Print
نديم جرجوره

لماذا تغيب أعمالٌ عربيّة تُعنى بالتجسّس الإسرائيلي؟

19 سبتمبر 2023
هنا/الآن

5 نساء ورجال، في أعمارٍ تتراوح، حاليًا (2023)، بين 63 و78 عامًا، يروون حكاياتهم/ حكاياتهنّ مع أحد الأبوين (أمّ، أب)، يعمل جاسوسًا في الـ"موساد" الإسرائيلي. حكايات عن طفولة ومراهقة وشباب، مرويّة في تحقيقٍ بعنوان "لم أستطع مناداته بجاسوس، قبل وفاته"، مع عنوان مُكمِّل له: "أبناء عملاء الموساد يتحدّثون عن حياةٍ في ظلّ الأكاذيب"، يُنجزه إيتاي أبراموف، وينشره الموقع الإلكتروني Ynetnews.com، التابع لـ"يديعوت أحرونوت" (صحيفة يومية إسرائيلية)، في 8 سبتمبر/ أيلول 2023. تحقيقٌ يكشف جانبًا من علاقة ابن/ابنة بأب/ أمّ، والأخيران يتجسّسان لصالح دولةٍ، "تُنشَأ" باحتلالها فلسطين.

امرأة ورجل من بين هؤلاء يُنبِّهان إلى علاقة السينما/ التلفزيون بموضوع حسّاس ومهمّ، فيه أسرار كثيرة، واشتغالات عدّة تكشف شيئًا من تلك الأسرار، أو من تلك السيرة الخاصة بالجاسوس/ الجاسوسة. علاقة مرتبطة بالحيّز العربي، وإنْ يُنتَج عملٌ بأموال أوروبية، وإنتاجٌ كهذا يطرح سؤال البنية الفنية والدرامية والجمالية للعمل، وفي هذه البنية خللٌ واستسهال، رغم حِرفية ما في صُنع حلقات تلفزيونية ستكون عادية.

صوفي كوهين (63 عامًا)، ابنة إيلي كوهين/ كامل أمين ثابت (1924 ـ 1965)، أحد أبرز عملاء إسرائيل، الذي يُفضح أمره قبل وقتٍ قليلٍ على "انتخابه" رئيسًا للجمهورية السورية. يتسحاق ليفانون (78 عامًا)، ابن شولاميت كوهين (1917 ـ 2017)، زوجة يوسف الكشك، اليهوديّ اللبناني المُقيم في "وادي أبو جميل" (حيّ اليهود اللبنانيين في بيروت)، الناشطة استخباراتيًا في لبنان، والعاملة أساسًا على "هجرة" يهود سورية ولبنان والعراق إلى دولة الاحتلال، بشتّى الوسائل. للثلاثة الآخرين أهداف ووظائف مختلفة.

(***)

التوقّف عند كوهين وليفانون منبثقٌ من إنتاج أعمال للسينما والتلفزيون عن والديهما، مع تفاوتٍ واضحٍ في المستويات الفنية والدرامية والجمالية، يُبيِّن (التفاوت) "براعة" الوثائقي في بعضِ كشفٍ وسردٍ وتقديمٍ لمعلومات، تمتزج كلّها بتحليل متنوّع المضامين، وفقًا للقائلين به. التنويع البصري عنهما غير كثير: سلسلة تلفزيونية عن إيلي كوهين، وفيلم لبناني يبدأ كمشروع تلفزيوني قبل تحويله، فجأة، إلى فيلمٍ سينمائي(!)، عن شخصيةٍ، سيكون لها وثائقيّ تلفزيوني يلتزم شرطه التوثيقي العمليّ. للسلسلة عنوان: "الجاسوس" (2019، موسم واحد/ 6 حلقات)، تُنتجه أساسًا OCS (شبكة تلفزيونية فرنسية)، وتعرضه المنصّة الأميركية "نتفليكس" بدءًا من 6 سبتمبر/ أيلول 2019. فيلم "اللؤلؤة" (2009) يُنجزه فؤاد خوري، عن نصٍّ لأنطوان فرنسيس، والعنوان صفةُ الشخصية النسائية الأساسية، التي تُعتَبر "لؤلؤة الاستخبارات الإسرائيلية"، التي (اللؤلؤة) لها وثائقيّ تُنتجه وتبثّه "الجزيرة الوثائقية"، بعنوان "شولا كوهين" (2014)، لرانيا الرافعي (كتابة بيسان طيّ).

السلسلة الأميركية تعتمد، أساسًا، كتاب "الجاسوس القادم من إسرائيل" (الطبعة الإنكليزية، 1969) لأوري دان (صحافي وكاتب ومخرج) ويشعياهو بن بورات (صحافي وكاتب). يُقال إنّ "اللؤلؤة" مرتكز، بدوره، على معلومات متفرّقة، لِمَصادر بعضها حضورٌ في عمل "الجزيرة الوثائقية". أعمالٌ متفرّقة تُعرض هنا وهناك، منها: "الجاسوس المستحيل" (فيلم تلفزيوني، 1987) لجيم غودّار (تمثيل إيلي والاش وجون شيا). لكنْ، لا شيء جدّيًا، سينمائيًا وتلفزيونيًا، بشكل عام.

شولاميت كوهين زوجة يوسف الكشك، اليهوديّ اللبناني المُقيم في "وادي أبو جميل" (حيّ اليهود اللبنانيين في بيروت)، الناشطة استخباراتيًا في لبنان وإيلي كوهين/كامل أمين ثابت أحد أبرز عملاء إسرائيل، الذي فضح أمره قبل وقتٍ قليلٍ على "انتخابه" رئيسًا للجمهورية السورية.

(***)

استعادة هذه الأعمال، انطلاقًا من التحقيق الصحافي الإسرائيلي، غير متحرّرةٍ من سؤال أساسي: ما سبب/ أسباب غياب نتاج درامي، في السينما والتلفزيون العربييّن تحديدًا، يتناول "حكاياتٍ" موثَّقة كهذه؟ "الأعمال الجاسوسية" في الدراما العربية حاضرةٌ، رغم ندرتها الفاقعة. الأمثلة قليلة، لكنْ، لا بأس ببعضها، وإنْ بغلبةٍ مصرية: "دموع في عيون وقحة" (1980، 14 حلقة) و"رأفت الهجان" (1988، 3 مواسم/ 56 حلقة)، والعملان ليحيى العلمي مخرجًا وصالح مرسي كاتبًا، و"الحفّار" (1996، 22 حلقة) لوفيق وجدي مخرجًا، تأليف صالح مرسي وبشير الديك (هذه كلّها مستمدّة من وثائق ومستندات موثَّقة مختلفة). هذه نماذج مرتبطةٌ بالتجسّس المصري في إسرائيل، لا العكس. "الجاسوس" و"اللؤلؤة" و"شولا كوهين" عن جاسوسَين إسرائيليين في سورية ولبنان.

الإجابة غير متمكّنةٍ من حسم المسألة. الإنتاج التلفزيوني العربي، منذ سنين مديدة، مكترثٌ بما يرفع نسبة المُشاهدة، مع أنّ سببًا كهذا يُفترض به أنْ يؤدّي إلى إنتاج "أعمال جاسوسية"، يُمكن لبراعةٍ كتابية وإخراجية، أساسًا، أنْ تجعلها مُشوّقة ومُثيرة لاهتمامٍ ومتابعة. لكنْ، أيكون سبب غياب هذا الجانب (التجسّس الإسرائيلي في دول عربية) مرتبطًا بـ"منع" السلطات العربية الحاكمة فتح ملفاتٍ كهذه؟ أمْ أنّ المنع يُحافظ على السرّية، والسرّية تُخفي فضائح تتمثّل بخلل أمني/ استخباراتي يُتيح لعملاء إسرائيل التسلّل، قبل انكشاف المتسلّلين (والكشف دافعٌ إلى إنتاج أعمال كهذه، على الأقلّ)؟ أيكون انفضاض الإنتاج العربي عن ملفّات كهذه، في مقابل اهتمامه ببعض ملفاتٍ يُظهر "بطولات" عملاء مصريين في إسرائيل، نابعٌ من رغبةٍ في تجنّب "صدامات" مع جهاتٍ سيادية، هنا وهناك؟ ألن يكون واقع الأمر العربي، المتمثّل بسطوة الأنظمة الحاكمة، سببًا لعدم تناول هذا الجانب، لأنّ الأنظمة نفسها تبغي تمجيدًا لها فقط لا غير، ومخرجون ومخرجات كثيرون غير قابلين لخضوعٍ لـ"الرواية الرسمية"؟

(***)

"اللؤلؤة"، إنْ يكن تلفزيونيًا أو سينمائيًا، غير مشغول بمهنيّةٍ مطلوبة بصريًا. مرتبك بسرده، وبأداءاته التمثيلية (دارين حمزة تؤدّي فيه شخصية الجاسوسة الإسرائيلية، بشيءٍ واضح من "حِرفية" متواضعة)، وبنصّه الدرامي، رغم محاولته إشهار "بطولة" جهة أمنية/ استخباراتية لبنانية في تمكّنها من "أوّل" كشفٍ لعمالة إسرائيلية في البلد. وثائقيّ "الجزيرة"، لاستناده إلى تقنيات التحقيق التلفزيوني المهنيّ، أقدر على تقديم معلومة، وقول تحليل، وإدخال بصريات (غرافيكس إبراهيم رمضان) في متن الحكاية، بما يتلاءم مع السياق التوثيقي ـ التأريخي. الإضافة الأخرى مُتمثّلةٌ بأداءٍ تمثيلي لأفرادٍ غير واضحةٍ ملامحهم/ ملامحهنّ أمام الكاميرا، فالعمل الاستخباراتيّ ملفوفٌ بعتمةٍ وغموضٍ، وهذا ـ في عمل "الجزيرة الوثائقية" ـ مناسبٌ للمعنى المهنيّ البحت للعمل الاستخباراتيّ، مع جمالية فنية متواضعة.

الجهة الأمنية/ الاستخباراتية تلك معروفةٌ باسم "المكتب الثاني"، أو "الشعبة الثانية" بحسب بعض المشاركين في عمل "الجزيرة الوثائقية"، زمن رئيس الجمهورية اللبنانية السابق فؤاد شهاب (1958 ـ 1964). "شولا كوهين" (الجزيرة الوثائقية) يقول هذا علنًا، بألسنة ضباطٍ عاملين فيه، لبعضهم دور أساسيّ في إلقاء القبض على العميلة الإسرائيلية. "اللؤلؤة" سيءٌ، فنّيًا وتقنيًا وجماليًا. أهمية الموضوع، المرتكز أساسًا على إلقاء القبض على الجاسوسة بعد متابعة سيرتها الحياتية/ المهنية، غير متلائمة وعملٍ فنيّ بصري، يُفترض به أنْ يستفيد من واقعٍ، ليقول شيئًا مُفيدًا، في السينما على الأقلّ.

في وثائقيّ "الجزيرة"، تفسيرٌ دقيقٌ يوضح معنى مفردة "موساد". يقول رونين برغمان (محلّل عسكري إسرائيلي) إنّ المفردة تعني "مؤسّسة الاستخبارات والمهمّات الخاصّة". يُضيف ما يكشف مهمّة شولاميت كوهين: "من اسمه فقط، هناك تلميح إلى مسؤولية الموساد عن المهمات العديدة التي تختلف جدًا عن بعضها البعض. الموساد (الجهاز الوحيد) مسؤول عنها في العالم: الاهتمام باليهود في الدول التي لا ينتمون إليها، وتولّي مهمة وضع إطار عمل من أجل مساعدة اليهود في حماية أنفسهم من عمليات القتل المنظّم أينما تواجدوا، وتاليًا مساعدتهم على الهجرة إلى إسرائيل. هنا، يأتي دور شولا كوهين".

في السلسلة التلفزيونية "الجاسوس" شيءٌ من بهتان، ينسحب على جوانب فنية ودرامية مختلفة، أوّلها أداء البريطاني ساشا بارون كوهِنْ دور إيلي كوهين. أداء مفتعل أحيانًا، فيه شيءٌ من سخرية كاريكاتورية مبطّنة أحيانًا أخرى، وهذه السخرية متأتية من أدوار يُقال إنها "كوميدية ساخرة" للممثل، لكنّها في الواقع ساذجة ومسطّحة ومتصنّعة. سلسلةٌ كهذه عادية، فنيًا ودراميًا وجماليًا، رغم أهميّة المادة الأساسية، وآلية سرد الأحداث، وفقًا لمصادر موثّقة في كتاب لإسرائيليَّين اثنين.

(***)

رغم أهمية الحكايات وخطورتها، تعجز تلك الأعمال عن بلوغ المتوقَّع منها، إذْ يُفترض بأعمالٍ كهذه أنْ تكون سينمائية وتلفزيونية بالمعنى المحترف للمهنتين، وأنْ تكون شهادات بصرية توثِّق مقتطفات من تاريخ المنطقة والناس والمجتمع، وتؤرّخ فنّيًا حقبات وحالات وأحداث، والأحداث جزءٌ من صراعٍ مفتوح مع عدوٍ، يزداد شراسةً وعنفًا في مواجهته فلسطينيين وفلسطينيات، أولًا وأساسًا، كما في دول أخرى متفرّقة، إنْ تكن قريبة منه أو بعيدة.

ملف الجاسوسية، بكل أشكاله ومضامينه وتفاصيله، يُشكِّل مادة سينمائية وتلفزيونية غنيّة بما يُفيد أعمالًا كثيرة، شرط أنْ يوفَّر لها إنتاجٌ سخيّ (يُفترض به أنْ يكون بين يديّ "منتج فني"، لا مجرّد "منتج تجاري" يبغي ربحًا لا أكثر)، وإخراجٌ يُبنى على كتابةٍ تستند إلى وقائع ومعطيات وحكاياتٍ (موثوقٌ بها أو بمن يرويها)، وإنْ تحتاج الكتابة إلى شيءٍ من خيال فني وجمالي ضروري في أعمالٍ كهذه.