Print
يوسف الشايب

يسري الغول يسطّر شهادات تتجاوز الحواس على جدران غزة

19 أكتوبر 2024
هنا/الآن
وصف البروفيسور كمال أبو ديب، كتاب "شهادات على جدران حبيبتي غزة"، للروائي الصامد في شمال القطاع يسري الغول، حيث الإبادة على أشدّها هذه الأيام، بأنه "كتابُ خارق يشبه زلزالًا يضرب الخط الفاصل بين البحر واليابسة، فينقضّ البحر ليفترس الأرض، وتهجم الرمال لتبتلع البحر"، وبأنه "كتابة تتجاوز كل ما رأيناه رأي العين من صور تدمير غزة، والمجازر التي ارتكبتها جحافل الغزاة فيها... هذه مرّة فريدة تكون فيها الكلمة أشدّ وقعًا من الصورة، مرّة تستعيد فيها الكلمة روعة طاقاتها التي انتزعها منها عصر الصورة، فتكون أعظم مأساوية، وأعمق إيلامًا، وأكثر عذوبة وحنانًا في آن واحد، وهذه كتابة يختلط فيها الوعي باللاوعي، والعقل بالجنون، والله بالشيطان، وسلاسة الكتابة باضطرابها، والرقة والعذوبة بالعنف والجلافة".
ولفت أبو ديب حول الكتاب الصادر حديثًا عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في العاصمة الأردنية عمّان، بأنه "ليس هناك في كل ما قرأت كتابة أشدّ قسوة وإرعابًا، وأعظم إبرازًا لوحشية البشر التي تبلغ آمادًا يندر أن نراها إلا في تراث الانتقام التوراتي، ولموت الضمير في العالم غربيًّا وعربيًا، ولمدى العذاب الذي يحلّ بشعب بأكمله يتعرض للإبادة والإفناء بعد عقود من التشريد والاغتصاب، وأشكال مرعبة من الفتك، لكن أيضًا ليس هناك نصّ أروع في تصوير التحام الإنسان بالأرض، والإنسان بالإنسان، وفي تجسيد المحبة والتضحية، والبطولة والصمود، والأمل واليقين".
وأهدى الغول كتابه إلى "غزة بكل ما فيها... البيوت والأطلال والذكريات"، وإلى "الشهداء والأصدقاء، وأحلامنا الغارقة في الدم"، مقتبسًا من وصية الروائي الشاب الشهيد نور الدين حجاح: "ساعي البريد لن يأتي في ظل القصف المتواصل، والصحف لن تحمل أي خبر جديد، بل ستكتفي بمانشيت متكرر: الشمس لم تعد تشرق، بسبب الرماد الناتج عن تدمير كل مدينة، لكن ربما يصدر خبر موتي في النسخة القادمة".
وشهادات الغول تتوزع على ثلاثة عشرًا نصًّا سرديًّا توثيقيًا في آن، حملت عناوين: "وصيّة رجل حالم"، و"الكتابة حين تصير قنبلة"، و"من عمر إلى غسّان: كنّا نِدًا"، و"حياة مغمسة بالدم"، و"عن شوارع المخيم وأشياء أخرى"، و"خوارق العقل في تحويل البيت إلى مقبرة"، و"هل يموت أطفالي أم أطفاله؟!"، و"نزوح نحو اللامكان"، و"عن المكتبة والمقتلة"، و"شيء من وجع الحرب"، و"عن الحرب وأشياء أخرى"، و"تستمر المقتلة"، ليختتمها بـ"مشاهدات لواقع تخيّلي".



وتميّزت الشهادات باعتبارها نصوصًا سردية عميقة المبنى والمعنى، صيغت بحرفية الروائي والقاص المُقتدر، صاحب الرؤية التي تتجاوز ما تراه عيناه، وكأنه يستخدم ليس فقط حواسه الخمس، بل الحواس السادسة والسابعة، وصولًا إلى العاشرة، التي تكمن في ميتا السرد لديه، علاوة على المشهدية السينمائية فائقة الجودة، التي تصوّر لك المشاهد بما لا يمكن أن تراه عبر الشاشات، أو في قاعات العرض السينمائية حول العالم.
في "وصيّة رجل حالم"، عبّر بفانتازيا لا يمكن رغم سمّوها ملامسة فانتازيا واقع غزة المتواصلة قتلًا وتقتيلًا، فكتب: "أحلم أنني سأكتب الوصيّة بقلم أزرق جاف من نوع فاخر، أضع النظارة على أرنبة أنفي، أحكّ شعري المجعّد، المليء بالشيب، بجواري حبوب الضغط والسكري، أسجل انكساراتي وخيباتي وتعاليمي ومواعظي... ولا أعرف كم سيكون عمري حين ذلك، ربّما ثلاثة وسبعين عامًا أو أكثر قليلًا، لكن المصيبة أن هذا الأمر لن يحدث، بعدما انتشرت رائحة الحرب في الأرجاء... دُمّر بيتي وقتل جيراني، نزحنا من مكان إلى آخر، من مركز إيواء إلى بيت صديق حميم إلى الشارع، لذا بتّ أنتظر الصاروخ كي يقضي على ما تبقى منّي، فأنصرف عن الحياة بصخب كما فعلت الصواريخ اللعينة في قصصي ومدينتي".
وممّا جاء في "الكتابة حين تصير قنبلة": "إن الفلسطيني في هذا القطاع المحاصر اليوم بين خيارين: إمّا أن يموت تحت القصف، ويظلّ جسده تحت الركام، أو الموت بطريقة أخرى كالتمزق إلى أشلاء، أو القنص أو حتى الموت العادي نتيجة عدم توفّر الأدوية خصوصًا بعد تدمير المشافي، وعلى رأسها مستشفى الشفاء... ولأن الكلمة لا يمكن لها أن تكون قبرًا، فإن الفلسطيني استحدث طرقًا عديدة في صناعة القبر، كأن يحفر في بيته، وداخل غرفة نومه قبرًا كبيرًا يستع لأهله، كما جرى مع العديد من السكّان في شمال قطاع غزة، أو حفر أي قطعة أرض فارغة حتّى المتنزهات، تمامًا مثل مقبرة شهداء الشاطئ، أو حفر (الجزيرة)، وهي مكان يطلق على المسافة الفاصلة بين شارعين، مزروعة بالورود، ولعلّي لن أنسى كيف قمنا بدفن ابن خالتي حسام عطوة عبد النبي في مخيم جباليا، إبّان نزوحي إلى هناك، في مساحة صغيرة لم تكن تتسع لهذا الجسد المتعطش للحياة".




وفي "هل يموت أطفالي أم أطفاله؟!"، يسرد الغول: "نستيقظ صباحًا للبحث عن الطعام والحطب، نلهث خلف طائرات تأتي متأخرة، تُلقي بالمناطيد المحمّلة بجزء يسير من الطعام، كأننا نجس أو أشباه بشر، نشبه الزومبي في أفلام هوليوود، تسقط (المشاطيح) فوق رؤوس الشبّان الذين يحلمون بحياة كريمة، يموت بعضهم، ويُصاب آخر، نعود، في أحسن الأحوال، بعلبة تونة أو جروح في الجسد، إذ تحوّل الغزّي إلى وحشٍ ضارٍ يريد أن يقتل العالم لأجل أطفاله".
ومن أجواء "نزوح اللامكان"، نستقطع: "يحدث أن تجلس في غرفة صغيرة تطلّ على شارع طارق بين زياد بمخيم الشاطئ، تتأمل المارّة بينما يصدح المذياع بالثورة، تلتهب الأنفاس وتضطرب أحيانًا تبعًا للأخبار الواردة من الميدان... أثناء ذلك يهرع طفلك، يتحدث بصوت مرتفع كأن القيامة قد قامت، وفي يده ورقة، يقول إن جيش الاحتلال الإسرائيلي يطالبنا بالذهاب إلى جنوب قطاع غزة، تحديدًا إلى مواصي خانيونس عبر ممرات آمنة، ولا أمن في كل غزّة... تتأمل الورقة التي ألقيت من طائرة هيلوكوبتر، مخططة بخراط ملوّنة، تحذر المواطنين من أنهم متواجدون في منطقة قتال خطيرة، وأن عليهم الفرار، كأن القطاع واسعٌ ويمكن الهرب منه إلى آخر الدنيا، إذ إن مساحة قطاع غزة لا تتجاوز 365 كيلومترًا مربعًا، ينحشر بداخله أكثر من مليونين ونصف مليون نسمة، جلّهم من الأطفال والنساء، في أضخم تكدّس سكاني عالميًّا داخل مساحة ضيّقة".

يتساءل الغول: "كيف يمكن لشخص غارق في الموت أن يكتب شهادته لموتى آخرين؟"

وعن "المكتبة والمقتلة" يسطّر الغول بمغناطيسية ما يكتب: "كثيرًا ما كنتُ أحلم بقضاء حياتي بين الكتب، أتنقل من كتاب لآخر، ومن معجم إلى موسوعة، أبحث في الفهارس، أتصفح كل يوم عشرات المراجع، تأسرني صفحة هنا وفصل هناك، غلاف هنا وخاتمة هناك، لذا قرّرت أن أصنع داخل بيتي مكتبة، تكون أثرًا من بعدي لأطفالي وجيراني والمهتمين بالقراءة والكتاب في الحي الذي أسكنه، فبدأت منذ كنت في الجامعة بشراء الكتب، خصوصًا الأدبية منها، سيما وأنني كنت في بداية طريقي نحو كتابة السرد (...) كبرت المكتبة داخل البيت، كما تطورت المكتبات داخل البيوت والمدينة... صارت المقاهي أيضًا تجمعات ثقافية، نلتقي فيها من حين لآخر، كتجمّع قرطبة الثقافي الذي قمت بتأسيسه قبل ثماني سنوات، للقاء النخبة وأعلام الأدب في غزة، كذلك مبادرة شغف الثقافية التي ركزتُ فيها على الأدباء الجامعيّين، وما بين مطعم بالميرا ومقهى قرطبة ومؤسسة مسارات وبيت الحكمة، شعرت للحظة أن غزّة كلها مركز وحاضنة لأي مثقف يبحث عن نفسه بين الحروف أو الألوان، كما في محترف شبابيك الذي أصبح مكانًا لإقامة المعارض الفنيّة للفنانين المعروفين والمغمورين، لأجل صناعة الخلود وتثبيت الهوية التي يحاول الاحتلال طمسها وشطبها من ذاكرة العالم، لكن بالتأكيد لن يموت من يرسم أو يكتب شعرًا، فكيف بمن يحمل البندقية ليقاتل".
ولكن "جاءت المقتلة وانتهى حلم الحياة، وليس فقط حلم الكتابة والرسم، إذ عمل الاحتلال خلال ذلك على استهداف الإنسان وليس الهوية فقط، من خلال إبادة جماعية لم يشهد التاريخ الحديث مثيلًا لها، قضت على الحجر والشجر، وصار جلّ اهتمام الفلسطيني في قطاع غزة، الحفاظ على حياته وعائلته، لكنّ ذلك بات حلمًا صعبًا أمام طائرات تُلقي بالبراميل المتفجرة فوق بيوت المخيّمات المتواضعة، لدرجة بات يصعب معها رؤية البيوت، وهي تتكئ على أخواتها، مدماة تبكي انهيار الأحلام والذكريات، فهذا الجدار كان يحمل صورة لشاب فقد قدمًا خلال الحرب، وهذا الطلاء جاء بعد إصرار الزوجة على اختيار اللون الرمادي أسوة بطلاء جدار في فيلم مصري قديم، وتلك الخرابيش كانت لأطفال يحلمون أن يصبحوا أطباء ومهندسين، وهذه اللوحة لطفل فاز بجائزة في المدرسة، وحصل على المركز الثاني في مسابقة حقوق الطفل، وتلك شهادة بكالوريوس لشاب نزح إلى الجنوب ليلقى حتفه في الطريق بعدما قنصه جندي سادي".
وفي وقت يشدّد فيه أبو ديب على أن ما كتب من مخيم الشاطئ "منطوق بعفوية وتفنّن، كلاهما في ذروة من القدرة على افتراس المشاعر وزلزلة ركود الضمير"، يتساءل الغول: "كيف يمكن لشخص غارق في الموت أن يكتب شهادته لموتى آخرين؟".