Print
سميرة المسالمة

هل يسوّق فن الدراما للقسوة والفساد والعنف؟

6 نوفمبر 2024
هنا/الآن

حققت الأعمال التلفزيونية المعربة شعبية كبيرة في السنوات الأخيرة، وحفّزت المنتجين على تسريع عجلة تصنيعها وتصديرها، لتصبح كأنها إحدى الوجبات الدرامية الإجبارية على كثير من القنوات العربية. وهي إذ كانت نافذة مهمة لإعادة كثير من الفنانين المميزين إلى الشاشات الصغيرة بعد طول انقطاع، وتحسين قدراتهم المالية، إلا أنها في ذات الوقت، أحدثت جدلًا واسعًا حول الرسائل التي تقدّمها بعض هذه الأعمال، التي تدور مواضيعها حول الجريمة المنظمة، وصراعات المافيا والفساد، العابرة للحدود، وامكانيات "أبطالها" الخارقة في كل وقت على تجاوز القانون والتلاعب به، والانتصار عليه، وكأننا أمام حملات ترويجية لمجتمعات العصابات التي لم تنج منها مجتمعاتنا!

ومع تأكيد ما يتميز به الفن، في مجال التمثيل والدراما في التلفزيون والسينما والمسرح، من قدرة على تشكيل "ثقافة" مجتمعية جديدة، في أي مكان، أو مجال استخدم به كقوة ناعمة، يبرز السؤال عن هدف اختيار نموذج البطل "المجرم" للناطقين بالعربية كحالة قادرة على أن تكون فوق قوة القانون والدولة والمجتمع والقيم، على رغم من أن نهاية هذا "البطل" المأساوية، المتوقعة، والتي تتأخر لنحو تسعين حلقة بهدف التشويق وحصد المتابعات لا تقلل من "عظمة هالته" بين متابعيه، ولا تخفض من جنوح الخيال، بعد تعشش فكرته وتغلغل أفكاره، وتعبيد طرق الوصول إليه، في أذهان ومشاعر متابعيه، من أجيال لم يحالفها حظ العيش في مجتمع آمن، ولا يتوفر لها التعليم والمأوى والطعام والصحة، فهل نحن أمام حرب قيمية خاسرة سلفًا، أم أنه الواقع الذي جعل الجريمة بطولة ومصيرًا؟

ولعل من الإنصاف القول إن الفن حاليًا، باستخدامه الأدوات التكنولوجية الحديثة واستثماره في وسائل التواصل الاجتماعي أيضًا، صار بمرتبة متفوقة على كل منظوماتنا المجتمعية، على الأسرة والمدرسة والجامعة، وتميّز في تأثيره وقوة انتشاره على عادات وقيم المجتمع وتقاليده، وهو بوصفه أحد أرقى وسائل التعبير، نجح في كثير من الأعمال الدرامية، على أنواعها، باستحضار الواقع المرير إلى شاشات التلفزة، وجعل منه "عبرة" وليس "نموذجًا" للتقليد، كما تعاطى مع "تابوهات" الماضي وربطها بالحاضر، لإغناء التصور العام عن طرق الدفع بالواقع إلى رحابة المستقبل.

وهذا لا يعني أنه لم تكن له سلبياته، ولم يحاول أخذ مساحته بالنقد "قيد المتاح"، إلا أنه رغم كل شيء، تقدّم وحمل صليبه ماضيًا إلى "النبش" وقول الممنوع عن مخاوف النزاع البشري، وتطور أسلحته وعالم ما بعد الأرض، وغير ذلك، من كوارث صحية وطبيعية، كانت بالنسبة لنا، محض خيال، قبل أن نعيشها في العقدين الأخيرين، "كقرينة" لنا تعايشنا معها، وأخذت منّا أحباءنا، وقتلتهم بأوبئتها التي كانت محض خيال كاتب، ودمرت مدنًا بأسلحتها التي سبقت الواقع، وأنهت العالم، ومن ثم أحيته، بكاميراتها، وإخراجها، وأداء ممثليها.

وأمام القوة الهائلة للفن في تشكيل الرأي العام، لا يمكن تجاهل استخداماته للترويج للتغيير، والذي لا يشترط أن يكون إيجابيًا، هذا في كل المجتمعات، ومنهم مجتمعنا العربي، كأن يصور لنا أن الطريق إلى العيش "المرفّه" هو عبر الفساد والجريمة والانحطاط، وبجعل المتعلمين وأصحاب القيمة العلمية أو الثقافية آيلين للسقوط في بئر الفقر والفاقة، (هذا إذا كان الكاتب والمخرج رؤفًا بهم، ولم يتركهم ليمارسوا أبشع أنواع التذلل للحصول على لقمة العيش).

وهو ما يضع الآباء والأمهات أمام أسئلة لا تنتهي من أبنائهم، ولعل في مقدمتها، ما الذي تغيره الدراسة والتعليم والشهادة الجامعية، هل تجعل الجريمة أكثر دقة (على سبيل المثال والسخرية)؟ وهل حقًا هذه الشريحة المجرمة تنال الجزاء العادل لارتكاباتها؟ وهل ينبذها مجتمعها؟ كيف يصح هذا؟ وهي إما تتبوأ المناصب، أو تسهم في تنصيبها، بعضهم يمثل الشعب تحت قبة البرلمانات، وآخرون وزراء ومسؤولون وغير ذلك، فبطل مسلسل "العميل"، على سبيل المثال، هو مهرّب مخدرات وقاتل، وفي ذات الوقت هو الأب الحنون، والذي لا يختلف عن بطل مسلسل "الهيبة" الابن البار (جبل شيخ الجبل) مع ملاحظة أنه مسلسل غير معرب، كلاهما مهربان مجرمان غارقان بدماء منافسيهما ورجال الشرطة والأمن، وهما يعيشان حالة الرفاهية المفرطة، ويملكان السطوة وسلطة وعناصر ميليشيات مسلحة، خارج القانون وفوق الدولة.

يمكن لمتابعي الأخبار وبخاصة عن عمليات التهريب الكبرى التي تحبطها أجهزة المكافحة في دول عربية عديدة، أن يتوافقوا على أن واقعنا في ظل الحروب الوحشية التي تعيشها شعوب منطقتنا العربية (بخاصة في فلسطين وسورية ولبنان والعراق واليمن والسودان وليبيا) هو أكثر مرارة وفسادًا وسقوطًا في بحر الجريمة لأطراف محلية، وامتدادات خارجية، إلا أن تسليط الفن على تشبيع مخيلات الشباب خاصة بوقائع عالم المافيا، وقدراته، وميزات عيش زعمائه، ورفاهية منعكساته على أسرهم، يمكن أن يدرج على أنه ترويج، لما تجنيه هذه الشريحة من مكتسبات تكاد تفوق ما يمكن أن تدفعه في النهايات المؤجلة، إلى ما بعد شيخوخة بعضهم، من ثمن، فعن أي ثمن وهذه الإمبراطوريات المبنية على أعمدة من أجساد ضحاياها ودمائهم، تورث جيلًا بعد جيل كما في مسلسلات الإنتاج الضخم التي تستهدف ثقافة الجيل الجديد لمجتمعاتنا.

لا يعني ما تقدّم أن المسلسلات المعربة وحدها من يقدم هذه الرسائل ذات الأهداف - لنقل بحسن نية- "الترفيهية"، فقد سبقت كل أنواع الفنون تقديمها، من غناء كفن الراب إلى روايات الاثارة والجنس والرعب والهلع، إلى السينما، فلا أحد ينسى مدى تأثير فيلم "العراب" (1972) لآل باتشينو، ذلك الساحر الذي أدخلنا إلى دهاليز عالم المافيا، ومن ثم أقفل علينا داخل حالة من الانبهار والمتعة والتشويق، ليحظى عن جدارة بمرتبة ثاني أعظم فيلم في السينما الأميركية، وهو ما فتح أبواب الحكايات لمنتجي الفن الحديث عن عالم مواز، لسنا نحن (أعني المتلقين) سوى ضحاياه، سواء أننا كنا مجرد سوق لهذه الحكايات بعجرها وبجرها، أو أننا فعليًا مجرد جنود على رقعة الشطرنج الذين يموتون ليحيا الملك.