Print
ميسون شقير

في رحيل فيديريكو أربوس: المستعرب وصوت الشعر

20 أكتوبر 2024
هنا/الآن

حين نفقد من يدلُّنا على أنفسنا، نفقد جزءًا حقيقيًّا منَّا وممَّا كان يمكن لهذا الدليل أن يراه فينا، وحين نفقد من ترجمنا وترجم آلامنا وجراحنا كما ترجم شعرنا وأدبنا فنحن نفقد حينها صدى صوتنا وظلَّه، أمَّا حين نفقد من بحث فيما أنتجنا فنحن نفقد جزءًا من قدرتنا على البقاء، وعلى التطوُّر.
في بداية الأسبوع الماضي، فقدت اللغة العربيَّة مثلما فقد الشعر والأدب العربي ومثلما فقدت مدريد أيضًا الأستاذ والمترجم والمستعرب وصوت الشعر فيديريكو أربوس الذي كان من أوائل من آمن باللغة والأدب العربي وترجمه إلى الإسبانيَّة ودافع عنه وعن صلته الوثيقة بالمنجز الأدبي العالمي بشكل عام والأوروبِّي بشكل خاص، وقد نعاه البيت العربي في مدريد على موقعه الخاص "معبِّرًا عن أسفه العميق لوفاة فيديريكو أربوس أيوسو (1946-2024)، التي وقعت في 13 تشرين الأوَّل/أكتوبر عام 2024، بعد حياة كرَّسها للتدريس والبحث والترجمة".
والمستعرب فيديريكو أربوس شغل منصب أستاذ الأدب العربي الحديث والمعاصر بكلِّيَّة فقه اللغة بجامعة كومبلوتنسي بمدريد حتَّى تقاعده عام 2013، وسبق له أن شغل مناصب مسؤولة مختلفة في وزارة الخارجيَّة الإسبانيَّة، حيث شغل منصب مدير المركز الثقافي الإسباني بالإسكندريَّة (1969-1971)، وأيضًا منصب مدير قسم الشرق الأوسط في الوزارة بين 1987 و1988، ثمَّ تقلَّد منصب مدير معهد سرفانتس بالقاهرة (1993-1997)، ومدير معهد سرفانتس بالدار البيضاء (2000-2003) ومعهد سرفانتس بالرباط (2007-2012)، وهو حاصل على درجة الدكتوراه في فقه اللغة الساميَّة من جامعة كومبلوتنسي بمدريد وحاصل أيضًا على الجائزة الوطنيَّة للترجمة عام 1988 عن ترجمته لعدَّة دواوين شعريَّة لأدونيس.
وخلال حياته الزاخرة ترك فيديريكو أربوس للقارئ الإسباني إرثًا كبيرًا من الكتب النقديَّة التي بحث وتعمَّق فيها في تحليل المنجز الشعري لأبرز الشعراء العرب المعاصرين حيث صدر له كتاب الأسطورة والرمز في شعر عبد الوهَّاب البياتي (1996)، وأيضًا كتاب مراجعات وذكريات (2019) وكتابه الهامّ والمعروف تعويذة اليد والكلمة: ثلاثة شعراء عرب معاصرين (2024) حيث وبعد مقالة مستفيضة قدَّم فيها لنا لمحة عامَّة عن الشعر العربي المعاصر، وعلاقته المعقَّدة بالتقاليد، وحداثته، وحواره مع الشعر الأوروبِّي، الذي يبرز فيه مؤلِّفان، إليوت ولوركا، يقوم أربوس بتحليل شامل ودقيق لثلاثة من الشعراء العرب المعاصرين الأساسيِّين، البياتي وأدونيس ومحمود درويش، ويقدِّم لهم دراسة كاملة مع أمثلة عديدة، معتبرًا أنَّ المواضيع العظيمة للشعر العربي المعاصر تتجلَّى بوضوح في أعمال هؤلاء الشعراء الثلاثة، ابتداءً من موضوعات الحبّ وصولًا إلى مأساة الأرض المفقودة، ومن متعة الطبيعة إلى قسوة المنفى واستمرار الهويَّة التي كانت دائمًا موضع تساؤل، يمتدّ دائمًا في إطار تاريخ يتَّسم بقسوته الشديدة.




أمَّا أعمال فيديريكو أربوس كمترجم، فقد تركَّزت على أعمال الشاعر عبد الوهَّاب البياتي، والشاعر محمَّد بنيس.
ولعلَّ أهمّ ترجماته كانت لأبرز أعمال الشاعر أدونيس مثل ترجمة كتاب الهروب والتغيير عبر العالم ومناخ الليل والنهار الصادرة في عام 1993؛ وترجمة الكتاب الأوَّل، 2005؛ وترجمة كتاب هذا اسمي في عام 2006.
كما أنَّ الصحافة الإسبانيَّة تعجّ بمقالات لا تعدّ ولا تحصى كتبها أربوس في الأدب العربي ودراسات خاصَّة لأعمال البياتي ومحمود درويش ومحمَّد بنيس وأدونيس.
وقد شهد كلّ من عرفه بأنَّ فيديريكو أربوس كان رجلًا بسيطًا وقد تجلَّى ذلك من خلال مشاركته في مؤتمرات البصرة والشعر العربي المعاصر في بغداد بين عامي 1972 و1986، وفي تحضيره ومشاركته في اللقاء الشعري الإسباني العربي في صنعاء باليمن عام 1990،  أو في تنظيم قراءات للشعر العربي المعاصر في جامعة توليدو (1972-1973)، وجامعة مدريد المستقلَّة (1987)، وCírculo de Bellas Artes (1991) وجامعة كومبلوتنسي (1992).
أمَّا طلَّاب أربوس فهم يحتفظون له بصورة لا تُمحى عن ذلك الأستاذ الذي لم يتردَّد في البدء في إلقاء الشعر بالعربيَّة والإسبانيَّة بصوت ذلك المدخِّن الذي بدا وكأنَّه تلقَّى تعليمه في أفضل مدرسة للفنون المسرحيَّة في إسبانيا، أو في إحدى مدارس الإلقاء الشعري العربيَّة.
في السنوات العشر الأخيرة من حياته شارك فيديريكو أربوس في البيت العربي في عرض بعض العناوين التي ترجمها إلى الإسبانيَّة. أتذكَّر بشكل خاص أنه في عام 2015 عرض أوَّل طبعتين من الكتاب لأدونيس ومجموعة فينو لمحمَّد بنيس، برفقة كلارا جانيس وأنطونيو جامونيدا. وفي عام 2019، شارك مع كلارا جانيس في تكريم أدونيس من البيت العربي، وفي عام 2022 شارك أيضًا في تقديم الميداليَّة الذهبيَّة لأدونيس من Círculo de Bellas Artes.
أمَّا عندما وافته المنيَّة فقد كان فيديريكو أربوس قد بدأ للتوّ في ترجمة الكتاب الثالث لأدونيس. وقد أخبرتنا زوجته آنا أنَّه طلب من طبيبه أن يعيش على الأقلّ حتَّى يبلغ الثمانين من عمره كي يتمكَّن من استكمال ترجمته.