Print
سمر شمة

كيف تابع الشعر العربي خذلان فلسطين؟

9 أكتوبر 2024
هنا/الآن

يتعرّض قطاع غزة منذ عام إلى حرب إبادة جماعية ممنهجة ومكتملة الأوصاف والشروط، يحاصر القصف والموت والدمار كل مدنه وقراه، وكل أطفاله ونسائه ورجاله ومسنيه، وأطبائه وإعلامييه والعاملين في المجال الإنساني والتعليمي والحقوقي ف... إنه عام من القتل وسفك الدماء بأعتى أنواع الأسلحة والسياسات وأشدها فتكًا، عام المقابر الجماعية والتمثيل المشين بجثث الشهداء والشهيدات، وانتهاك دموع الأمهات وقلوبهن المتعبة الصابرة، عام الخراب والوجع والفقد والعار لجميع المتفرجين والمشاركين، وعام الخذلان لغزة وفلسطين والذي أصبح وسمًا لها على مدى تاريخها الممتد لأكثر من خمسة وسبعين عامًا. الخذلان الممتد منذ عقود، منذ الثورة الفلسطينية الكبرى 1936، ثم النكبة التي أدّت لضياع فلسطين كلها.

خذلان عربي إسلامي فلسطيني غربي وأوروبي، بلغ ذروته بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي، وواكبه الشعر العربي منذ إعلان قيام "إسرائيل" إلى يومنا هذا.

الشاعر السوري عمر أبو ريشة ومنذ وقعت الواقعة وهُزم العرب في فلسطين عام 1948 ، تدفقت قصائده ذات النبرة المأساوية الغاضبة والناقدة وكانت قصيدته فاتحة لقصائد عديدة عمّا تعرض له الشعب الفلسطيني من خذلان من الحكام والأنظمة والدول:

أمتي هل لكِ بين الأمم/ منبر للسيف أو للقلم
أتلقاكِ وطرفي مطرق/ خجلًا من أمسِك المنصرم...

وقد استحضر في هذه القصيدة الحكاية الشهيرة التي نُسبت إلى عهد الخليفة العباسي المعتصم بالله عندما استنجدت به إحدى النساء الأسيرات في سجن للروم ليفك أسرها ويحررها بعد صرختها المدوية "وامعتصماه" فأرسل جيشه وأطلق سراحها في معركة عمورية:

رب وامعتصماه انطلقت/ ملء أفواه الصبايا اليتّم
لامست أسماعهم لكنها/ لم تلامس نخوة المعتصم

وكتب الشاعر الفلسطيني محمود درويش فيما بعد عشرات القصائد عن بلاده وغربتها وخذلانها من الأهل والأشقاء والأصدقاء والمدافعين عن حقوق الإنسان وسيادة الأوطان، وكانت رائعته "مديح الظل العالي" التي كتبها عام 1983 مجسّدة لتلك المعاني كافة:

سقط القناع عن القناع
عن القناع
لا أخوة لك يا أخي. لا أصدقاء يا صديقي.
لا قلاع.

تناول في هذه الملحمة الشعرية - كما سمّاها النقاد- طبيعة الصراع العربي مع الصهاينة وتحديدًا بعد اجتياح قوات الاحتلال لبيروت في الثمانينيات، فجاءت لتصف الواقع العربي في هذه الفترة، وكأنها تستقرئ ما سيحدث بعد أعوام طويلة من هذا الصراع، فالسنوات تغيّرت لكن إجرام الاحتلال لم يتغير، والعجز العربي والدولي لم يتغيّر:

كسروكَ كم كسروك كي يقفوا على ساقيك عرشًا
كم كنت وحدك يا ابن أمي.
كم كنت وحدك.

ووصف فيها حالة الحزن والخذلان والهزيمة بعد خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان وبعد الصفقات التي تمت والانصراف عن دعم الشعب الفلسطيني والوقوف إلى جانبه:

حاصر حصارك، لا مفر
سقطت ذراعك فالتقطها
واضرب عدوك، لا مفر
وسقطتُ قربك فالتقطني
واضرب عدوك بي
فأنت الآن حرّ حرّ وحرّ.

وكتب درويش قصيدة "أحمد الزعتر" عام 1984 وهي عن مذبحة مخيّم تل الزعتر التي حدثت عام 1976 خلال الحرب الأهلية اللبنانية وأسفرت عن استشهاد آلاف الفلسطينيين وسقوط المخيّم، وكانت نصًا ملحميًا تمتزج فيه العاطفة الحارة بالتأمل بتفاصيل المقاتلين اليومية بلغة غرائبية رثائية، تشبه النشيج المرّ إلى حد البكاء:

أنا أحمد العربي قال
أنا الرصاص، البرتقال، الذكريات
أحمد الآن الرهينة
تركت شوارعها المدينة
وأتت إليه لتقتله.

وفضح في قصيدته هذه جميع المتخاذلين بلغة غاضبة لا تستثني أحدًا:

ومن المحيط إلى الخليج
من الخليج إلى المحيط
كانوا يُعدّون الجنازة
وانتخاب المقصلة.

 عبد الرحيم محمود كتب قصائد توقع فيها سقوط الأقصى وضياع فلسطين بدون أن يتحرك أحد لحمايتها 


أما الشاعر السوري نزار قباني والذي قرّر بعد هزيمة 1967 أن يتركز في الدفاع عن فلسطين وقضيتها العادلة من خلال مواقفه وقصائده التي اعتمدت منظورين مختلفين، الأول: حماسي لشحذ النفوس، والثاني: رثائي للتعبير عن الحزن والألم، فقد كتب الكثير عما وصلت إليه الأوضاع الفلسطينية والعربية من عجز وانهيار:                 

يا أيها الثوار
تقدموا تقدموا
فقصة السلام مسرحية
والعدل مسرحية
إلى فلسطين طريق واحد
يمر من فوهة بندقية.

وفي أعقاب الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 عبّر في قصيدته "أطفال الحجارة" عن يأسه من الجميع ممن وقفوا متفرجين وخذلوا غزة وفلسطين:

يا تلاميذ غزة. علّمونا بعض ما عندكم
فنحن نسينا
علمونا بأن نكون رجالًا
فلدينا الرجال
صاروا طحينًا.

وكان قباني من أوائل الشعراء الذين نبّهوا من خطورة الهجرة اليهودية إلى فلسطين فكتب في عام 1955 "قصة راشيل" منددًا بتجاهل العرب والمنظمات والمحافل الدولية والمسلمين لآلام ومصير الشعب الفلسطيني:

جاؤوا إلى موطننا الصغير
فلطخوا ترابنا
وأعدموا نساءنا
ولا تزال الأمم المتحدة
ولم يزل ميثاقها الخطير
يبحث عن حرية الشعوب وتقرير المصير.

أما الشاعر العراقي مظفر النواب فقد كتب عن فلسطين قصائد فجائعية وبكائية لوقوفها وحيدة في مواجهة الاحتلال والمؤامرات، بهجاء حاد ونبرة ساخطة ورفض لأزمنة الخذلان والواقع العربي الرديء، وهاجم الحكام والأنظمة:

القدس عروس عروبتكم
فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها
وسحبتم كل خناجركم وتنافختم شرفًا.

وبهذه القصيدة تحدث عن تاريخ الإسلام ومعاركه والفتن التي حدثت عبر التاريخ، وصرخ صراخًا مدويًا بصوت أقرب إلى النحيب والوجع بوجه كل من تسبب وشارك بالمذابح التي تعرض لها شعب فلسطين معترفًا بسخرية مريرة وكلمات أقرب إلى الشتم والتخوين بهزيمة العرب والمسلمين:                 

أعترف الآن أمام الصحراء
بأني بذيء كهزيمتكم
يا حكامًا مهزومين
ويا أحزابًا مهزومين
ويا جمهورًا مهزومًا
ما أوسخنا...

ورفض الصمت والحياد من جميع الأحزاب والدول والمثقفين والمرجعيات إزاء كل ما يحدث في فلسطين والدول العربية:

في كل عواصم هذا الوطن قتلتم فرحي
حملتم أسلحة تُطلق للخلف...

ومن الأصوات الشعرية الفلسطينية التي كان لها أثر في بلورة الوعي الفلسطيني الشاعر سميح القاسم العروبي: 

آه أدركت أن خذلتني الصحارى
خذلتنا الصحارى
قتلتنا الصحارى
قتلتكِ
خذلتكِ الصحارى
قتلتني
خذلتني الصحارى...

أما الشاعر الفلسطيني معين بسيسو فقد تحدّث في شعره عن مدائن فلسطين ومدينته غزة التي غادرها للالتحاق بالثورة الفلسطينية، ورصد الخذلان العربي الفلسطيني، وكان يحصي الرصاص المتدفّق على فلسطين من كل حدب وصوب:

يأتي الرصاص إليكِ
من كل الرياح الأربع
الآن تعرف أن هذا الصمت
ذا الأشواك
من شيم العرب.

وكتب بألم عن خذلان المثقفين لفلسطين وأهلها وهو يغادر بيروت منكسرًا في الثمانينيات في سفينة إلى اليونان إثر اجتياح الدبابات الإسرائيلية للبنان: "إن معظم ديوك الصفحات الثقافية انقلبوا عند العدوان على لبنان إلى دجاجات تبيض في الخوذات الفولاذية للاحتلال، وينكشون مزبلة الصمت بمناقيرهم ويبتلعون أقراص منع الكتابة".

وكان قد سبقه إلى كتابة الشعر عن خذلان فلسطين الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود في قصيدته "الشهيد" التي كتبها بعد انضمامه للمقاتلين الذين دافعوا عن البلاد بعد اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936 ولصفوف المناضل عز الدين القسام، والتي كتب بعدها قصائد أخرى توقّع فيها سقوط الأقصى وضياع فلسطين بدون أن يتحرك أحد لحمايتها منتقدًا عصبة الأمم والمحافل الدولية التي تقاعست جميعها عن حماية الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة:

يا مجلس الذل أنتم بعض نكبتنا
يا مجلس الخزي لن يرجوك من ظلموا...

الشاعر العراقي أحمد مطر أيضًا كتب شعرًا عن الصمت الأبدي للحكام حيال فلسطين، وطالبهم بأن يبتعدوا عن المشهد إذا كانوا لا يستطيعون فعل شيء إلا الإدانات:

ارفعوا أقلامكم عنّا قليلًا
واملأوا أفواهكم صمتًا طويلًا
نحن نرجو كل من فيه بقايا خجل
أن يستقيلا.

وهناك أدباء وشعراء كثر حملوا هموم القضية الإنسانية وهموم الإنسان المظلوم والمقموع وخاطبوا الأنظمة المسؤولة عن النكبة والنكبات المتواصلة والتي خذلت شعوبها وفلسطين معًا.

واليوم والعدوان الوحشي على غزة متواصل ومستمر، يرافقه عدوان وحشي آخر بأعتى الأسلحة وأشدها تطورًا على لبنان والشعب اللبناني، يبقى الخذلان أيضًا سيد الموقف ويبقى السؤال: هل ما زالت "بيروت قلعتنا" أم أصبحت "غصتنا ودمعتنا"، وهل ذلك لأنهم "عرب أطاعوا رومهم، عرب وباعوا روحهم"، وهل "سقط القناع" عن القناع؟