Print
الجزائر- سارة جقريف

هل ستشهد الجزائر نمو مؤسسات ناشئة في الصناعات الثقافية؟

5 أكتوبر 2023
هنا/الآن
بالرغم من النمو المتزايد للصناعات الثقافية على المستوى العالمي وتحوّلها إلى واحدة من أبرز قطاعات الاستثمار في اقتصاديات الكثير من الدول المتقدمة، إلا أنها ظلت محتشمة في البلدان العربية، تنحصر في بعض المؤسسات الحكومية والخاصة التي تقدم نشاطات ثقافية محدودة بطريقة تقليدية في الغالب تشمل مجالات النشر، المسرح، السينما، الفنون التشكيلية، مهن السمعي البصري، وجميع ما يندرج تحت مسمى الصناعة الثقافية بمفهومها الواسع.

وهو الوضع السائد في الجزائر، حيث ما زالت الثقافة قطاعًا متواضعًا من حيث النشاط أو من حيث الإنتاج، ولا يتعدّى النظر إليه أكثر من مجال للترفيه والمتعة وغير محفّز على احتراف المهن المرتبطة به كالتمثيل، الرسم، الموسيقى، الحرف التقليدية والتشكيل في ظل تبنّي مقولة "الفن لا يوكل عيش"، أي أنه لا يحقق مداخيل تمنح للفنانين بمختلف أطيافهم حياة كريمة، دون الحديث عن وضع الاستثمار في هذا القطاع الذي يبقى شبه غائب باستثناء محاولات صغيرة وفردية كمؤسسات للإنتاج السمعي البصري أو دور نشر تقدم خدمات محدودة وغيرها من النشاطات التجارية التقليدية في قطاع الثقافة.

الصناعات الثقافية قطاع حيوي للمستثمرين الصغار

يحدث هذا في وقت تتضخم المؤسسات والشركات الناشطة في مجال الصناعات الثقافية في الدول الغربية مع توجه العديد من المستثمرين نحو تبنّي استراتيجيات الاستحواذ والتكتل وتحول مؤسساتهم إلى مجموعات عملاقة في قطاع الصناعات الثقافية تقوم على تنويع الأسواق وتعددها سواء كانت أسواق الكتب، السينما، المسرح، الفنون التشكيلية، المعارض وكل ما يرتبط بها من منتجات.

إن المجموعات الضخمة الناشطة في مجال الصناعات الثقافية في الغرب وما توزعه من منتجات يكشف حجم الفراغ في هذه السوق على مستوى الوطن العربي بشكل عام والجزائر بشكل خاص، حيث تنعدم قاعات السينما الخاصة، والمعارض الفنية ومحدودية فضاءات الحرف وقنوات توزيع المنتجات الثقافية ذات الصبغة المحلية، وهو ما يجعله قطاعًا حيويًا للاستثمار من قبل المستثمرين الصغار نظرًا لقلة أو غياب المنافسة من قبل المؤسسات الضخمة التي من شأنها تعطيل نموهم، وعلى النقيض من ذلك فإن ولوج هذا المجال سيسمح لهم بتطوير مؤسساتهم وشركاتهم الناشئة في القطاع.

والحق أن توجّه الجامعة الجزائرية نحو ترسيخ فكر المقاولاتية وسط الطلاب وتبني عدة قرارات في هذا السياق يمكن أن يفتح آفاقًا لنمو قطاع الصناعات الثقافية في البلاد، إذا ما نجحنا في تنبيه الطلاب إلى حجم الفرص المتوفرة فيه وتشجيعهم على الاستثمار به، لا سيما المسجلين منهم في تخصصات العلوم الإنسانية والاجتماعية بمختلف فروعها على غرار  كليات الإعلام والاتصال، المكتبات، التاريخ، التربية أو تلك المتعلقة بالاقتصاد والتسويق ومدارس الفنون الجميلة ومعاهد الموسيقى وغيرها.

مشاريع تخرج لتأسيس شركات ناشئة

ولعل تجربة السنة الجامعية الماضية يمكن أن تشكّل انطلاقة جديدة لهذه الفئة من الطلاب الجزائريين إذا ما ركّزوا اهتماماتهم وجهودهم على تطوير أفكار مبتكرة لمشاريع استثمارية في مجال الصناعات الثقافية، في إطار القرار الوزاري الصادر منذ سنة وبالتحديد في شهر أيلول/ سبتمبر سنة 2022، والذي يتيح لهم تقديم أفكار مؤسسات ناشئة وتطويرها داخل الجامعة ضمن مشاريع التخرج الخاصة بهم، وتثمين ذلك بالحصول على شهادة مزدوجة "شهادة- مؤسسة ناشئة" أو "شهادة- براءة اختراع" إذا ما تعلق الأمر بذلك. 

ويسمح تبنّي هذه الآلية الجديدة في مشاريع تخرج الطلاب الجزائريين، بحصولهم على مرافقة من باحثين وخبراء في مجال المقاولاتية وتدريبات مجانية حول إدارة المؤسسات الناشئة وأسواقها وعملائها وغيرها من الأساسيات اللازمة لنجاح خطة تجسيد أفكارهم وتحويلها إلى مؤسسات ناشئة فعليا، يمكنها أن تقدم إضافة إلى سوق العمل والاقتصاد المحلي. وذلك إلى جانب الدعم المالي من قبل مختلف الشركاء للمشاريع المقنعة.

مؤسسات ثقافية ناشئة يديرها طلاب الجامعات

في ظل الوضع الثقافي القائم في البلاد، والذي أشرنا إليه في بداية المقال، قد يبدو من الصعب أن يتوجه طلاب لا يملكون لا الخبرة ولا الإمكانيات المادية اللازمة نحو الاستثمار في الصناعات الثقافية، لكن يبدو أن المحرك الأساسي في عالم المقاولاتية يرتبط بالإبداع قبل كل شيء، حيث نجح العديد من الطلاب الجزائريين بإقناع الخبراء في جامعاتهم بأفكار مبتكرة في قطاع الصناعات الثقافية. وبالتالي استفادتهم من دورات تدريبية وورشات ميدانية حول نموذج الأعمال والتسويق الإلكتروني والمحاسبة، ومرافقة من حاضنات الأعمال لتطوير أفكارهم وتجسيدها على أرض الواقع.

وتتنوع أفكار الطلاب بين النشر، الأدب، الفنون التشكيلية ومهن السمعي البصري وغيرها، تستند أساسًا إلى الرقمنة والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. وتقدم نماذج مصغرة عن مشاريع مستقبلية لشركات ناشئة في مجال الصناعات الثقافية موجهة للسوق الجوارية أحيانًا، والسوق الوطنية أحيانًا أخرى. ويمكن هنا الإشارة إلى بعض المشاريع على سبيل المثال لا الحصر لطلاب احتفلوا نهاية السنة الماضية بشهادات تخرّج ومؤسسات ناشئة بشكل مزدوج.

طالبة خلال مناقشة مشروع تخرج مؤسسة ناشئة من قسم العلوم الاجتماعية، وطالب من كلية الفنون والثقافة أثناء مناقشة مشروع تخرج مؤسسة ناشئة 


أفكار مبتكرة لصناعة ثقافية محلية

تقوم فكرة المشروع الأول على تأسيس شركة ناشئة في مجال الثقافة، تعتمد على تقنيات مبتكرة في نشر القصص المصورة الموجهة للأطفال باستخدام الذكاء الاصطناعي، بحيث تسمح هذه التقنيات للطفل بتلقي محتوى القصة بشكل مسلّ وتعليمي في نفس الوقت، مع إمكانية تحويلها من قصص مصورة جامدة إلى قصص مصورة متحركة، مع إمكانية تطوير المنتجات الثقافية التي تقدّمها الشركة الناشئة في قطاع النشر بشكل عام وأدب الطفل بشكل خاص. 

وفي الثقافة دائمًا، يقدم المشروع الثاني مخططًا لإطلاق مؤسسة ناشئة تعمل على تطوير تطبيقات خاصة بالرسامين والفنانين هواة الموسيقى، التمثيل، المسرح وكتاب السيناريو وغيرهم بعرض خدماتهم ومنتجاتهم على الزبائن المحتملين، وربطهم بأرباب العمل كالمنتجين والمخرجين وأصحاب المعارض، وبالتالي تقريب الفرص وفتح آفاق لرفع الإنتاج الثقافي في هذه المجالات وإحيائها.   

وفي مجال النقد، ظهرت تطبيقات خاصة بخلق فضاءات حوار ومناقشة أحدث الأعمال الفنية والأدبية الصادرة محليًا وتبادل وجهات النظر حول قيمتها الإبداعية والجمالية وتلقي الجماهير لها، ومدى عمق رسالتها. وتُبني على تلك المحادثات العميقة مقالات تحليلية نقدية من شأنها المساهمة في رفع مستوى الإنتاج الفني والأدبي داخل الجزائر في ظل أزمة النقد البناء المتخصص في البلاد، سواء الخاص بالإنتاج التلفزيوني والسينمائي أو الأدبي.

وفي مجال السياحة والتراث، برزت العديد من المشاريع المميزة، التي تهدف إلى إحياء السياحة الثقافية داخليًا، من خلال تطوير تطبيقات رقمية تربط السياح بالوكالات والمرشدين من جهة ومن خلال تصميم خرائط وكتيبات مصورة بطرق مبتكرة للتعريف بتاريخ وثقافة وتراث المناطق والمعالم الأثرية في مختلف ربوع الوطن، وتقديمها في شكل قصصي جذاب، على غرار استخدام الذكاء الاصطناعي في توليد صور الشخصيات التاريخية وتحديثها وتحريكها.



تحدّيات النجاح في الصناعات الثقافية

وتعدّ هذه الأفكار والمشاريع التي يعمل أصحابها على تطويرها أو تلك التي نجح أصحابها فعليًا في تحويلها إلى مؤسسات ناشئة، من الأشياء التي تبعث الأمل على إمكانية أن نشهد نموًا في قطاع الصناعات الثقافية في الجزائر على يد الطلاب والشباب المتحمسين للخوض فيه والاستثمار في تقديم منتجات وخدمات ثقافية مميزة، لجمهور وزبائن محتملين متعطشين لإنتاج فني، موسيقي، تلفزيوني، سينمائي بصبغة محلية، ولحرفيين وفنانين يبحثون عن تسويق إبداعهم وتقديم خدماتهم في التصميم، الديكور، الحرف التقليدية وغيرها.

إن النجاح الأول الذي يجب تحقيقه في هذه المرحلة هو خلق رواد أعمال شباب جزائريين مدركين لحجم الفرص التي يوفرها قطاع الصناعات الثقافية لنمو استثماراتهم ومستعدين للخوض فيه والتوجه نحو المنتجات الإبداعية المبتكرة، ولكن هذا النجاح يحتاج إلى نجاحات أخرى، أهمها النجاح في تحويل الأفكار المبتكرة إلى مؤسسات ناشئة خلاقة للثروة ومناصب الشغل إذا ما نظرنا إلى الثقافة كصناعة تقدّم منتجات موجهة للبيع في الأسواق والاستهلاك من قبل الزبائن. ويتبعه النجاح في تطوير هذه المؤسسات الناشئة ونموها على الصعيد الوطني ومن تم قدرتها على المنافسة خارجيا ومساهمتها في تسويق المنتجات الثقافية الجزائرية على المستوى الدولي.

ويبدو الوضع الحالي مبشّرًا، بالنظر إلى الأرقام التي كشفت عنها اللجنة الوطنية للابتكار وحاضنات الأعمال الجامعية في الجزائر، مؤكدة عن وصول عدد مشاريع تخرّج الطلاب الخاصة بمؤسسة ناشئة إلى 2400 مشروع السنة الماضية، جميعها قابل لأن يتحوّل إلى مؤسسات مصغرة قادرة على خلق الثروة ومناصب الشغل، منها 734 مشروع تحول إلى شركات مصغرة فعليًا، فيما بلغ عدد طلبات براءة الاختراع 853 طلب خلال الموسم الجامعي الماضي، لا سيما في ظل الشراكة التي تجمع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ووزارة اقتصاد المعرفة والمؤسسات الناشئة الرامية إلى تشجيع الطلاب على إنشاء شركات مصغرة ترتكز على الابتكار وتطوير مشاريعهم قبل التخرج واختبارها حتى تصل إلى مستوى نموذج صناعي واقتصادي.