ضمن الاضطرابات، أو المتغيرات، الكبرى التي نعيشها في منطقتنا العربية، والتي تتمظهر، في كثير من الأحيان والحالات على شكل انقسامات وتصدعات عميقة وقوية بين الأطراف المتصارعة على قضايا مصيرية وشائكة ومثيرة للجدل، بخاصة قضايا الهوية، تبدو الموضوعية كرأي وكموقف واحدة من أهم التحديات التي تواجه المثقفين، ونشمل ضمنهم الكتاب والصحافيين، في العالم العربي المنقسم والمقسم في إعلامه أكثر من حدوده.
وبديهي أن ذلك يشمل قضايا الصراع الجاري في فلسطين ولبنان وسورية، وشكل المداخلات الإقليمية سيما مع إيران وتركيا، والصراع ضد إسرائيل، ومواقف هذا النظام العربي أو ذاك، مع كل ما يصاحب ذلك من استقطابات دولية حادة، ومطلقة، تحددها الخلفيات الهوياتية، الإثنية أو الدينية ـ الطائفية، أو حتى الأيديولوجية (التي أضحت بمثابة هوية أخرى!).
وفي الواقع فإن تلك الخلافات باتت تحدد مصالح الأطراف الفاعلة في مجتمعاتنا، ما يجعل كتابة أو قول أي رأي يتوخى الموضوعية مسألة في غاية الصعوبة، بالنسبة للأطراف الأخرى، إذا لم يأت على هواها، أو وفقا لرؤيتها، في واقع انقسامات عمودية، وثنائية، ضدية، وفقا للمقولة الجائرة: "من ليس معي فهو ضدي"، وهي تقسيمات تصل إلى حد الوصم بالخيانة أو التكفير.
هكذا، فإن المثقف الحقيقي، الموضوعي، الذي يفترض أن يتشبث بثنائية الحقيقة والعدالة، وفق تعبير إدوارد سعيد، توخيا لقيم الحرية والمساواة والكرامة، وهي المحدد الموضوعي للموضوعية، بات في وضع صعب، وحرج، إذ كل طرف، من الفاعلين المتخاصمين، والمتعادين، موضع خصومة، أو تساؤل، أو شبهة، كما يوضح أنطونيو غرامشي، المثقف العضوي، لا يمكنه الانفصال عن مجتمعه، مما يجعله عرضة لتضارب الولاءات، بدون أن يكون هناك مجال للنفي أن السلطة تتغلغل في كل مكان، كما يؤكد ميشيل فوكو، ما يعقد مهمة المثقف في التمييز بين الحقيقة والأيديولوجية، وهذا تحديدا أي "استقلالية المثقف" ما يمكن وصفه بالتحدي الأكبر الذي كتب عنه عزمي بشارة حيث ينبغي عليه أن ينتقد السلطة والمعارضة على حد سواء، وهذا الوضع يجعل من الموضوعية مخاطرة بحد ذاتها، إذ ينظر إلى "المثقف" بأنه يتجاهل معاناة طرف ما، أو كمن يتواطأ مع خصومه، وتلك بمثابة مخاطرة بحد ذاتها، بخاصة في مشرق العالم العربي، الذي يعيش حقبة اضطرابات مهولة.
على ذلك فإن بعض المواقف تصل إلى حد نوع من الانتحار الذاتي، إذ تتداخل المشاعر الوطنية والعرقية والطائفية والدينية، مع التحديات والممكنات أو المستحيلات السياسية، ما يجعل من الصعب جدًا تقديم وجهات عابرة للانتماءات الذاتية الضيقة، بدون أن تلاحقها اتهامات العداء من طرف للآخر.
يفاقم من ذلك الواقع أن المثقفين لا سلطة لهم، في واقع ثمة أنظمة سلطوية مهيمنة، على مؤسسات التعليم ووسائل الإعلام ومنتجات الثقافة، فكل شيء يخضع للسلطة أو مسخر في خدمة سياسة السلطة، التي تحتكر كل فضاءات المجتمع، بما فيها الثقافة والفنون وأجهزة الإعلام. ويأتي على وجه الخصوص، في ذلك، الأنظمة الشمولية التي تتموضع خلف شعارات كبرى، أو تطرح قضايا كبرى، من وجهة نظرها، بوصفها الرسالة الجامعة للأمة، في حين هي أنظمة تسعى لترويج روايتها والتعتيم على أي رأي مخالف، أو تشويهه، أو اتهامه، ما يجعل من الموضوعية في طرح القضايا، كاصطفاف لا يحسب لمصلحة أحد، (باستثناء المصلحة الموضوعية في الاحتكام للحقيقة والعدالة)، شبهة بحد ذاتها، وينضوي في هذا الأمر حتى الأحزاب والحركات الأيديولوجية الشمولية.
على سبيل المثال، في سورية ينظر النظام، وأطراف المعارضة جميعهم، إلى الرأي، أو الموقف، الموضوعي، باعتباره بمثابة شبهة، أو تهمة قد تصل بصاحبه إلى حد الوصم بالخيانة للوطن أو للنظام، أو للثورة أو للحزب، أو للعقيدة.
بل إن المعارضة المسلحة، وحكام الأمر الواقع في المناطق الخارجة عن سلطة النظام، يرون أن مجرد نقدهم، أو تسليط الضوء على ارتكاباتهم ضد المواطنين العزل، كأنها بمثابة محاولة متخفية للتخفيف من الجرائم التي ارتكبها النظام ضد الشعب، ما يفيد بتجريم النقد بدل تجريم المرتكب أو ترشيد سياساته، إذ المطلوب من الكتّاب، عند هؤلاء، مجرد الاصطفاف السياسي خلف جهة ما، حيث يٌغيب الرأي الحر، وتغيب معه الحلول المرتجاة، كما تغيب معايير الموضوعية، أي إن الثورات أو المعارضات التي يفترض أنها ثارت من أجل الحرية والكرامة وحقوق المواطنة تغدو في ذلك على الضد من الشعارات أو الأهداف التي بررت فيها وجودها، والتضحيات التي بذلت من أجلها.
أيضا، في الكتابة اليوم عن حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين، بخاصة في غزة، صار الحديث عن الحقوق الفلسطينية بمثابة اصطفاف أيديولوجي، من قبل البعض، في تناسٍ لحقيقة أن القضية الفلسطينية سابقة على التنظيمات الإسلامية والطائفية جميعها، وعلى كل الحركات الأيديولوجية والهوياتية الأخرى، وأن الانحياز للحقوق الوطنية والسياسية، الجمعية والفردية، للفلسطينيين، وضمن ذلك إقامة دولة لهم، هي حقوق مشروعة، وموضوعية، لا يقوض ولا يخفف منها، أخطاء أو ممارسات أي جهة، أو أي شخص. فقضايا الحرية والمساواة والكرامة، هي صنو الترابط بين الحقيقة والعدالة، وهو ما ينطبق على القضية الفلسطينية تماما، وهذا ما يجب التذكير به، وتفنيد افتراءات او انزياحات البعض، تبعا لأهواء أو مزاجيات أو اعتبارات آنية.
على ذلك، فليس كل نقد هو اعتداء على المقاومة المحقة للاحتلال، أو خصومة معها، وبالمثل فليس كل توضيح لحقيقة الانكسارات التي مني بها الشعب الفلسطيني هو إضعاف لحقوقه. فالفلسطينيون يواجهون حصارا واحتلالا وعنفًا لا مثيل له، والتعاطي مع هذه المعطيات هو موقف إنساني، وهو موقف من الحرية والحقيقة والعدالة، ووحدة الإنسانية، قبل أي اعتبار آخر وليس اصطفافا سياسيا أو تبعية خارجية، او تقاربا فئويا.
أما في لبنان حيث تمارس إسرائيل حرب إبادة وحشية، أيضًا، بخاصة في الجنوب وضاحية بيروت والبقاع، بينما يتابع حزب الله تحدياته غير المتكافئة مع إسرائيل، وانفرادًا بالقرار والحرب، ما يضع لبنان وشعبه بين فكي كماشة، فإن الكتابة الموضوعية هي رهان على الحياة في دولة تتشابك فيها السياسة مع الطائفية، مع التبعية للخارج، وكل يشد "لحاف" الشرعية، والحقيقة، تبعا لمقاسه، وأهوائه، وهويته، و"يقولب" الدولة حسب قوانينه ومزاجه ومساحة حكمه وطول سلاحه وامتداد ظله.
الحقيقة والعدالة عنوان للمثقف، وللموضوعية في الرأي والموقف، وهو عنوان يكلف صاحبه، ولكن تلك هي تضحيته الخاصة في هذا الإضطراب العظيم المقيم في المشرق العربي، والذي لا تبدو نهايته قريبة في ظل التموضع والتقوقع العربي الحالي.
وبديهي أن ذلك يشمل قضايا الصراع الجاري في فلسطين ولبنان وسورية، وشكل المداخلات الإقليمية سيما مع إيران وتركيا، والصراع ضد إسرائيل، ومواقف هذا النظام العربي أو ذاك، مع كل ما يصاحب ذلك من استقطابات دولية حادة، ومطلقة، تحددها الخلفيات الهوياتية، الإثنية أو الدينية ـ الطائفية، أو حتى الأيديولوجية (التي أضحت بمثابة هوية أخرى!).
وفي الواقع فإن تلك الخلافات باتت تحدد مصالح الأطراف الفاعلة في مجتمعاتنا، ما يجعل كتابة أو قول أي رأي يتوخى الموضوعية مسألة في غاية الصعوبة، بالنسبة للأطراف الأخرى، إذا لم يأت على هواها، أو وفقا لرؤيتها، في واقع انقسامات عمودية، وثنائية، ضدية، وفقا للمقولة الجائرة: "من ليس معي فهو ضدي"، وهي تقسيمات تصل إلى حد الوصم بالخيانة أو التكفير.
هكذا، فإن المثقف الحقيقي، الموضوعي، الذي يفترض أن يتشبث بثنائية الحقيقة والعدالة، وفق تعبير إدوارد سعيد، توخيا لقيم الحرية والمساواة والكرامة، وهي المحدد الموضوعي للموضوعية، بات في وضع صعب، وحرج، إذ كل طرف، من الفاعلين المتخاصمين، والمتعادين، موضع خصومة، أو تساؤل، أو شبهة، كما يوضح أنطونيو غرامشي، المثقف العضوي، لا يمكنه الانفصال عن مجتمعه، مما يجعله عرضة لتضارب الولاءات، بدون أن يكون هناك مجال للنفي أن السلطة تتغلغل في كل مكان، كما يؤكد ميشيل فوكو، ما يعقد مهمة المثقف في التمييز بين الحقيقة والأيديولوجية، وهذا تحديدا أي "استقلالية المثقف" ما يمكن وصفه بالتحدي الأكبر الذي كتب عنه عزمي بشارة حيث ينبغي عليه أن ينتقد السلطة والمعارضة على حد سواء، وهذا الوضع يجعل من الموضوعية مخاطرة بحد ذاتها، إذ ينظر إلى "المثقف" بأنه يتجاهل معاناة طرف ما، أو كمن يتواطأ مع خصومه، وتلك بمثابة مخاطرة بحد ذاتها، بخاصة في مشرق العالم العربي، الذي يعيش حقبة اضطرابات مهولة.
على ذلك فإن بعض المواقف تصل إلى حد نوع من الانتحار الذاتي، إذ تتداخل المشاعر الوطنية والعرقية والطائفية والدينية، مع التحديات والممكنات أو المستحيلات السياسية، ما يجعل من الصعب جدًا تقديم وجهات عابرة للانتماءات الذاتية الضيقة، بدون أن تلاحقها اتهامات العداء من طرف للآخر.
يفاقم من ذلك الواقع أن المثقفين لا سلطة لهم، في واقع ثمة أنظمة سلطوية مهيمنة، على مؤسسات التعليم ووسائل الإعلام ومنتجات الثقافة، فكل شيء يخضع للسلطة أو مسخر في خدمة سياسة السلطة، التي تحتكر كل فضاءات المجتمع، بما فيها الثقافة والفنون وأجهزة الإعلام. ويأتي على وجه الخصوص، في ذلك، الأنظمة الشمولية التي تتموضع خلف شعارات كبرى، أو تطرح قضايا كبرى، من وجهة نظرها، بوصفها الرسالة الجامعة للأمة، في حين هي أنظمة تسعى لترويج روايتها والتعتيم على أي رأي مخالف، أو تشويهه، أو اتهامه، ما يجعل من الموضوعية في طرح القضايا، كاصطفاف لا يحسب لمصلحة أحد، (باستثناء المصلحة الموضوعية في الاحتكام للحقيقة والعدالة)، شبهة بحد ذاتها، وينضوي في هذا الأمر حتى الأحزاب والحركات الأيديولوجية الشمولية.
على سبيل المثال، في سورية ينظر النظام، وأطراف المعارضة جميعهم، إلى الرأي، أو الموقف، الموضوعي، باعتباره بمثابة شبهة، أو تهمة قد تصل بصاحبه إلى حد الوصم بالخيانة للوطن أو للنظام، أو للثورة أو للحزب، أو للعقيدة.
بل إن المعارضة المسلحة، وحكام الأمر الواقع في المناطق الخارجة عن سلطة النظام، يرون أن مجرد نقدهم، أو تسليط الضوء على ارتكاباتهم ضد المواطنين العزل، كأنها بمثابة محاولة متخفية للتخفيف من الجرائم التي ارتكبها النظام ضد الشعب، ما يفيد بتجريم النقد بدل تجريم المرتكب أو ترشيد سياساته، إذ المطلوب من الكتّاب، عند هؤلاء، مجرد الاصطفاف السياسي خلف جهة ما، حيث يٌغيب الرأي الحر، وتغيب معه الحلول المرتجاة، كما تغيب معايير الموضوعية، أي إن الثورات أو المعارضات التي يفترض أنها ثارت من أجل الحرية والكرامة وحقوق المواطنة تغدو في ذلك على الضد من الشعارات أو الأهداف التي بررت فيها وجودها، والتضحيات التي بذلت من أجلها.
أيضا، في الكتابة اليوم عن حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين، بخاصة في غزة، صار الحديث عن الحقوق الفلسطينية بمثابة اصطفاف أيديولوجي، من قبل البعض، في تناسٍ لحقيقة أن القضية الفلسطينية سابقة على التنظيمات الإسلامية والطائفية جميعها، وعلى كل الحركات الأيديولوجية والهوياتية الأخرى، وأن الانحياز للحقوق الوطنية والسياسية، الجمعية والفردية، للفلسطينيين، وضمن ذلك إقامة دولة لهم، هي حقوق مشروعة، وموضوعية، لا يقوض ولا يخفف منها، أخطاء أو ممارسات أي جهة، أو أي شخص. فقضايا الحرية والمساواة والكرامة، هي صنو الترابط بين الحقيقة والعدالة، وهو ما ينطبق على القضية الفلسطينية تماما، وهذا ما يجب التذكير به، وتفنيد افتراءات او انزياحات البعض، تبعا لأهواء أو مزاجيات أو اعتبارات آنية.
على ذلك، فليس كل نقد هو اعتداء على المقاومة المحقة للاحتلال، أو خصومة معها، وبالمثل فليس كل توضيح لحقيقة الانكسارات التي مني بها الشعب الفلسطيني هو إضعاف لحقوقه. فالفلسطينيون يواجهون حصارا واحتلالا وعنفًا لا مثيل له، والتعاطي مع هذه المعطيات هو موقف إنساني، وهو موقف من الحرية والحقيقة والعدالة، ووحدة الإنسانية، قبل أي اعتبار آخر وليس اصطفافا سياسيا أو تبعية خارجية، او تقاربا فئويا.
أما في لبنان حيث تمارس إسرائيل حرب إبادة وحشية، أيضًا، بخاصة في الجنوب وضاحية بيروت والبقاع، بينما يتابع حزب الله تحدياته غير المتكافئة مع إسرائيل، وانفرادًا بالقرار والحرب، ما يضع لبنان وشعبه بين فكي كماشة، فإن الكتابة الموضوعية هي رهان على الحياة في دولة تتشابك فيها السياسة مع الطائفية، مع التبعية للخارج، وكل يشد "لحاف" الشرعية، والحقيقة، تبعا لمقاسه، وأهوائه، وهويته، و"يقولب" الدولة حسب قوانينه ومزاجه ومساحة حكمه وطول سلاحه وامتداد ظله.
الحقيقة والعدالة عنوان للمثقف، وللموضوعية في الرأي والموقف، وهو عنوان يكلف صاحبه، ولكن تلك هي تضحيته الخاصة في هذا الإضطراب العظيم المقيم في المشرق العربي، والذي لا تبدو نهايته قريبة في ظل التموضع والتقوقع العربي الحالي.
*كاتبة سورية.