Print
وارد بدر السالم

سانتياغو الفلسطيني وأسماك القرش

24 أكتوبر 2024
هنا/الآن

 

"قد يتحطم الإنسان لكنه لا يُهزم"- هذه مقولة الروائي إرنست همنغواي الشهيرة التي صارت أيقونةً دالّة في الأمثال الإنسانية العالمية التي تحمل قدرًا كبيرًا من الطاقة الإيجابية. وتبثُّ في تضاعيفها الكثير من الأجوبة عن أسئلة اليأس والانكسار الذاتي. ولم يكن همنغواي قالها في معرض حرب كبرى أو معركة فاصلة. بل قالها عن الصياد العجوز سانتياغو، وهو يكافح لإخراج سمكته التي اصطادها في البحر بعد ثمانين يومًا من الانتظار، غير أن أسماك القرش هاجمتها بضراوة والتهمت الجزء الكبير منها. ومن أجل أن لا يحدث كل الذي حدث له في صراعه البحري، حدث كل هذا وهو يصارع أسماك القرش، ولم يستسلم لشهوتها المتوحشة بأن تأكل كل سمكته العملاقة. فعاد بما تبقى منها منتصرًا. ليقول الكاتب قولته الشهيرة تلك، وهي جوهر العمل الروائي الذي قدمه، وأيقونته الخالدة في أن الإنسان لا ينكسر مهما كانت الظروف التي تحيط بوجوده. والعوامل التي قد تُحبط من مساعيه للخلاص.

هذه الجملة - الأيقونة السهلة في تعبيرها، التي قد نقولها في سبيل توفير طاقة مضاعفة للتعامل الإيجابي مع مشتقات الحياة، بقيت تشير إلى قوة الإنسان وطاقته الاعتبارية في لحظات الخطر المتوقعة وغير المتوقعة. وعلى المستوى العام، فإنها بُنيت على أن تكون إحدى علامات تكريس القوة الجماعية من بابها الفردي، فالفرد هو مجموعة من الأفراد والتواريخ والتقاليد والأساطير والبناء البنيوي للجماعات، فلا ينعزل الإنسان عن مؤثرات محيطه الشخصية، مهما كان فعله فرديًا، فـ "المعركة" التي قادها سانتياغو ضد البحر، بكل ما فيه من قسوة سرية وعلنية، هي تشابك ضفيرة من التكافل الداخلي لبيئةٍ عاشها ومحيط فهمه ومواريث جينية  قد تكون أدّت دورها الباطني بشكل حاذق وتجلّى له في لحظة الخطر ودفعه لأن يقاوم أسماك القرش التي كانت تهاجم غنيمته الوحيدة. وهي الغنيمة التي إلى أن يقول همنغواي تلك العبارة - الحكمة - المثال.

هذا الاستبسال النوعي، الذي كان صراعًا فعليًا يقترب من القتال الأعزل، هو الذي جعل منه (بطلًا) سرديًا في خيال الكتابة وفي إطار الواقع، في الوقت الذي لم يكن يبحث عن هذه الوصفة الفريدة له. لا لأنه ليس أهلًا لها، بل إن الطاقة النوعية والعزيمة التي امتلكها، جسّدت على نحوٍ ما، نسيجًا اجتماعيًا كان مضمرًا في حياته إلى حد كبير، وبالتالي هو نسيج تاريخي فيه، لم يدركه إلا في لحظة الصيد الصعبة وما تبعها من أخطار بحرية تمثلت في أسماك القرش المفترسة. ليكون على صلة مع بنيانه النفسي التاريخي والاجتماعي بالرغم من فرديته وعزلته البحرية.

ليس هذا مدخلًا نقديًا لرواية "الشيخ والبحر" لكنه - ليكن- مدخلًا إجرائيًا لمحاورة الجملة- الأيقونة التي أوردناها، وليكن مدخلًا وصفيًا لعبارة خالدة ترجمت الكثير من المعاني الطاقوية في بناء الإنسان في مجابهته لويلات الطبيعة، بكل ما فيها من قسوة وضغط نفسي ومفاجآت غير محمودة العواقب. وبالتالي فإن مثل هذه السرديات الكلاسيكية كُتبت من روح لها قابلية النمو والبقاء والاستطالة الزمنية، كأنها نبوءة درست الواقع بشكل يقيني وما فيه من أحداث وحوادث وإرهاصات وهزائم وانكسارات وانتصارات. ليس على مستوى الفرد حسب، إنما على مستوى الجماعة التي تتعايش على وفق ضوابط اجتماعية وتاريخية في أساسها قبل أن تكون سياسية أو عسكرية. وهذا يفسّر لنا البقاء الإيجابي في خلوده الأثير الذي نتعرف عليه في ويلات الحروب ومآسيها، لا سيما إذا ما عددنا الحرب جزءًا من شرور الطبيعة، وهذا ممكن لأننا لا نخرق المجال الحيوي للعبارة، في إحالتها إلى السلوك البشري الهمجي في اختراع الحرب وآلتها على مر الزمن الطويل. فنجد على نحوٍ أعم وأشمل بأن التاريخ شهد على أن دولًا وشعوبًا لم تستسلم لقاتليها ومحتليها من أسماك القرش البشرية، وبالتالي فعظمة العبارة هي في أيقونتها الشاملة على مدار زمني طويل. كشعار إنساني يعضّد النفس التي تحاصرها الويلات والحروب وطوارئ الخطر.

"قد يتحطم الإنسان لكنه لا يُهزم"- قالها همنغواي عن الصياد العجوز سانتياغو


الإنسان المعاصر يتحمل تركات ثقيلة من المؤامرات السياسية طويلة المدى. وهذه أدّت إلى نزاعات مسلحة قهرت الإنسان الضعيف ودولًا بعينها؛ كما حدث في الحربين العالميتين اللتين قتلتا ملايين البشر في الدول العظمى والصغرى بلا منطق يعزز اندلاعهما، سوى شيوع السياسة المغرورة، وشيوع الكرسي الرئاسي الذي أذاق الشعوب الويلات والهزائم والانكسارات والذل، ومن أجل أن لا يحدث كل هذا. حدث كل هذا منذ بداية التاريخ، من حروب كثيرة ومريرة. فقدت فيها البشرية عشرات ومئات وملايين القتلى والضحايا. وما كانت الهزائم والانتصارات إلا عنوانات متفرقة لها، فرضتها طبيعة أهداف المحاربين وظروف المعارك ما كان منها عالميًا وما كان منها اقليميًا ومحليًا. وفي الحالات كلها كان السلاح القوي هو الذي يحسم المعارك والحروب، فتحولت فكرة عدم الهزيمة تحت أية ظروف، إلى هزيمة تحت كل الظروف. في ما بقيت الكثير من الشعوب في العالم تناضل من أجل الخروج من حالة عدم الحرية، إلى الحرية، مشفوعة بالكثير من المعارك الجزئية والشاملة، تساندها أطنان من الأصوات والشعارات والهتافات واليافطات والحناجر الباحثة عن السلام والأمن والانعتاق.

فلسطين أنموذج عربي شرق أوسطي دليل على هذا، بالرغم من الخسائر الفادحة التي قدّمها هذا الأنموذج منذ عام 1948. فالهزيمة العسكرية هنا وهناك لا تمثل انتصارًا للخصم، بل تضع الجانب الآخر في تمرين مستدام لتحسين حالته القتالية في القليل من الوقت، وهو وقت مفتوح لا ينتهي، وبالتالي فالنصر إذا جرّدناه من المعاني المباشرة له، سيكون متحققًا لو تمت إدامة المعركة مع الخصم والعدو والمحتل، وجعل زمنه مغلقًا على نفير يومي طويل جدًا، لهذا نجد أن الأمثولة الفلسطينية قائمة على مدار الحياة وتقلباتها السياسية والتكنولوجية والعسكرية. لكن بالوعي الوطني الذي يجابه ترسانة همجية شرسة من الأسلحة الفتاكة والمعلومات التكنولوجية المتطورة.

هذا وحده كفيل بأن تكون فلسطين حيّة ولا تُهزم بالمعنى الروحي والمثالي للكلمة، أي لا تموت بمعنى العبارة الهمنغوانية الخالدة، التي منح همنغواي عبارته الشهيرة الكثير من الأمل والتفاؤل والانتصار النفسي في أقل تقدير. فالزمن البحري لشخصية الصياد سانتياغو، وهو ثمانون يومًا لم يصطد بها شيئًا، انفتح على البحر الفلسطيني الذي سيقترب من ثمانين عامًا احتلاليًا، وكأن الزمن المتقدم إلى الأمام يعيد الينا الفكرة الرمزية لسانتياغو الذي وجد نفسه في صراع مع الطبيعة المتمثلة بالبحر لإنقاذ صيده الثمين، وهو ما يحيل إلى الانتصار الرمزي أيضًا، عبر الشخصية المحورية التي تحمل في داخلها مشروعًا اجتماعيًا أكثر من كونها حالة فردية في صراعها الوحيد مع أسماك القرش المفترسة. لنفهم أن الجزئيات الصغيرة هي مقدمات للنصر، وأن نصر العدو هو وهم في حسابات المطاولة العسكرية وتداعياتها وما تتمخض عنه من معطيات لاحقة.

لا يموت الإنسان ما لم يستسلم. وهي الأيقونة ذاتها بترجمة أخرى. تلك التي عبرت أفق الكوارث والويلات العسكرية التي يمارسها طغاة العالم ومستكبروه التكنولوجيون المعلوماتيون. فالموت الواقعي في معارك التحرير هو موت رمزي على أية حال. وهذا يتكرر على مدار الزمن ما دام هناك عدو واحتلال ومعارك يومية أو موسمية أو جيلية، لنقف على حقيقة استمرارية الشروع الدائم في توفير الطاقة الفردية الخلاقة، التي تمنهج الطاقة الجماعية لدرء الفتن الهمجية، فمن حرب التقسيم الفلسطينية (1948) حتى طوفان الأقصى (2023) الذي ما يزال مستمرًا ليكون سانتياغو الفلسطيني هو أيقونة العصر يقاتل أسماك القرش الهمجية.

هوامش:

  • إرنست همنغواي (1899- 1961): روائي أميركي. كتب معظم أعماله بين منتصف عشرينيات ومنتصف خمسينيات القرن العشرين. نشر سبع روايات وست مجموعات قصصية. أهم ما كتبه همنغواي رواية "الشيخ والبحر- 1952" التي نال عنها جائزة نوبل عام 1954، حولت الرواية إلى فيلم سينمائي عام 1958 يحمل نفس الاسم. الفيلم للمخرج الأميركي جون ستورجس، وشارك في بطولته الممثل الأمريكي سبنسر تراسي وهاري بيلافر. في عام 1990 قدّمت الرواية في فيلم تلفزيوني، بطولة الفنان أنطوني كوين وإخراج جود تايلور وشارك في بطولته جاري كول، جو سانتوس. (ويكيبيديا- الموسوعة الحرة)