Print
برلين- ضفة ثالثة

مهرجان الفيلم العربي في برلين: النكبة الفلسطينية ركيزة الصورة

12 مايو 2023
هنا/الآن
عادة ما تعرض أفلام سينمائيّة عربية في مهرجانات ألمانيَّة، كالحضور العربي في مهرجان الفيلم الوثائقي بمدينة لايبزغ، ومهرجان "برلينالي" المشهور في برلين. ولكن المميّز في مهرجان الفيلم العربي هو أنّه يعرض فقط سينما عربية، مصنوعة باللغة العربيّة، وتطرح بالدرجة الأولى قضايا عربية. أنهى المهرجان، أخيرًا، دورته الرابعة عشرة، التي امتدّت من 26 أبريل/ نيسان حتّى 5 مايو/ أيار، عُرِضَت في أثنائها باقة متنوّعة من الأفلام العربية. ونعرض في هذا النص لمحةً عن باقةٍ مختارة منها، لاستحالة تقديم نظرة شاملة حول البرنامج الكلّي للمهرجان.
الأفلام مختارة من جميع الدول العربيّة، وكانت النكبة الفلسطينية ركيزة المهرجان الأساسيّة، وموضوعه المحوري في دورة هذه السنة. ولا يخفَى على أحد بأنّ تناول موضوع النكبة، وقضيّة الشعب الفلسطيني، وواقع الأبارتهايد الإسرائيليّ، هو من "المواد المشعلة" للحساسيّة مع الخطاب الثقافي الألماني السائد، وذلك بسبب تاريخ ألمانيا المعروف تجاه المسألة اليهودية في أوروبا حتّى النصف الأوّل من القرن العشرين. من السهل جدًا اتهام ووصف أي فعالية فلسطينيّة تتناول موضوع الاحتلال بعبارات وصفيّة جذريّة مثل "البنية الاستعمارية الإسرائيليّة"، و"نظام الفصل العنصري"، و"السكان الفلسطينيين الأصليين"، بأنها فعالية معادية للساميّة. المقاربات الفنية الأكثر قبولًا من قبل النزعة الثقافية السائدة هي التي "تفصل بين الفن والسياسة"، وتروّج لجماليات مجرّدة متعالية عن التاريخ السياسي للبشر، أي حرفيًا عزل الإنتاج الفني الفلسطيني عن النقد الجذري للبنية الاستعمارية.
افتتح المهرجان بفيلم "المحكور ماكي بكيش" (2022) للمخرج فيصل بوليفه. الفيلم روائي، ومدّته 110 دقائق، ويدور حول قصّة فاطمة الزهراء. فاطمة أم تضطرّ إلى العمل في الخدمة الجنسيّة كي تطعم ابنها الوحيد سليم. مشاهد الفيلم صورت في أمكنة مختلفة هربت إليها فاطمة خوفًا من الفضائح التي تشتعل حولها في كلّ مكان. ينتهي الفيلم باستقرار فاطمة في مدينة طنجة، حيث تعيش قصّة حب ووعدًا بحياةٍ أفضل، ولكنّ العكس يحصل ويعيد التاريخ نفسه. ومن تونس، عرض فيلم "أشكال" (2022) للمخرج يوسف الشابي. الفيلم روائي، ومدّته 92 دقيقة، مميّز من الناحية البصريّة. كاميرا الشابي تلتقطُ جماليّات التحوّل من الفانتازيا إلى الواقع. فيلمٌ يبدو وكأنّه ممكن الوقوع فعلًا. تدور قصّة الفيلم حول موتٍ يُشتَبه بأنّه انتحار، ولكنّ تكرار ظهور الجثث من المكان نفسه يكشفُ عن جريمة تكتمُ الأنفاس.




من فلسطين، قدّمت المخرجة جمانة منّاع فيلمها "اليد الخضراء" (2022) بروح دقيقة وبارعة. 63 دقيقة فقط مليئة بالبحث في قوانين المحميات الطبيعية الإسرائيليّة. عمل مسيس حتّى النخاع من دون الوقوع في فخّ الهوس بالشعار السياسي. "اليد الخضراء" هو قطعة فنيّة تظهر أنّ قوانين المحميات الطبيعية في دولة الأبارتهايد قلقة فقط من علاقة الفلسطيني بأرضه. القلق ليس حول الطبيعة، بل من علاقة الفلسطيني بالطبيعة.
من الجزائر عرض فيلم "الأخيرة" (2022)، من إخراج مشترك بين داميان أونري، وعديلة بن مراد. الفيلم مدّته 110 دقائق، وحقبته الزمنية الروائية هي الجزائر في القرن السادس عشر. القصة هي حول امرأةٍ تتحلّى بشجاعةٍ أسطورية في ظلّ ظروف سياسية صعبة. مشاهد الفيلم غنية من حيث الصور الفنية والتفاصيل الجمالية.
من لبنان، جاء فيلم "السهل الممتنع: عن الحوار مع سمر يزبك" (2022) للمخرجة رانيا أسطفان. الفيلم تم تصويره مع الكاتبة والروائيّة السوريّة بين عامي 2013 و2019، وسؤال يزبك وأسطفان الأساسي هو: هل يستطيع الفن، عمومًا، والسينما والأدب، خصوصًا، أن يسرد المأساة؟ وكيف يتعامل الفن مع مآسي الحرب والموت والعنف.
من فلسطين، مرّة أخرى، عرض فيلم "علم" (2023)، للمخرج فراس خوري، وهو فيلمه الأوّل. الفيلم المشبع بالكوميديا العفوية يتناول في 110 دقائق قصّة مجموعة من الشبان والشابات الفلسطينيات في إحدى المدارس الثانوية بقرية في شمال الجليل. تامر يقع في غرام ميسا، ويقرران مع مجموعة من التلاميذ إنزال العلم الإسرائيلي المرفوع فوق المدرسة، واستبداله بالعلم الفلسطيني. في الذكرى السنوية للشتات، وفقدان الأرض، يكتشف تامر فقدانه لنفسه. الفقدان الفردي كتمثيل للفقدان الجماعي في ظلّ واقع نظام الاحتلال.

من الفيلم المغربي "شظايا السماء" (2022) 

من المغرب، عرض فيلم "شظايا السماء" (2022)، من إخراج عدنان بركة. الفيلم وثائقي هذه المرّة، ويتناول قصّة رجلين يبحثان عن أحجار نيزكيّة يفترض أنّها سقطت من السماء في الصحراء المغربية القاحلة. المشاهد الواقعية من الصحراء الممتدة حتّى خط الأفق تحبس الأنفاس لجمال صورتها. رجلان يبحثان عن الشظايا، الأوّل هو محمد البدوي، القروي الذي يقيم بالقرب من مكان السقوط المفترض، والذي يريد إيجاد الأحجار كي يتخلّص من الفقر والبؤس. وعبد الرحمن، العالم المغربي الذي يطمع بهذه الأحجار لغايات بحثيّة. رغم أنّ الرجلين لا يلتقيان أبدًا في عملية البحث التي يقومان بها، لكنّ الأحجار تضعهما في حوارٍ وجوديّ مستمرّ.
ومن تونس، جاء فيلم "حرقة" للمخرج لطفي ناثان. الفيلم يدور حول علي، وهو شاب تونسيّ يعيش حياة مهمشة وغير مستقرَّة، حيث يكسب قوت يومه عن طريق بيع الغاز المهرب في شوارع تونس. علي مجبر على تحمل مسؤوليَّة أختيه الصَّغيرتين بعد وفاة والده. تتراكم الدُّيون عليه، ويصبح مع أختيه في مواجهة خطر الطَّرد من المنزل الذي يُؤويهم. يُحاول عليّ البحث عن عمل آخر لينقذ أسرته من الضَّياع، فتبوء كلُّ محاولاته بالفشل في مجتمع يسوده الظلُّم، ويتفشَّى الفساد في سلطته. ضاقت السُّبل أمامه، ليحرق ضيقها أعصابه كلَّ يوم. حلٌّ واحِد يبقى أمامه، لا أقسى منه، ولا جدوى له في سواه. الفيلم الطوِيل الأوَّل لمخرجه لطفي ناثان يعيد إِلى الأذهان المآسي التي اندلعت في سياقها الشُّعلة الأولى للثَّورات التي هزَّت العالم العربيَّ بدءًا من تونس قبل عقد مضى من الزَّمان. عُرض الفيلم للمرَّة الأولى في مسابقة "نظرة ما" ضِمن فعاليَّات مهرجان "كان" السّينمائيَّ الدولي، وفاز آدم بيسا بجائزة أحسن ممثل بعد أدائه العبقري لشخصيَّة علي.
المميز في مهرجان الفيلم العربي في برلين هو أنّه فعالية عربية تجمع عربًا وأوروبيين مهتمين بالثقافة والسينما العربية في مكانٍ، يُحكَى فيه بالعربية أولًا.