قد يفرح الإنسان بالتطوّر التكنولوجي والتقدّم الرقمي وما آلت إليه أمورنا الحياتية بسبب سهولة التعامل مع أدوات هذا التطوّر من كمبيوتر وموبايل وإنترنت، بالإضافة إلى تطبيقات الذكاء الاصطناعي على الأصعدة كافة من صحية وبيئية وأدبية وعمرانية وغيرها العديد من القطاعات، ولكن في المقابل قد نسأل: ما هي حدود هذا التطوّر الهائل؟ لقد مضت أكثر من ستة عقود على المقولة الشهيرة للعالم وصاحب نظريات وسائل الإعلام الكندي مارشال مكلوهان بأنّ: "العالم قرية عالمية" للإشارة إلى إنتاج وإستهلاك العالم اليومي لوسائل الإعلام. كان هذا قبل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي ساهمت في طرح المشاكل الشخصية والمواضيع الخاصة والعامة على حدّ سواء والفيديوهات اليومية على بساط العالم.
وربّ قائل: ما همّنا بالأمور الشخصية لكل فرد، فهو حرّ فيما يفعله؟ وهل مفهوم الحريّة هو نفسه في لبنان على سبيل المثال كما في كندا؟ وهل ما هو "عيب" عند العرب هو كذلك عند الأجانب أو عند العربي المهاجر المقيم في بلاد أجنبية؟ هذه الإشكاليات الأخلاقية التي تطرحها التكنولوجيا ليست فقط على مستوى فكري بسيط وسهل، ولعلّه عند النظر في القفزات الكبيرة التي أحدثتها التكنولوجيا يتبيّن أثرها الفكري وانعكاساتها على المستويين الثقافي والاجتماعي. هذا الأثر يشكّل جزءًا من مقالنا وهو تمهيد للجزء الثاني منه، عنيت به خطر التكنولوجيا على حياة الإنسان بما فيه على دماغه وهويته خصوصًا في تعرّضه لهجوم سيبراني على سبيل المثال يصيبه بواسطة هاتفه الذكي أو أية وسيلة إلكترونية، وهنا نشهد على تجليات التكنولوجيا بأبشع مظاهرها.
منذ سنوات معدودة كنا نقول بأنّ التكنولوجيا غيّرت الطريقة التي بُنيت عليها ثقافتنا، حتى أصبحنا اليوم ومن خلال رؤيتنا لهذا التغيير نتلمّس بأنّ التكنولوجيا صنعت ثقافة جديدة. فمن وحدة "العائلة" إلى وحدة "الفرد" أصبح الإنسان معزولًا في عالمه الخاص. ومن رؤية الأصدقاء في المقاهي، إلى استبدالها بالحروف الإلكترونية في التواصل معهم، ومن شراء منتج معين بالذهاب شخصيًا إلى طلب المنتج عبر الإنترنت. في هذا الإطار، تقول الإعلامية والخبيرة في التحول الرقمي جيسي طنوس لموقع "ضفة ثالثة": "إنّ تلك التغيرات الاجتماعية الكبيرة التي نتفاعل معها، فرضتها علينا التكنولوجيا فرضًا. فمع التكنولوجيا كلّ شيء أصبح مكشوفًا، لذلك يكثر الحديث اليوم عن عدم خصوصية بياناتنا الشخصية التي تعتبر غير آمنة في لبنان على الإطلاق".
وكما أنّ التكنولوجيا هي صانعة ثقافة ومجتمع، هي صانعة أمان افتراضي، وعدم أمان في الوقت نفسه بحيث تشكّل تهديدًا لدماغ الإنسان، لأخلاقه ولحياته. في الواقع، نظرت منظمة اليونسكو منذ سنوات معدودة إلى الإشكاليات الأخلاقية التي تطرحها التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي عبر عدة مؤتمرات كان آخرها مؤتمر "أخلاقيات التكنولوجيا العصبية" الذي عقد في شهر نيسان/ أبريل الماضي، حيث قالت المديرة العامة لليونسكو أودري أزولاي بأنّ: "التكنولوجيا العصبية تمتلك القدرة على حلّ العديد من المشاكل الصحية، ولكن يمكنها أيضًا أن تهدّد حقوق الإنسان وحرية الفكر والخصوصية. وهناك حاجة ملحة لوضع إطار أخلاقي مشترك على الصعيد الدولي...".
وبحسب تقرير المنظمة نفسها، فإنّ التقنيات المعتمدة لأغراض طبية مثل حزام الرأس وسماعات الأذن والتي تساعد في تجميع البيانات العصبية للمستخدمين من شأنها أن تجعل (وقد جعلت بالفعل) المعلومات عن الأفراد متاحة للشركات والحكومات. لا شك بأنّ هذا الأمر يهدّد موضوع الخصوصية الذهنية وحريّة الفكر وبالتالي يعرّض الديمقراطية والحريات الأساسية للخطر. من هذا المنطلق، عملت منظمة اليونسكو بالتعاون مع خبراء دوليين على وضع إطار أخلاقي ليتماشى استخدام التكنولوجيات مع حقوق الإنسان على أن يُصار إلى تقديم هذا الإطار لإعتماده دوليًا في الدورة الثالثة والأربعين للمؤتمر العام في تشرين الثاني/ نوفمبر 2025.
أمّا فيما يتعلق بتهديد التكنولوجيا لحياة الإنسان، لنعد قليلًا إلى زمن سخّر فيه الإنسان مُعطيات العلوم لخدمة الحروب وقتل الحياة. والمثال الأبرز آنذاك، هو ألفرد نوبل، العالم الكيميائي والمهندس الصناعي السويدي الذي اكتشف الديناميت ومتفجرات أخرى، لكنّ اختراعاته تسبّبت في عداء كثيرين له وموت آخرين (وما زالت). ونتيجة لاختراعه وتداعيات هذا الاختراع على حياة الإنسان، أمر نوبل باستخدام ثروته الهائلة بعد موته لتخصيص جائزة سنوية لصنّاع السلام بالإضافة إلى الأدب والعلوم.
نيكول بيرلروث: لقد صدقنا وعد وادي السيليكون Silicon Valley بمجتمع خال من الاحتكاك! (Getty, Silicon Valley) |
وبالانتقال إلى زمنٍ اختراع القنبلة الذرية، عبّر فيه ألبرت أينشتاين عن التطور العلمي الهائل قائلًا: "لقد غيّر إطلاق الطاقة الذرية كل شيء باستثناء طريقة تفكيرنا... إنّ حلّ هذه المشكلة يكمن في قلب البشرية. لو كنت أعلم ذلك، لأصبحتُ صانع ساعات".
في السياق نفسه، نذكر صانع القنبلة الذرية أو "أبو القنبلة الذرية" (كما لُقب) العالم الأميركي جي روبرت أوبنهايمر والصراع الذي عاشه بين العلم والأخلاق كما روى لنا فيلم "أوبنهايمر" الذي عُرض في العام الماضي للمخرج كريستوفر نولان، والمقتبس من كتاب عن سيرة أوبنهايمر الذاتية.
اليوم وفي عصر التحوّل الرقمي والأمن السيبراني، من الملفت ما جاء في كتاب "هكذا أخبروني بنهاية العالم" الصادر بطبعته الأولى في عام 2021 لمراسلة الأمن السيبراني في صحيفة "نيويورك تايمز"، نيكول بيرلروث، فالكتاب كما قالت الكاتبة الأميركية هو "القصة غير المروية عن سوق الأسلحة السيبرانية، السوق الأكثر سرية وغير المرئية والمدعومة حكوميًا على وجه الأرض، كنظرة أولى مرعبة على نوع جديد من الحرب العالمية". فيه تقول: "في الولايات المتحدة، كانت الراحة هي كل شيء، وما زالت كذلك. كنا نوصل أي شيء نستطيع بالإنترنت، بمعدل 127 جهازًا في الثانية. لقد صدقنا وعد وادي السيليكون Silicon Valley بمجتمع خال من الاحتكاك. لم تكن هناك منطقة واحدة من حياتنا لم تمسّها شبكة الإنترنت. والآن أصبح بوسعنا التحكم في حياتنا بالكامل، واقتصادنا، وشبكتنا من خلال التحكم عن بعد في شبكة الإنترنت. ولم نتوقف قط لنفكر في أننا، على طول الطريق، كنا نخلق أكبر سطح هجوم في العالم". وتضيف في مكان آخر: "لا تستطيع التكنولوجيا المعاصرة توفير نظام آمن في بيئة مفتوحة". هنا نفتح المزدوجين لنشير إلى أنّ منطقة "وادي السيليكون" Silicon Valley تُشكل مركزًا عالميًا للابتكار التكنولوجي، ويقع هذا الوادي في منطقة خليج سان فرانسيسكو الجنوبية في كاليفورنيا. وقد سُمي على اسم المادة الأساسية الموجودة في معالجات الكمبيوتر والأجهزة الإلكترونية. ويُعد Silicon Valley موطنًا لعشرات الشركات الكبرى في مجال التكنولوجيا والبرمجيات والإنترنت.
ترابطًا في كل ما تقدم مع الوقائع التي نعيشها في منطقة الشرق الأوسط، نكتشف بأنّ الحروب الدائرة اليوم هي حقل تجارب لهذه التكنولوجيا الحديثة. فالهجمات الإلكترونية المدمرة أحيانًا لحياة الناس فتحت الباب على مخاطر التكنولوجيا وتحدياتها على الإنسانية جمعاء. هنا نسأل الخبير في الأمن السيبراني والتحوّل الرقمي رولان أبي نجم: "هل أصبح الاعتماد الكليّ على التكنولوجيا يشكل تهديدًا فعليًا على حياة الإنسان بأكملها وأين ما كان في العالم؟"
ويجيب: "بالفعل أصبح هذا الاعتماد الكلي يشكل تهديدًا، والدليل المثال الذي شاهدناه مؤخرًا، أي في تموز/ يوليو الماضي، عن العطل التقني الذي حصل بين شركتي كراودسترايك ومايكروسفت لمدة 80 دقيقة، والذي أدى إلى خسائر بمليارات الدولارات، وخسائر بشرية في المستشفيات بسبب توقف الأوكسيجين والأجهزة الطبية عن العمل، بالإضافة إلى تعطيل المطارات في العالم وتأخير الآف الرحلات الجوية... وهو بالفعل كان عطلًا تقنيًا بعيدًا عن أي اختراق سيبراني، فكيف الحال إذا تمّ التعرض لاختراق سيبراني خصوصًا في ظل تطور تقنيات الذكاء الإصطناعي في مقابل عدم أمان بيانات المستخدمين".
كما طرحنا عليه سؤالًا: "هل هناك إطار أخلاقي عالمي أو معايير للسلوك في الفضاء الإلكتروني يحدّ من مخاطر الأمن السيبراني؟"
فأجاب: "هناك العديد من الباحثين في عدة دول يحاولون العمل على تشكيل إطار أخلاقي عالمي للحدّ من مخاطر الأمن السيبراني بالإضافة إلى الحدّ من مخاطر الذكاء الإصطناعي، لكنّ هذه الأمور اقتصرت على المحاولات وهي صعبة التحقيق في المدى المنظور لأنّ الأخلاقيات في هذا المجال تختلف بين دولة وأخرى بالإضافة إلى اختلاف التشريعات وتعددها وبالتالي عدم القدرة على ضبطها كما في كوريا الشمالية".
في ظل المخاطر المتزايدة من الهجمات الإلكترونية والآثار المترتبة على سياسات الدول للفضاء الإلكتروني، نشهد اليوم مفاهيم جديدة في العلاقات الدولية وقدرات قوة من نوع آخر لبعض منها، الأمر الذي من شأنه أن يجعل البشرية أمام نقطة تحوّل لمعايير وتسميات وسياسات مختلفة وغير تقليدية.
في الختام، سألتُ الذكاء الإصطناعي عن مخاطر الأمن السيبراني على حياة الإنسان في منطقة الشرق الأوسط، فأجابني: "إن مخاطر الأمن السيبراني في منطقة حساسة كالشرق الأوسط هي الهجمات السيبرانية الموجّهة، الهجمات على البُنية التحتية الحيوية مثل الطاقة، زيادة الاعتماد على التكنولوجيا من دون الحماية الكافية، الهجمات على الأنظمة الطبية وعلى السيارات ذاتية القيادة والمركبات المتصلة، البرمجيات الخبيثة وبرامج الفدية، الإختراقات المتقدمة كالتجسس الإلكتروني، انتهاك الخصوصية واستغلال البيانات الشخصية بالإضافة إلى ضعف التشريعات المتعلقة بالأمن السيبراني"!