سيدتي هيرتا مولر،
قرأت مساء يوم الأربعاء الماضي، 6 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، مقالة في منبر "ضفة ثالثة" بقلم واحد من أفضل المترجمين العرب عن اللغة الألمانية، يشجب فيها بصوت هادئ، لكنه مصدوم، ما صدر عنك من مواقف أخيرة (سمير جريس: هيرتا مولر إذ تتبنّى السردية الإسرائيلية كاملة وتدين الضحايا الفلسطينيين). ولأنني لم أتمكن من كتابة رسالة إليك، فقد كان الليل في منتصفه، وأنا أنام في الوقت الذي ينام فيه طفلي، ولن أستطيع إزعاجه بأشعة الضوء وبحركاتي القلقة في البيت (فلنتصور، لنقارن، رعب أطفال غزة وبيروت)، انتظرت بفارغ الصبر، وجمر الأسى يحرق جلدي، حتى صباح يوم الغد لأكتب اليك. تصوري اثنتي عشرة ساعة من التقلّب في السرير، من المراجعات الفكرية، من الندم الأيديولوجي والأدبي. لكنني لا أخفي عليك أنني نهضت الى مكتبي مشيًا على أطراف أصابعي، وظهري مقوس مثل رجل في غزة يبحث عن الجثث تحت الأنقاض، وأخذت روايتك "ليتني لم أقابل نفسي اليوم" التي أحببتها كثيرًا. قرأت من هنا وهناك... يا للدهشة! كيف أُعجِبتُ في السابق بكاتبة ركيكة مثلك. إن القوة الموجودة فيها هي باختصار تعرضك باستمرار لملاحقات الجهاز الأمني اللاإنساني الذي يضمن الاستمرار لكل ديكتاتورية. وهذا فعله قبلك، وربما أفضل منك، العديد من الروائيين العرب. يحضرني منهم الآن: صنع الله إبراهيم، شريف حتاتة، عبد الرحمن منيف، حيدر حيدر، هاني الراهب، غالب هلسا، الطاهر وطار... بدون هاجس إرغام النفس على إثبات البراعة الفنية، والالتفافات التزيينية كما فعلت أنتِ. وكم استهجنت جملك المتصنعة عن أشجار الحور، والترام، والرجل الهرم الذي يلبس قبعة من القش وأنت تدعينه يركب قبلك... إنها، سيدتي، أساليب أصبحنا نحن الروائيون العرب نتخلّى عنها لأنها لا تخلق سوى فقاعات من التعبير الأجوف.
سيدتي الحائزة على جائزة نوبل للآداب،
ما دواعي جلوسك، في حفل أقيم في فيينا، بجانب المتحدّث الرسمي للجيش الإسرائيلي أرييه شاروز شاليكار، والمؤرخ والخبير العسكري الإسرائيلي الألماني ميشائيل فولفسون، والخبيرة في الإرهاب ريبيكا شونينباخ؟ هل المبرر هو منحك جائزة في الصحافة والإعلام تحمل اسم فنان ومعماري نمساوي يهودي اسمه آريك براور؟ هل المساهمة في النقاش العام، من منظور العدل والعقل، يعني نشر التحريض ضدّ الفلسطينيين (وهو يعني أيضًا التحريض ضدّ العرب)؟ لماذا تزجين بنفسك في هذه المحاكمة الرهيبة، وفي هذا النقاش "الظالم وغير العادل" وأنت تحملين تلك التذكرة الذهبية نحو الشهرة: "جائزة نوبل" منذ سنة 2009؟
دعيني أذكرك بأقوالك في أحد المؤتمرات الصحافية: "أعرف ما معنى أن تستيقظ في الصباح والخوف يعتصر معدتك لأنك لا تعرف ما إذا كنت ستظل على قيد الحياة حتى المساء". ظلت هذه التجربة المأساوية للديكتاتورية في كتاباتك وحياتك. إنها تتجاوز تجربتك الشخصية كمؤلفة، وذلك أقصى نموذج للمعاناة. إن جائزة نوبل للآداب، يا سيدتي، التي مُنِحت لك، وقام العرب بترجمة أغلب أعمالك الفائزة، لها قيمة رمزية ليس فقط بالنسبة للألمان، والألمان في رومانيا، وليس فقط بالنسبة للثقافة الألمانية في نهر الدانوب والكاربات، ولكن أيضا لجميع أولئك الذين أصيبوا بكدمات وصدمات نفسية مدى الحياة بسبب تسلّط وتجبّر أي نظام شمولي.
سيدتي، التي كانت طفلة ترعى الأبقار في مروج رومانيا الرائعة،
دعيني، مرة أخرى، أذكرك بما يلي: خلال حفل توزيع جائزة نوبل، قمت برحلة مذهلة من قريتك إلى القصر الملكي المذهب في السويد، ومما جاء في خطابك: "عندما كنت أرعى الأبقار في الوادي. أكلت أوراق الشجر والزهور لأكون واحدًا منهم، لأنهم يعرفون كيف يعيشون، ولم أكن أعرف. ناديتهم بأسمائهم. يجب أن يكون اسم الشوك اللبني يعني هذا النبات الشائك ذا السيقان المليئة بالحليب، إلا أن النبات لم يرد عليّ وأنا أنادي باسم الشوك المليء باللبن. فجربت أن أناديه بأسماء مبتدعة لم تشتمل على كلمتي الشوك والحليب". وحين أعياك هذا التزييف والتزوير الذي لم ينفع مع الطبيعة، وهو بمثابة عار أصلي، عدت إلى الحديث إلى نفسك وليس إلى النباتات، وتابعت رعي الأبقار.
ما فائدة هذا الدرس الطبيعي، إن لم ينفعك واقعيًا وتطبيقيًا اليوم، أمام شعب أعزل تطحنه آلة رهيبة؟ وأنت تتبجحين بكلماتك المكررة في ندوة لم يحضرها سوى جنرالات في الجيش الإسرائيلي وشخصيات في مكتب وزير الدفاع، ولا أظنك تتجرأين على إلقائها في الجامعات الأميركية أو حتى الألمانية. ولن ينفعك بعدها، عند القراء العرب على الأقل، ترديد كلماتك الأخلاقية المليئة بالزيف. إن الزيف يزحف على مجمل صفحات رواياتك، وهي الآن بلغت أربع روايات باللسان العربي الشريف.
سيدتي، أيتها الفائزة بجائزة "فرانز فيرفل" لحقوق الإنسان،
حين عدت إلى المراجعات الصحافية والكتابات النقدية، وجدت موقفًا موحدًا يقدمك إلى العالم: الكاتبة القادمة من عالم الخوف والرعب والنذالة والخيانة. لم تعن لك هذه الكلمات شيئًا اليوم، وأنت تشاهدين على تلفازك أو في شاشة هاتفك صراخ الأطفال والأمهات والرجال في غزة وبيروت؟ أم أنك ما تزالين تقومين بموهبتك المفضلة حين كنت راعية للأبقار في المروج الرومانية، حين كنت تنادين على الأشجار والنباتات ولا تسمعين سوى الكلمات الخرساء؟
أقف هنا وأعدك أني لن أرى في وجهك الشاحب سوى القبح الألماني. وفي كلماتك التي سأتابع قراءتها في الأيام القادمة باللسان العربي الشريف، لن أجد فيها سوى التزييف والقلب للتسمية والنداء.
قرأت مساء يوم الأربعاء الماضي، 6 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، مقالة في منبر "ضفة ثالثة" بقلم واحد من أفضل المترجمين العرب عن اللغة الألمانية، يشجب فيها بصوت هادئ، لكنه مصدوم، ما صدر عنك من مواقف أخيرة (سمير جريس: هيرتا مولر إذ تتبنّى السردية الإسرائيلية كاملة وتدين الضحايا الفلسطينيين). ولأنني لم أتمكن من كتابة رسالة إليك، فقد كان الليل في منتصفه، وأنا أنام في الوقت الذي ينام فيه طفلي، ولن أستطيع إزعاجه بأشعة الضوء وبحركاتي القلقة في البيت (فلنتصور، لنقارن، رعب أطفال غزة وبيروت)، انتظرت بفارغ الصبر، وجمر الأسى يحرق جلدي، حتى صباح يوم الغد لأكتب اليك. تصوري اثنتي عشرة ساعة من التقلّب في السرير، من المراجعات الفكرية، من الندم الأيديولوجي والأدبي. لكنني لا أخفي عليك أنني نهضت الى مكتبي مشيًا على أطراف أصابعي، وظهري مقوس مثل رجل في غزة يبحث عن الجثث تحت الأنقاض، وأخذت روايتك "ليتني لم أقابل نفسي اليوم" التي أحببتها كثيرًا. قرأت من هنا وهناك... يا للدهشة! كيف أُعجِبتُ في السابق بكاتبة ركيكة مثلك. إن القوة الموجودة فيها هي باختصار تعرضك باستمرار لملاحقات الجهاز الأمني اللاإنساني الذي يضمن الاستمرار لكل ديكتاتورية. وهذا فعله قبلك، وربما أفضل منك، العديد من الروائيين العرب. يحضرني منهم الآن: صنع الله إبراهيم، شريف حتاتة، عبد الرحمن منيف، حيدر حيدر، هاني الراهب، غالب هلسا، الطاهر وطار... بدون هاجس إرغام النفس على إثبات البراعة الفنية، والالتفافات التزيينية كما فعلت أنتِ. وكم استهجنت جملك المتصنعة عن أشجار الحور، والترام، والرجل الهرم الذي يلبس قبعة من القش وأنت تدعينه يركب قبلك... إنها، سيدتي، أساليب أصبحنا نحن الروائيون العرب نتخلّى عنها لأنها لا تخلق سوى فقاعات من التعبير الأجوف.
سيدتي الحائزة على جائزة نوبل للآداب،
ما دواعي جلوسك، في حفل أقيم في فيينا، بجانب المتحدّث الرسمي للجيش الإسرائيلي أرييه شاروز شاليكار، والمؤرخ والخبير العسكري الإسرائيلي الألماني ميشائيل فولفسون، والخبيرة في الإرهاب ريبيكا شونينباخ؟ هل المبرر هو منحك جائزة في الصحافة والإعلام تحمل اسم فنان ومعماري نمساوي يهودي اسمه آريك براور؟ هل المساهمة في النقاش العام، من منظور العدل والعقل، يعني نشر التحريض ضدّ الفلسطينيين (وهو يعني أيضًا التحريض ضدّ العرب)؟ لماذا تزجين بنفسك في هذه المحاكمة الرهيبة، وفي هذا النقاش "الظالم وغير العادل" وأنت تحملين تلك التذكرة الذهبية نحو الشهرة: "جائزة نوبل" منذ سنة 2009؟
دعيني أذكرك بأقوالك في أحد المؤتمرات الصحافية: "أعرف ما معنى أن تستيقظ في الصباح والخوف يعتصر معدتك لأنك لا تعرف ما إذا كنت ستظل على قيد الحياة حتى المساء". ظلت هذه التجربة المأساوية للديكتاتورية في كتاباتك وحياتك. إنها تتجاوز تجربتك الشخصية كمؤلفة، وذلك أقصى نموذج للمعاناة. إن جائزة نوبل للآداب، يا سيدتي، التي مُنِحت لك، وقام العرب بترجمة أغلب أعمالك الفائزة، لها قيمة رمزية ليس فقط بالنسبة للألمان، والألمان في رومانيا، وليس فقط بالنسبة للثقافة الألمانية في نهر الدانوب والكاربات، ولكن أيضا لجميع أولئك الذين أصيبوا بكدمات وصدمات نفسية مدى الحياة بسبب تسلّط وتجبّر أي نظام شمولي.
سيدتي، التي كانت طفلة ترعى الأبقار في مروج رومانيا الرائعة،
دعيني، مرة أخرى، أذكرك بما يلي: خلال حفل توزيع جائزة نوبل، قمت برحلة مذهلة من قريتك إلى القصر الملكي المذهب في السويد، ومما جاء في خطابك: "عندما كنت أرعى الأبقار في الوادي. أكلت أوراق الشجر والزهور لأكون واحدًا منهم، لأنهم يعرفون كيف يعيشون، ولم أكن أعرف. ناديتهم بأسمائهم. يجب أن يكون اسم الشوك اللبني يعني هذا النبات الشائك ذا السيقان المليئة بالحليب، إلا أن النبات لم يرد عليّ وأنا أنادي باسم الشوك المليء باللبن. فجربت أن أناديه بأسماء مبتدعة لم تشتمل على كلمتي الشوك والحليب". وحين أعياك هذا التزييف والتزوير الذي لم ينفع مع الطبيعة، وهو بمثابة عار أصلي، عدت إلى الحديث إلى نفسك وليس إلى النباتات، وتابعت رعي الأبقار.
ما فائدة هذا الدرس الطبيعي، إن لم ينفعك واقعيًا وتطبيقيًا اليوم، أمام شعب أعزل تطحنه آلة رهيبة؟ وأنت تتبجحين بكلماتك المكررة في ندوة لم يحضرها سوى جنرالات في الجيش الإسرائيلي وشخصيات في مكتب وزير الدفاع، ولا أظنك تتجرأين على إلقائها في الجامعات الأميركية أو حتى الألمانية. ولن ينفعك بعدها، عند القراء العرب على الأقل، ترديد كلماتك الأخلاقية المليئة بالزيف. إن الزيف يزحف على مجمل صفحات رواياتك، وهي الآن بلغت أربع روايات باللسان العربي الشريف.
سيدتي، أيتها الفائزة بجائزة "فرانز فيرفل" لحقوق الإنسان،
حين عدت إلى المراجعات الصحافية والكتابات النقدية، وجدت موقفًا موحدًا يقدمك إلى العالم: الكاتبة القادمة من عالم الخوف والرعب والنذالة والخيانة. لم تعن لك هذه الكلمات شيئًا اليوم، وأنت تشاهدين على تلفازك أو في شاشة هاتفك صراخ الأطفال والأمهات والرجال في غزة وبيروت؟ أم أنك ما تزالين تقومين بموهبتك المفضلة حين كنت راعية للأبقار في المروج الرومانية، حين كنت تنادين على الأشجار والنباتات ولا تسمعين سوى الكلمات الخرساء؟
أقف هنا وأعدك أني لن أرى في وجهك الشاحب سوى القبح الألماني. وفي كلماتك التي سأتابع قراءتها في الأيام القادمة باللسان العربي الشريف، لن أجد فيها سوى التزييف والقلب للتسمية والنداء.