنشطة والنقاشات في زيادة وعيهم بالقضية الفلسطينية وغيرها، فانفتحوا على الثقافة من بابها الواسع، ولم يعودوا متلقين فقط أو متفرجين، بل أصبحوا يطرحون الفكرة ثم يطورونها، هنا تكمن القصة.

أحد صفوف التعليم في مخيم عين الحلوة في صيدا، وملصق لحملة "المخيم يقرأ" في مخيم نهر البارد في شمال لبنان

مخيم عين الحلوة ـ جنوب لبنان..

برامج  أكاديمية، مهارات، أفلام بيئية وثقافية

لا تختلف كثيرًا النشاطات التي يقوم بها شباب مخيم عين الحلوة في صيدا عن نشاطات مخيم برج البراجنة، وهي في كليهما تعكس التحولات في جيل شباب المخيمات.

"نواة" هي إحدى الجمعيات الناشطة في مخيم عين الحلوة (صيدا ـ جنوب لبنان)، حائزة على علم وخبر رقم 989. برامجها ذات طابع أكاديمي ـ  ثقافي ـ اجتماعي ـ رياضي ـ صحي ـ فني.

استقطبت "نواة" عددًا من الشباب والشابات الذين عبروا عن رغبتهم في التغيير عبر الانخراط في نشاطات الجمعية، وهم يعملون كمتطوعين كل حسب اختصاصه.

سارة مصطفى، منسقة برامج الجمعية والمشرفة على تنفيذها تقول:

نهدف من النشاطات التي نقيمها في المخيم، إلى تجنيد فئة الشباب في خدمة مجتمعهم، لما في ذلك من أهمية في توطيد أواصر العلاقات بينهم وبين المجتمع الأهلي. هذا الأمر من شأنه أن يعزز علاقة الشباب بالمكان حيث يعيشون مع أصدقائهم ومعارفهم فالمخيم يعاني من أزمات، وانخراط الشباب في العمل الاجتماعي يأتي كنوع من التضامن والتكافل بين أهل المخيم.

تضيف سارة: تهدف الجمعية في برامجها أيضًا إلى الحد من التسرب المدرسي، وتنظم لأجل ذلك دورات بديلة عن التعليم الأكاديمي، يتم فيها دعم الطلاب الراسبين والذين يعانون من صعوبات تعليمية موادًا ولغات.

في الجانب النفسي، تقدم الجمعية دعمًا للأولاد الذين يعانون من التنمر والعنف اللفظي والجسدي، وتقوم بإرسال مندوبين إلى منازل ذويهم ومدارسهم، وتسلط الضوء على مشاكلهم عن قرب، وفي هذا الإطار يجري التنسيق مع الأهل والمدرسة بهدف معالجة الموضوع والحد من آثاره السيئة على التلميذ.

تنظم الجمعية عددًا من الدورات في إطار إكساب الطلاب وغير الطلاب مهارات تؤهلهم للعمل، من بينها دورات على وسائل التواصل الاجتماعي، يتم فيها تدريب الطلاب على كيفية استعمالها والاستفادة من البرامج المتاحة فيها، وتسليط الضوء على المهم منها والمفيد، وما تقدمه من خدمات تواصلية وفنية وتكنولوجية.

في السياق نفسه، تنظم الجمعية دورات في التصوير، والتزيين النسائي ومهن الحدادة والنجارة.


مناصرة
النساء نفسيًا واجتماعيًا وتربويًا

تهتم الجمعية بالنساء داخل المخيم، وتقيم لأجلهن دورات مناصرة نفسية واجتماعية وتربوية، تهدف من خلالها الى تمكينهن من مواجهة المجتمع، وتدريبهن على التعبير عن مشاعرهن السلبية أو الإيجابية ورفضهنّ العنف الموجه بحقهنّ على مختلف المستويات.

في سياق ذلك، استحدثت الجمعية ناديًا رياضيًا للنساء بسعر رمزي جدًا (ألف ليرة) عن كل نشاط، الهدف منه تشجيع النساء على أهمية الرياضة، وخلق مساحة للالتقاء والحوار والتعبير والتفاهم، ولا يقتصر الاشتراك الرمزي على النساء فقط، بل هو لكل من يريد أن ينتسب.

أفلام توعية بيئية وصحية

من النشاطات التي أقامتها الجمعية عرض أفلام وفيديوهات توعية متنوعة صحية، بيئية، اجتماعية حقوقية، تضمنت أهمية الكشف المبكر عن سرطان الثدي، الأضرار التي تسببها النفايات على بيئة المخيم، أفكار توضيحية عن القوانين الدولية التي تخص الفلسطينيين، الآثار السيئة لآفة المخدرات، التنمّر الاجتماعي، العنف، وقد تلازم عرض الأفلام مع توزيع منشورات توضيحية للسكان.

إيجابيات المناخ الثقافي

الأنشطة الثقافية في المخيمات عكست آثارها الإيجابية على جيل الشباب. عبد الغني (26 عامًا) أنهى دراسة الإخراج في الجامعة اللبنانية الدولية ومتطوع في جمعية "نواة" يقول: ننشط لنقدم صورة عن المخيم تختلف عن تلك التي تقدمها الصحافة عادة، عن كون المخيم ساحة للسلاح المتفلت والحشيش والبؤس، والنزاعات، وما نريد أن نثبته أن في المخيم شبابًا يطمحون لبناء حياة جديدة، وامتهان اختصاصات عديدة وجديدة أيضًا، منها الفنية والثقافية والأكاديمية والعلمية.

يضيف عبد الغني: أعمل على إنجاز فيلم عن الحياة داخل المخيم، وإذا ما لقي هذا العمل النور، لا أعتبر أنه يخصني وحدي، بل هو إنجاز لأهل المخيم وصورة عما يمكن أن يفعله الشباب فيه. لقد عكس التطوع في الجمعيات أثره في شخصيتي، وأصبح لدي إحساس بأهل المخيم ومجتمعه، الذين هم أهلي ومجتمعي، والشباب هم أخوتي وأصدقائي، والنشاطات التي نقوم بها هي صورة حية عن التغيير الذي أرسته الأنشطة في شخصيتنا.  لقد حملني العمل التطوعي مسؤولية تجاه شباب المخيم، فلا أتوانى عن تقديم المساعدة لمن هم بحاجة لها، مثل نصائح ونقاش حول موضوع محدد، وحوار حول رأي سياسي أو اجتماعي، وهذا هو أساس حياة الشبيبة.

عنود المقدح (18 عامًا) رسامة، متطوعة في جمعية "نواة" تقول: أقدم دروسًا تطوعية في الرسم للطلاب وأشارك معهم في رحلات ترفيهية فنية وهي معظمها موجهة.  هواياتي وموهبتي في الرسم هي لخدمة مجتمعي، أشارك في المعارض التي تقام في مناسبات وطنية وغير وطنية، بهدف إعطاء صورة عن المخيم خارج السلاح والفوضى والفقر، فهو أيضًا رسم وفن وثقافة. أحمل في لوحاتي فلسطين، منازلها، أرضها، زهورها، أحياءها، وأجول بها داخل المخيم وخارجه، بهدف تعريف الناس على بلدي، لأن الكثير من الناس لا يعرفونه.

عبد الغني، متطوع وناشط في جمعية "نواة" بمخيم عين الحلوة/  وباسل عبد العال، شاعر وكاتب في  "زاوية رؤية الثقافية" في مخيم نهر البارد



مخيم نهر البارد-  شمال لبنان..

شعر وأدب

في مخيم نهر البارد الذي يقع في شمال لبنان، ينشط عدد من الشباب والشابات، شعراء وفنانون وكتاب وأدباء، في إطار عدد من المراكز ومن بينها "زاوية رؤية الثقافية"، وهي مركز يقوم على مبادرات وتمويله من تبرعات المشتركين.

ينظر الشاعر باسل عبد العال، إلى "زاوية رؤية الثقافية" باعتبارها ملتقى الأدب الفلسطيني، إذ تستقطب الشبان والشابات مختلفي المواهب، شعراء وفنانين وكتابًا وأدباء، انخرطوا ضمن النشاطات التي تقيمها الزاوية، وهي نشاطات هادفة وملتزمة، مثل تنظيم المعارض وإقامة الأمسيات الشعرية والندوات وكلها تقام في إطار مناسبات وطنية مختلفة. ويضيف: تهدف النشاطات التي تقيمها "زاوية رؤية" خارج المخيمات، إلى إعطاء فكرة عن واقع الشباب الفلسطيني والحياة الثقافية داخل المخيم.

نظمت "رؤية" بالتعاون مع عدد من الأندية جملة من النشاطات منها إحياء ذكرى استشهاد الأديب غسان كنفاني، ذكرى ميلاد الشاعر محمود درويش، ذكرى يوم الأرض، ذكرى النكبة وغيرها من الأنشطة الهادفة.

من النشاطات التي يقيمها المركز بالتعاون مع منتدى شاعر الكورة الخضراء، وفي إطار معرض طرابلس الدولي، بعنوان "تحية الى شيرين أبو عاقلة من طرابلس إلى فلسطين"، ألقى فيها الشاعر باسل عبد العال كلمة رؤية في المناسبة المذكورة.

وفي سبيل تفعيل المطالعة والقراءة في مخيم نهر البارد أعلن مركز "زاوية رؤية" عن موعد إطلاق حملة "المخيم يقرأ"، في أواخر حزيران/ يونيو من العام الحالي، تتضمن الحملة عددًا من العناوين ضمن ملصق خاص أصدره المركز في المناسبة المذكورة ومنها: قراءات ومحاضرات، ومحو آثار الحرب بالفنون، وتزيين الحيطان بمقولات الكبار، ومقابلات ميدانية مصورة وفيديوهات وجلسات نفسية، والعلاج بالفن، ورسم وكتابة، بالإضافة إلى إصدار قصص وملاحق إعلامية وإقامة معارض.


صورة
جديدة لمخيم جديد..

تحديات وآمال

رغم التحول الذي أرساه النشاط الثقافي في واقع المخيمات، وطال الفئات الشبابية فيها أكثر من غيرها، إلا أن مشاكل عديدة تنبري في وجه هذه الفئة، منها التحديات التي يواجهها المتطوعون في الجمعيات أمام استمرار نشاطاتهم، في ظل أزمات اقتصادية تعتبر الأسوأ في القرن الواحد والعشرين. هناك مثلًا طلاب يضطرون إلى ترك الدراسة للعمل تحت ضغط الحاجة التي تفرضها الأزمة المعيشية المتفاقمة، وهذا ما يقلل من الوقت الذي يوليه هؤلاء الشباب للتطوع والانخراط في الأنشطة الثقافية، ويصبح المطلوب منهم العمل من أجل العيش.

تطرح النشاطات الآنفة للنوادي والجمعيات المذكورة، كما التحديات التي تواجهها، سؤالًا حول التحولات التي طرأت على جيل الشباب في المخيمات، والسؤال: هل نحن أمام أجيال جديدة لمخيم جديد؟ إنه سؤال نطرحه على المستقبل.