Print
فارس الذهبي

شاعر الفلاسفة: مدينتان وتمثالان

12 مارس 2023
هنا/الآن

في الخامس عشر من شهر آذار/ مارس الحالي ستتم عملية تدشين تمثال أبي العلاء المعري الذي قام بإنشائه النحات السوري الإسباني عاصم الباشا في مدينة غرناطة، فبعد سنوات من الانتهاء من إشادة التمثال الرأسي الضخم لفيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة، بقي حبيس المشغل في الجنوب الإسباني، حيث كان من المفترض أن يتم نقله إلى ساحة ما في باريس ولكن التدابير الإدارية والتمويلية أعاقت تنفيذ المشروع حتى استقر الرأي على التوافق مع بلدية مونتروي بالقرب من باريس على استقبال العمل الفني الضخم ليكون في إحدى ساحاتها. والعمل الفني النحتي أتى إلى النور بفضل جمعية "ناجون" السورية التي تنشط في أوروبا وخصوصًا في فرنسا، والتي أطلقت حملة تبرعات قادها الفنان فارس الحلو، صاحب الخبرة الكبيرة والتاريخ الحافل فيما يختص بإقامة ملتقيات النحت في سورية التي نتج عنها تزيين عدد من المدن السورية بأروع الأعمال النحتية في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، وقامت "ناجون" من أجل هذا بجمع أكبر قيمة ممكنة من تكاليف إقامة التمثال الذي تبرع النحات الباشا بجهده لتصميمه وتنفيذه بمساعدة عدد من الفنانين الزائرين في مرسمه في جنوب إسبانيا. ومع انتهاء العمل الفني بمنحوتة "رأس المعري"، بدأت المفاوضات من أجل نقله إلى سورية في مدينة معرة النعمان، حيث تم تدمير تمثال أبي العلاء المعري الأساسي، الذي يتمركز قبالة متحف المعري في قلب المدينة، والذي تم إطلاق النار عليه عدة مرات من قبل جهات مجهولة، قبل أن تنزل به فصائل متشددة ومتطرفة، يرجح أنها على صراع مع الجيش الحر والنظام، "القصاص" وتفصل رأسه في فعل أثار ردود أفعال وإدانات محلية وعالمية من قبل جميع الأطراف، فالشاعر والفيلسوف المعري يعتبر رمزًا للشعر وللفلسفة في الأدب السوري والعربي على حد سواء، كما يمثّل على ذلك كتاب "رسالة الغفران" الذي وصف فيه المعري رحلة بطل الحكاية المتخيلة "ابن القارح" إلى السماء فيدخل الجنة برفقة رضوان، خازن الفردوس، ويقابل عددًا من الشعراء المتوفين المقيمين هناك مثل زهير بن أبي سلمى وحسان بن ثابت والنابغة الجعدي والنابغة الذبياني، ثم ينتقل إلى النار ويقابل هناك عددًا آخر من الشعراء الوثنيين من أهل النار كما صنفهم المعري، مثل عنترة بن شداد والمهلهل وبشار بن برد وطرفة بن العبد وغيرهم، فيسامرهم ويتحدث معهم عن شؤون الجنة والنار والشعر والفلسفة، ويعلق المعري بحواش شعرية ونثرية على كل ما جرى مع البطل في السماء.

بدأت المفاوضات من أجل نقله إلى سورية في مدينة معرة النعمان، حيث تم تدمير تمثال أبي العلاء المعري الأساسي، الذي يتمركز قبالة متحف المعري في قلب المدينة

يعدّ كتاب "رسالة الغفران" من أجرأ ما كتب باللغة العربية في كسر الحواجز بين الواقع والمتخيل، ومزاوجة للشأن الديني بالشأن الحياتي، ولربما هذا ما أزعج الفصائل المتشددة، إلى جانب اشتهار المعري بشعره الفلسفي الذي يناقش شؤون الحياة والموت وما وراء الموت والوجود والكينونة.

يُذكر أنه في عام 1944 كلف الفنان السوري فتحي محمد "قباوة" بإقامة نصب رأسي للشاعر المعري ليكون في مقدمة المتحف الذي سيقام للشاعر في مسقط رأسه معرة النعمان، والذي فاز عنه بجائزة المجمع العلمي في ذات السنة. والتمثال بطول 170 سنتيمترًا، وهو مقطع رأسي مع الكتفين للمعري، جسّد فيه الشاعر المذهب اليوناني في التمثيل والتكوين، جُسّدت فيه ملامح الشاعر عبر إبراز الجوانب النفسية والطبيعة الفلسفية للرجل، وكانت تلك خطوة متقدمة في عالم النحت السوري والعربي؛ مركزًا على التفاصيل الكبيرة في اللحية والعينين اللتين صنعهما دون بؤبؤ، فالمعري كما هو معروف رهين المحبسين فاقد للبصر، فكان لزامًا على المثّال أن يركز على الشكل العام والنظرة الفلسفية التشاؤمية للوجود كما رآها المعري.

لعل التناقض بين فتحي محمد وعاصم الباشا في تمثيل العين كنحت يجسد الفرق بين البصر والبصيرة والتي امتاز بها المعري


باقتراح من الأديب الدكتور طه حسين، ولحبه الشديد للشاعر (أبو العلاء المعري) الذي أنجز عنه أكثر من كتاب هام، وبمناسبة الألفية الاولى لوفاته تمت إقامة مهرجانات له في كل من مسقط رأسه معرة النعمان ودمشق وحلب واللاذقية وبيروت عام 1944م، وأتى طه حسين على رأس وفد لحضور تلك المهرجانات برفقة الأديب الكبير المازني. واستقبلهما كبار الشخصيات السياسية والأدبية والدينية في معرة النعمان وباقي البلاد السورية، مثل خليل مردم بك وحكمت الحراكي ومحمد كرد علي وسامي الكيالي وبدوي الجبل. وألقى طه حسين عددًا من الكلمات حول ذكرى ألف عام على الرحيل الكبير للشاعر المعري قرب قبره الذي تحول لاحقًا إلى متحف خاص للشاعر. تحدث حسين بشكل خاص حول مواجهة المعري مع المتزمتين والمتشددين في زمنه، وضرورة تحكيم العقل والضمير في كافة شؤون الحياة وكسر فكرة النقل دعمًا لإعمال العقل.

ولعل وجود هذا الكم الهائل من المثقفين والكتاب والفلاسفة، من مصر وسورية، تكريمًا للذكرى الألف لرحيل المعري الكبير، دليل على أهمية وخلود هذا الرجل في ضمير الأمة العربية والشرق بأكمله، ودليل كبير على اعتراف طه حسين والمازني وبدوي الجبل وعمر أبو ريشة وغيرهم ببنوتهم الفكرية لهذه القامة الفلسفية الخالدة.

في ذات الاحتفال تم تدشين العمل النحتي الهام للمثّال فتحي محمد، الذي سيتم فصل رأسه لاحقًا بعد 67 عامًا في خضم الفوضى التي أعقبت الثورة السورية عام 2011. فهؤلاء الذين حذّر منهم أبي العلاء المعري ومن بعده طه حسين، ومن ثم ملايين الشعب السوري التي نزلت الشوارع، استطاعوا الانتقام من رمز فني مهيب للعقل في سورية.

تحدّث طه حسين بشكل خاص حول مواجهة المعري مع المتزمتين والمتشددين في زمنه، وضرورة تحكيم العقل و الضمير في كافة شؤون الحياة وكسر فكرة النقل دعمًا لإعمال العقل

سبق للنحات عاصم الباشا أن نفذ عملًا رأسيًا بحجم أصغر لأبي العلاء المعري في الثمانينيات، وقد استند فيه على قراءات خاصة له وعشق شخصي ربطه بفكر المعري، وشعره وكتاباته، فعمل الباشا في المنحوتتين على إبراز البصيرة العميقة للمعري كفكرة أساسية للتمثال إضافة إلى التركيز على أنسنة العمل فجسّده بلا عمامة على نقيض فتحي محمد، وجسده كذلك بلحية فلسفية ممتدة امتداد المتصوفة والنساك في إشارة إلى اعتزال الرجل الحياة اليومية، وغرقه في تأملاته الفكرية والفلسفية الوجودية، ولعل التناقض بين فتحي محمد وعاصم الباشا في تمثيل العين كنحت يجسد الفرق بين البصر والبصيرة والتي امتاز بها المعري، هو الفرق الأساس بين المنحوتتين حيث قام الباشا بجعل العينين فاغرتين أمام البصر مفتوحتين على داخل الرأس وكأن به يقول بأن المعري كان لا يرى بعينيه بل بعقله، وبأن بصيرته هي من تحكم أفكاره وليس بصره، وفي هذا عمق كبير للمنحوتة، ومعادل موضوعي عظيم يبرز باختصار تجسيدي ما كان يعيشه المعري ذاته. بينما ركز فتحي محمد على البنية الجسمانية لثياب المعري ولحيته المؤسلبة، وعمامته الرائعة، مجسدًا إياه على طريقة التماثيل النصفية من المرحلة الكلاسيكية كما ذكرنا، بينما أتت العينان مسطحتين بدون بؤبؤ فقط. أما اللحية فمنمقة ومشذبة مثل صورة الفلاسفة الكبار الذين تخيلهم فنانو عصور النهضة الأوروبية، في حين صورها الباشا كلحية فيلسوف زاهد هائم على وجهه في الفيافي، باحثًا عن الحقيقة والحياة، وفي هذا جزء من حياة المعري كثير الانتقال والتنقل في حياته، حاسر الرأس مثل أي رجل عجوز مهيب من منطقة شرق المتوسط، حيث تكفلت العينان فقط بإبراز عمق وفلسفة هذا الرجل.

تبدو المقارنة بين العملين من صالح أهل الفن ومعحبي النحت في سورية والعالم، والأهم من هذا تلك الرسالة القوية التي وجهها القائمون على المشروع من جمعية وفنانين، حول أهمية الفن وخلوده في مواجهة العنف والقمع والبتر والمصادرة، وتأكيدًا على استمرار رسالة أبي العلاء المعري المستمرة في الأرض التي نشأ بها وعليها كتب شعره المتفلسف، وتثبيتًا لأحقيته بمواطنته وانتسابه، حيث لا يحق لأحد مهما كان مشربه أو مرجعيته ترحيل أو إخفاء أو تهجير رمز وطني وعلمي وأدبي هائل مثل أبي العلاء المعري. وسيبقى تمثاله معروضًا في ساحة مدينة مونتروي الفرنسية حتى يتم نقله بمعرفة المختصين في يوم ما إلى سورية الحرة لتتزين به أهم ساحة في معرة النعمان، مسقط رأسه.