في كل مرة تقترب فيها الانتخابات الأميركية نجد أنفسنا أمام مسرحية سياسية بمقادير بصرية بوليوودية وبنفس هوليوودي دراماتيكي بامتياز. تبدو السياسة غائبة ومغيبة في المشهد الانتخابي ويتم تعويضها بنوع من الكوميديا السوداء التي تسخر من نفسها أوّلًا ومن الاجتماع الأميركي المعاصر. غير أنّ هذا الأداء المسرحي في الانتخابات الأميركية الأخيرة لم يأت بشكلٍ تلقائي، بقدر ما ينمّ عن مدى موهبة السياسيين وقدرتهم على تحويل أجسادهم إلى لغةٍ للتعبير والتواصل، حيث يتم العمل على ذلك في الخفاء ويتم مع مرور الزمن ارتجاله حتّى يصبح رجل السياسة ممثلًا أكثر من كونه رجل دولة.
إن الأداء المسرحي مهمّ لرجل السياسة حتى يُبرّر ألاعيبه ويُكرسّ خطابه السياسي، بحكم أنّ للجسد لغته الخاصّة المؤثّرة أكثر من الخطاب الشفهي الترفيهي. ونظرًا إلى قيمة هذا البعد المسرحي بالنسبة للسياسيين للدفاع عن برامجهم الانتخابية، فإنّه يتم العمل على هذه المواضعات الجسدية من أجل تثمينها وجعلها قوّة ناعمة مؤثّرة في سراديب الشأن العام. وتحظى المناظرات السياسية بمتابعة كبيرة في العالم، ذلك أنّ المُشاهد يستمتع بها، لا بما تُقدّمه من أخبار حول البرامج السياسية، وإنّما كمُقابلات رياضية ينتظر فيها المُشاهد من الذي سيكون الأكثر إقناعًا وتأثيرًا.
هل يتعلّق الأمر هنا بأداءٍ مسرحي فعّال ومؤثّر في ذهنية المواطن؟ أم أنّ هذا التعبير المسرحي "الساذج" يمكن اعتباره تثمينًا للخطاب السياسي الشفهي؟ هل نحن هنا أمام لغة يتحكّم فيها الجسد وتبني شرعيتها الإشارة؟ أم أنّ الأمر في عمومه مجرّد وهم يُضمر عجزًا سياسيًا وانبطاحًا ثقافيًا؟
يعتبر علماء النفس أنّ الجسد له إشاراته وأحيانًا تكون أقوى من الخطاب السياسي المباشر. وهو ما يدفع الكثير من رجال السياسة إلى التعبير بملامحهم وعيونهم وأياديهم من أجل إضفاء الشرعية على خطاباتهم الأيديولوجية. إذْ يتبدى هذا الأمر بقوة عند دونالد ترامب وباراك أوباما وجو بايدن، جميعهم استخدموا لغة الجسد للتعبير عن قضايا وإشكالات ذات صلة بواقع أميركي متصدّع. غير أنّه في لحظة ما يشعر المُشاهد بأنه أمام مسرحية أكثر من كونها مناظرة سياسية، كل طرف يحاول أنْ يبهر الجمهور بخطابه وملامحه وحركاته.
إنّ لغة الجسد هنا تصبح هي المحدد الوحيد لنجاح السياسي عن غريمه وليس برنامجه الانتخابي وما يمكن أنْ يفتحه من منافذ ضوء بالنسبة للبلد. في كل مناظرة يُطوّر رجل السياسة مواهبه المسرحية فيجعلها تسبق أجندته السياسية، ما يعني أنّ الأمر ليس تلقائيًا، بل مفكّرًا فيه من قبل. لكنْ في مقابل ذلك نجد السياسي العربي، بمعظمه، متخبطًا في تقليديته وعمومياته السياسية الفجّة. ذلك أنّ كل شيء بالنسبة له عشوائي، بل نادرًا ما نعثر على رجل سياسة أو حزب يتوفّران على ثقافة تؤهلهما للقيام بنقاش سياسي عميق وتفكير أصيل، فبالأحرى أنْ يعرف بقيمة الجسد باعتباره أداة فعالة في الخطاب السياسي. وإذا استثنينا بعض الزعماء والملوك ممّن توفرت فيهم كاريزمات سياسية قوية، فإنّنا نجد العديد من زعماء الأحزاب السياسية أمام وضعيات محرجة داخل المناظرات السياسية وقبة البرلمان.
يعتبر بعض الباحثين أنّ معرفة وإتقان لغة الجسد تعتبر أفقًا وطريقًا للتعرف على الآخر. ونعني هنا بلغة الجسد كل ما له صلة بالتغيّرات الفيزيونومية من طريقة النّظر واحمرار الوجه والسلوكات ومنسوب العاطفة وإمالة الرأس ورفع الحواجب التي تؤثّر بطريقة ما في المتلقي. غير أنّ لغة الجسد في السياسة تختلف عن نظيرتها في الحياة العامّة. فالأولى لها ما يبررها ولها شرعيتها في ممارسة الوهم والتأثير على ذائقة المتلقي. إذْ غالبًا ما تكون هذه اللغة مصطنعة وخاضعة إلى دوافع ماكرة تجعل من رجل السياسة يصبح ممثلًا.
إنّ الأداء المسرحي في هذه الحال هو شكلٌ من أشكال التعبير السياسي لأنه يغدو بمثابة أداة لتمرير أفكار ومواقف والتعبير عن أشياء لا تستطيع اللغة التعبير عنها. ففي المناظرة الأخيرة بين بايدن وترامب بدا التعب واضحًا على جسد بايدن ما دفعه إلى القول حتّى يحمي نفسه من انتقاد فريقه السياسي والصحافيين بأنّه كان متعبًا وشعر في لحظة ما أنه يغفو على خشبة المسرح. وبالتالي، فإنّ اللجوء هنا للدعابة الساخرة ليس ضعفًا وإنّما قوّة لإضفاء نوع من المرح على خطابه السياسي، كأنّه لم يكُن في مهمّة سياسية مع ترامب على منصّة المناظرة.
ولعل صور مشهد فشل اغتيال دونالد ترامب، الرئيس المقبل للولايات المتحدة الأميركية والمرشح للحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية لعام 2024، لحظة نجاته تُضمر بعضًا من التأثير الهوليوودي على الرجل. لقد نجح المصوّر إيفان فوتشي في التقاط لحظة الاغتيال مُحوّلًا ترامب إلى محارب يُلوّح في الهواء قائلًا "قاتلوا". إنّ إضفاء البعد السينمائي على مشهد الاغتيال زاد ترامب شهرة و"محبّة" في عيون الجمهوريين. إنّ الصورة هنا بدت بليغة في التقاط تفاصيل الواقعة وهي تنذر بالقادم داخل وسط سياسي أميركي ساخن. إنّ الصورة هنا تلعب دورًا كبيرًا في صناعة الوهم، فهي تخطف الإحساس وتدفع المُشاهد إلى الخروج من أقانيم الواقع صوب فضاء بصري متخيّل. ومنذ اللحظة التي أصبحنا نعيش في زمن الصورة بذل رجل السياسة مجهودًا كبيرًا في تملّك هذه الوسيلة والقبض عن ملامحها وأشكالها وتجلّياتها لمُحاولة توظيفها داخل الخطاب السياسي. وقد نجح العديد من السياسيين في توظيفها وجعلها وسيلة لتمرير الخطاب السياسي وإدانة خصومهم على أرض الواقع. فحين نتحدّث عن الجسد والصورة نجد أنفسنا اليوم أمام أدوات ذات حمولة سياسية مؤثّرة في الحياة اليوميّة. فإذا كان المفكّر عبد الخطيبي يعتبر أنّ الجسد هو في الأصل عبارة عن صورة، فلأنّه حدس منذ سبعينيات القرن العشرين بمكانة مفهوم الجسد في الحياة المعاصرة، بوصفه مختبرًا لاجتراح مُختلف الأفكار السياسية والفنّية والاجتماعية ذات الصلة بالواقع.
سينمائيًا حرصت هوليوود على التطرق إلى موضوع الانتخابات الرئاسية والطريقة التي بها يتم إعداد الرئيس لمواجهة خصومه السياسيين. ويعد فيلم "سمعتنا في أزمة" (2015) للمخرج السينمائي الأميركي ديفيد جوردون جرين أبرز الأفلام التي عرّت واقع الصناعة الانتخابية في أميركا. ذلك إنّ الفيلم يُركّز بالضبط على الكيفية التي يتم بها إعداد الرئيس لحملاته الانتخابية من لباس وخطاب ورموز وإشارات وطريقة في التعامل مع الناس وكسب محبّتهم. لكنّه في العمق عبارة عن فيلم كوميدي ينتقد واقع الانتخابات الأميركية وكواليس صناعة القرار داخل المشهد السياسي وما الذي يتغيّر بعد الانتخابات. فقد جسّدت دور البطولة الممثلة الأميركية ساندرا بولوك التي لعبت دور مستشارة متخصّصة في حملات انتخابية أميركية بهدف مساعدة مرشّح للفوز في الانتخابات. بلغت تكلفة إنتاج الفيلم حوالي 28 مليون دولار بينما حقق إيرادات تقدّر بـ 8.5 مليون دولار. واعتبر مجموعة من النقاد هذا الفيلم الأكثر تأثيرًا في سيرة النجمة ساندرا بولوك، لأنّه يُظهرها بمظهر آخر مختلف عن باقي أفلامها ذات النزعة الرومانسية. إنّ الوعي بقيمة هذا الموضوع من لدن ديفيد جوردون ساهم في إنجاح الفيلم كتابة وإخراجًا، لكونه يُبعد الفيلموغرافيا الهوليوودية قليلًا عن الطابع الحركي ويُقحم الكاميرا في أروقة المرشحين وسراديب الانتخابات وعوالمها ومكرها.
إن الأداء المسرحي مهمّ لرجل السياسة حتى يُبرّر ألاعيبه ويُكرسّ خطابه السياسي، بحكم أنّ للجسد لغته الخاصّة المؤثّرة أكثر من الخطاب الشفهي الترفيهي. ونظرًا إلى قيمة هذا البعد المسرحي بالنسبة للسياسيين للدفاع عن برامجهم الانتخابية، فإنّه يتم العمل على هذه المواضعات الجسدية من أجل تثمينها وجعلها قوّة ناعمة مؤثّرة في سراديب الشأن العام. وتحظى المناظرات السياسية بمتابعة كبيرة في العالم، ذلك أنّ المُشاهد يستمتع بها، لا بما تُقدّمه من أخبار حول البرامج السياسية، وإنّما كمُقابلات رياضية ينتظر فيها المُشاهد من الذي سيكون الأكثر إقناعًا وتأثيرًا.
هل يتعلّق الأمر هنا بأداءٍ مسرحي فعّال ومؤثّر في ذهنية المواطن؟ أم أنّ هذا التعبير المسرحي "الساذج" يمكن اعتباره تثمينًا للخطاب السياسي الشفهي؟ هل نحن هنا أمام لغة يتحكّم فيها الجسد وتبني شرعيتها الإشارة؟ أم أنّ الأمر في عمومه مجرّد وهم يُضمر عجزًا سياسيًا وانبطاحًا ثقافيًا؟
يعتبر علماء النفس أنّ الجسد له إشاراته وأحيانًا تكون أقوى من الخطاب السياسي المباشر. وهو ما يدفع الكثير من رجال السياسة إلى التعبير بملامحهم وعيونهم وأياديهم من أجل إضفاء الشرعية على خطاباتهم الأيديولوجية. إذْ يتبدى هذا الأمر بقوة عند دونالد ترامب وباراك أوباما وجو بايدن، جميعهم استخدموا لغة الجسد للتعبير عن قضايا وإشكالات ذات صلة بواقع أميركي متصدّع. غير أنّه في لحظة ما يشعر المُشاهد بأنه أمام مسرحية أكثر من كونها مناظرة سياسية، كل طرف يحاول أنْ يبهر الجمهور بخطابه وملامحه وحركاته.
إنّ لغة الجسد هنا تصبح هي المحدد الوحيد لنجاح السياسي عن غريمه وليس برنامجه الانتخابي وما يمكن أنْ يفتحه من منافذ ضوء بالنسبة للبلد. في كل مناظرة يُطوّر رجل السياسة مواهبه المسرحية فيجعلها تسبق أجندته السياسية، ما يعني أنّ الأمر ليس تلقائيًا، بل مفكّرًا فيه من قبل. لكنْ في مقابل ذلك نجد السياسي العربي، بمعظمه، متخبطًا في تقليديته وعمومياته السياسية الفجّة. ذلك أنّ كل شيء بالنسبة له عشوائي، بل نادرًا ما نعثر على رجل سياسة أو حزب يتوفّران على ثقافة تؤهلهما للقيام بنقاش سياسي عميق وتفكير أصيل، فبالأحرى أنْ يعرف بقيمة الجسد باعتباره أداة فعالة في الخطاب السياسي. وإذا استثنينا بعض الزعماء والملوك ممّن توفرت فيهم كاريزمات سياسية قوية، فإنّنا نجد العديد من زعماء الأحزاب السياسية أمام وضعيات محرجة داخل المناظرات السياسية وقبة البرلمان.
يعتبر بعض الباحثين أنّ معرفة وإتقان لغة الجسد تعتبر أفقًا وطريقًا للتعرف على الآخر. ونعني هنا بلغة الجسد كل ما له صلة بالتغيّرات الفيزيونومية من طريقة النّظر واحمرار الوجه والسلوكات ومنسوب العاطفة وإمالة الرأس ورفع الحواجب التي تؤثّر بطريقة ما في المتلقي. غير أنّ لغة الجسد في السياسة تختلف عن نظيرتها في الحياة العامّة. فالأولى لها ما يبررها ولها شرعيتها في ممارسة الوهم والتأثير على ذائقة المتلقي. إذْ غالبًا ما تكون هذه اللغة مصطنعة وخاضعة إلى دوافع ماكرة تجعل من رجل السياسة يصبح ممثلًا.
إنّ الأداء المسرحي في هذه الحال هو شكلٌ من أشكال التعبير السياسي لأنه يغدو بمثابة أداة لتمرير أفكار ومواقف والتعبير عن أشياء لا تستطيع اللغة التعبير عنها. ففي المناظرة الأخيرة بين بايدن وترامب بدا التعب واضحًا على جسد بايدن ما دفعه إلى القول حتّى يحمي نفسه من انتقاد فريقه السياسي والصحافيين بأنّه كان متعبًا وشعر في لحظة ما أنه يغفو على خشبة المسرح. وبالتالي، فإنّ اللجوء هنا للدعابة الساخرة ليس ضعفًا وإنّما قوّة لإضفاء نوع من المرح على خطابه السياسي، كأنّه لم يكُن في مهمّة سياسية مع ترامب على منصّة المناظرة.
ولعل صور مشهد فشل اغتيال دونالد ترامب، الرئيس المقبل للولايات المتحدة الأميركية والمرشح للحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية لعام 2024، لحظة نجاته تُضمر بعضًا من التأثير الهوليوودي على الرجل. لقد نجح المصوّر إيفان فوتشي في التقاط لحظة الاغتيال مُحوّلًا ترامب إلى محارب يُلوّح في الهواء قائلًا "قاتلوا". إنّ إضفاء البعد السينمائي على مشهد الاغتيال زاد ترامب شهرة و"محبّة" في عيون الجمهوريين. إنّ الصورة هنا بدت بليغة في التقاط تفاصيل الواقعة وهي تنذر بالقادم داخل وسط سياسي أميركي ساخن. إنّ الصورة هنا تلعب دورًا كبيرًا في صناعة الوهم، فهي تخطف الإحساس وتدفع المُشاهد إلى الخروج من أقانيم الواقع صوب فضاء بصري متخيّل. ومنذ اللحظة التي أصبحنا نعيش في زمن الصورة بذل رجل السياسة مجهودًا كبيرًا في تملّك هذه الوسيلة والقبض عن ملامحها وأشكالها وتجلّياتها لمُحاولة توظيفها داخل الخطاب السياسي. وقد نجح العديد من السياسيين في توظيفها وجعلها وسيلة لتمرير الخطاب السياسي وإدانة خصومهم على أرض الواقع. فحين نتحدّث عن الجسد والصورة نجد أنفسنا اليوم أمام أدوات ذات حمولة سياسية مؤثّرة في الحياة اليوميّة. فإذا كان المفكّر عبد الخطيبي يعتبر أنّ الجسد هو في الأصل عبارة عن صورة، فلأنّه حدس منذ سبعينيات القرن العشرين بمكانة مفهوم الجسد في الحياة المعاصرة، بوصفه مختبرًا لاجتراح مُختلف الأفكار السياسية والفنّية والاجتماعية ذات الصلة بالواقع.
سينمائيًا حرصت هوليوود على التطرق إلى موضوع الانتخابات الرئاسية والطريقة التي بها يتم إعداد الرئيس لمواجهة خصومه السياسيين. ويعد فيلم "سمعتنا في أزمة" (2015) للمخرج السينمائي الأميركي ديفيد جوردون جرين أبرز الأفلام التي عرّت واقع الصناعة الانتخابية في أميركا. ذلك إنّ الفيلم يُركّز بالضبط على الكيفية التي يتم بها إعداد الرئيس لحملاته الانتخابية من لباس وخطاب ورموز وإشارات وطريقة في التعامل مع الناس وكسب محبّتهم. لكنّه في العمق عبارة عن فيلم كوميدي ينتقد واقع الانتخابات الأميركية وكواليس صناعة القرار داخل المشهد السياسي وما الذي يتغيّر بعد الانتخابات. فقد جسّدت دور البطولة الممثلة الأميركية ساندرا بولوك التي لعبت دور مستشارة متخصّصة في حملات انتخابية أميركية بهدف مساعدة مرشّح للفوز في الانتخابات. بلغت تكلفة إنتاج الفيلم حوالي 28 مليون دولار بينما حقق إيرادات تقدّر بـ 8.5 مليون دولار. واعتبر مجموعة من النقاد هذا الفيلم الأكثر تأثيرًا في سيرة النجمة ساندرا بولوك، لأنّه يُظهرها بمظهر آخر مختلف عن باقي أفلامها ذات النزعة الرومانسية. إنّ الوعي بقيمة هذا الموضوع من لدن ديفيد جوردون ساهم في إنجاح الفيلم كتابة وإخراجًا، لكونه يُبعد الفيلموغرافيا الهوليوودية قليلًا عن الطابع الحركي ويُقحم الكاميرا في أروقة المرشحين وسراديب الانتخابات وعوالمها ومكرها.