Print
الدوحة - حسام أبو حامد

الحرب على غزة والأحزاب بأوروبا: فرص اليمين وارتباك اليسار(1)

6 فبراير 2024
هنا/الآن

مع توسيع الاحتلال الإسرائيلي عدوانه على قطاع غزة، ومجازره المتكررة بحق الفلسطينيين، التي تحصد في وتيرة متزايدة أرواح آلاف الفلسطينيين، وتبقي عشرات الآلاف منهم مفقودين وجرحى ونازحين، ومع تدمير كل معالم الحياة في القطاع، ازدادت حدة الاستقطاب بين بلدان الاتحاد الأوروبي، واتسعت رقعة التوترات والتناقضات بين الداعين لوقف إطلاق النار الفوري والمعارضين له دعمًا لإسرائيل في "حربها ضد حماس". تعالت الأصوات في الشارع الأوروبي منتقدة إسرائيل وحربها على غزة، والحكومات الغربية لعدم قدرتها على فرض هدن إنسانية أو وقف لإطلاق النار. وامتدت حالة الاستقطاب إلى الساحات السياسية الداخلية، وبضغط من الشارع، الذي حركت معظمه مجموعات مناهضة للحروب، أغلبها من اليسار السياسي، وجدت الأحزاب والقوى السياسية الأوروبية نفسها مضطرة إلى إعلان مواقفها من العدوان الإسرائيلي على غزة. وبينما تمسك معظم اليمين بموقف ثابت يدعم إسرائيل بالكامل ويدين هجوم حماس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، تخبطت أطياف اليسار في تحديد موقفها، وبدا أن هجوم حماس ومقتل وأسر إسرائيليين، والتضليل الإعلامي الإسرائيلي والغربي حول ملابسات الهجوم، أحرج اليسار السياسي الحاكم، خاصة مع زعم إسرائيل أن حربها موجهة ضد حركة حماس، المصنفة "منظمة إرهابية" في معظم الدول الأوروبية، ووجدت الأحزاب اليسارية نفسها في مأزق حيال كيفية تصنيف تصرفات حماس، ومستوى القوة التي يحق لإسرائيل أن تستخدمها في ردها العسكري. واختلفت أحزاب اليسار في مواقفها وتعمقت أزماتها الداخلية في شقاق مع اليمين السياسي، وتصدعت تحالفاتها الهشة، مما يهدد مستقبلها السياسي في غير بلد أوروبي.

تحولات المواقف بين يمين ويسار في أوروبا من القضية الفلسطينية عمومًا، ومن الحرب على غزة خصوصًا، يتناولها موقع "ضفة ثالثة" مستطلعًا آراء عدد من الباحثين والكتاب، للإجابة على تساؤلات تتعلق بانعكاسات حرب إسرائيل على غزة على الساحة السياسية الداخلية، التي يبدو أنها تحوّلت إلى قضية رأي عام في دول الاتحاد الأوروبي، وإلى عامل استقطاب أخلاقي وسياسي، وربما تأثرت أوروبا بتلك الحرب أكثر مما أثرت فيها.

من "أقلية مضطهدة" إلى استعمار

دعم اليسار الأوروبي دولة الاحتلال الإسرائيلي منذ تأسيسها عام 1948 بوصفها حاملًا سياسيًا لقضية "أقلية مضطهدة تسعى إلى تقرير مصيرها"، الأمر الذي بدا في حينه يتماشى مع "أفكار وأخلاقيات اليسار". ولكن لم تعد هذه الدولة بالنسبة لليسار بعد حرب عام 1967، دولة أقلية مهددة بالإبادة، بل قوة إقليمية مهيمنة، مما أربك تحيزاتها الأخلاقية، وأعادت أجيال يسارية شابة تقييم الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، في ضوء المتغيرات الجديدة، بالتوازي مع تراجع بريق الحركة الصهيونية لدى تلك الأجيال الجديدة، منذ وصول أول حكومة يمينية إلى رئاسة الحكومة في عام 1977، ولم تعد في نظرهم "حركة تحرير". ومع تراجع حزب العمل الإسرائيلي والحركة الاشتراكية في إسرائيل، رسم اليسار الجديد إسرائيل دولة استيطانية استعمارية، وتمزقت سيميائيتها بوصفها دولة لاجئين عائدين إلى الديار، إضافة إلى الازدياد المطرد للناخبين المسلمين في غير بلد أوروبي. ومع تحول تركيزه إلى الجاليات الإسلامية الأكبر حجمًا مقارنة بالجاليات اليهودية، ومن النقابات العمالية إلى الجامعات، توحد اليسار حول ربط إسرائيل بالاستعمار.

ومنذ منتصف العقد الماضي، بدأ زعماء اليمين الأوروبي المتطرف يجاهرون بدعم إسرائيل، وهم الذين ترجع أصولهم إلى النازيين والفاشيين الجدد، متراجعين عن التصريحات العلنية المعادية للسامية وإنكارهم المحرقة، مما أفسح لظهور ما وصفه بعض الباحثين في الغرب بنوع من "محبة جديدة للسامية"، تثني على المساهمات اليهودية في الحضارة "اليهودية المسيحية"، وتحمل منظورًا جديدًا لإسرائيل كـ "منارةً للحرية والتسامح والقومية في الشرق الأوسط"، وتمظهروا بمظهر المدافعين عن الجاليات اليهودية الأوروبية ضد "معاداة السامية الإسلامية" أو اليسارية. ويبدو لبعض المراقبين أن مديح الشعبويين اليمينيين الجدد للمساهمات اليهودية في التاريخ والثقافة الغربية جزء من التحول في الخطاب من العنصرية إلى طريقة جديدة للتمييز بين "نحن" و"الآخر"، تعتمد على "التعددية"، وأن من حق دول أو ثقافات أو مجموعات عرقية معينة، الدفاع عن ثقافتها ضد "الغرباء". وفي هذا السياق، يُنظر إلى وجود الجاليات اليهودية في أوروبا بوصفه دليلًا على هوية رئيسية للمجتمعات الغربية الحديثة، أما مراكز اليهود خارج أوروبا/ إسرائيل، فتلعب دورًا مركزيًا باعتبارها نموذجًا "لكيفية تعايش الشعوب والأمم"، كما بات يُنظر إلى الصهيونية باعتبارها مثالًا للقومية "الحديثة الجريئة"، التي تجسدها سياسات بنيامين نتنياهو بشكل خاص، وتستحق "الثناء والمحاكاة" في نظر كثير من زعماء اليمين المتطرف في أوروبا.

تصدعات اليسار الفرنسي

شكلت فرنسا حالة نموذجية لليسار المنقسم حول الحرب في غزة. فقد أثار حزب "فرنسا الأبية" الراديكالي غالبية الطيف السياسي بمن فيهم حلفاؤه الأكثر اعتدالًا حين وصف زعيمه هجوم حماس بأنه "هجوم مسلح" يأتي في سياق ردود الأفعال على تكثيف سياسة الاحتلال في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، لكنه لم يصف حماس بأنها منظمة "إرهابية"، كما تصنفها فرنسا ودول أوروبية أخرى. وبدا جان ليك ميلانشون يسبح عكس التيار بقوله: "كلّ أعمال العنف التي أطلقت ضد إسرائيل وفي غزة تثبت شيئًا واحدًا فقط وهو أن العنف يولّد العنف"، داعيًا الجميع إلى الوقف الفوري لإطلاق النار. هناك من نواب الحزب في البرلمان الفرنسي من تقدم خطوات إضافية إلى الأمام، فاتهم لويس بويار الحكومة الفرنسية بالتغاضي عن "الاستعمار والاستيطان والانتهاكات في فلسطين". واعتبرت دانيال أوبونو، في مقابلة تلفزيونية، أن حركة حماس هي مجموعة "مقاومة للاحتلال من أجل تحرير فلسطين".

غيّرت حرب عام 1967 موقف فرنسا، وانتقد شارل ديغول دولة الاحتلال، وأعلن حظر تصدير السلاح الفرنسي إليها (في الصورة: ديغول خلال مؤتمر صحافي في باريس بتاريخ 27/11/1967 Getty)


وفي مواجهة الانتقادات اللاذعة، تنصّلت قيادات في الحزب من مواقف زعيمه ميلانشون، وغيره من أعضاء الحزب، فاعتبر النائب البرلماني عن الحزب فرانسوا روفين أن تصريحات بعض زملائه "لا ترقى إلى مستوى خطورة الأحداث" في دولة الاحتلال، واصفًا حركة حماس بوضوح بأنها "منظمة إرهابية متعصبة، وكانت دائمًا خصمًا للتقدميين في منطقة الشرق الأوسط، ومعادية لأي تسوية سلمية، وتريد نهاية دولة إسرائيل"، على حد قوله. ودان بشدة "الأعمال الإرهابية" التي ارتكبتها حركة حماس في إسرائيل يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي. وفي وقت اعتبر فيه فابيان روسيل، السكرتير الوطني للحزب الشيوعي الفرنسي، أن "الضرورة الملحة هي في المقام الأول إدانة العدوان والعمل الإرهابي"، ندد العديد من المسؤولين المنتخبين عن الحزب الاشتراكي وحزب الخضر أنصار البيئة بموقف حزب "فرنسا الأبية" وزعيمه، في مقدمة هؤلاء النائب البرلماني عن الحزب الاشتراكي، جيروم غودج، الذي عبر عن "الاشمئزاز" ممن وصفهم بـ "الأغبياء المفيدين لإرهابيي حماس الذين يبرئونهم من خلال وضعهم في مكانهم"، معتبرا أن حركة "فرنسا الأبية" اليسارية الراديكالية برفضها تصنيف حركة حماس "منظمة إرهابية" فإنها "تضفي الشرعية عليها وعلى أساليبها في العمل، حتى لو كان ذلك يعني عزل نفسها".

"لم يكن ينقص الاضطراب السياسي الحاصل في فرنسا بين الأحزاب الرئيسة من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين سوى الحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزة، كي تزداد الشروخات فيما بينها. خاصة وأن البلاد تواجه، منذ سنوات، أزمات شتى، تقف في واجهتها قضايا حساسة مزمنة كعلاقة فرنسا بالإسلام وموقف الحكومات المتعاقبة من ثقافة المهاجرين وعاداتهم وسلوكياتهم، والتنميط الحاصل ضدهم، إضافة إلى شؤون محلية خالصة اختلف الجميع حولها، كقانون التقاعد الذي تم فرضه من الأعلى بدلًا من الركون للقرار الديمقراطي أي التصويت في البرلمان"، بحسب ما يقول الكاتب السوري علي سفر.

ويذهب سفر إلى أنه من الواضح أن الحرب على غزة "صبت الزيت على نار الخلافات الفرنسية... خاصة وأن المواقف المداهنة والمرائية لدولة الاحتلال بدت فاقعة وفاضحة، ولا أخلاقية، وتتراجع عن موقف اليمين الديغولي الذي بدا دائمًا أقرب إلى قرارات الشرعية الدولية، وخاصة تلك التي تؤكد على الحق الفلسطيني. وقد ظهر هذا الانحياز السافر في البداية، عندما فرض وزير الداخلية منعًا على التظاهرات المنددة بالهجوم الإسرائيلي، والمجازر المرتكبة في القطاع، لكن سرعان ما تم نقضه قانونيًا من قبل مجلس الدولة الذي أحال الأمر إلى سلطة البلديات".

ويضيف: "ما يظهر على السطح على أنه موقف رسمي معلن لليمين داعم لإسرائيل يكتنف في عمقه محاولات استغلال الحدث لتحقيق بعض المكاسب في سياق التنافس السياسي، إذ يزايد حزب الجمهوريين على حزب الرئاسة والحكومة؛ الجمهورية إلى الأمام، في دعم الكيان الإسرائيلي، بينما يذهب اليمين المتطرف لا سيما حزب مارين لوبين (الجبهة الوطنية)، الذي طالما حامت الشبهات حول موقفه من اليهود، إلى اتخاذ مواقف أشد تطرفًا في دعم إسرائيل لعل هذا يحسن من صورته قليلًا بخصوص هذا الملف".

يختم سفر بالقول: "اللاعبون السياسيون المؤيدون لإسرائيل، ورغم محاولاتهم البحث عن مكاسب، أو النجاة من منعكسات الحرب، وصلوا في النهاية إلى هاوية تفصل بينهم وبين فئات واسعة من فرنسيين (من بينهم جمعيات يهودية ترفض أن ترتكب المذابح باسم الشعب اليهودي) ما انفكوا يتظاهرون كل أسبوع للمطالبة بوقف إطلاق النار... بينما تنعكس في خطابات حزب ميلانشون ومواقفه الأكثر أخلاقية مما يجري محاولات لرص صفوف الفئات الشابة الأكثر دعمًا للقضية الفلسطينية والمهاجرين القادمين من الدول العربية، فيما يبدو على أنه محاولة لتوسيع القاعدة الشعبية".

انتهى المطاف بالحزب الاشتراكي إلى التصويت على تعليق مشاركته ضمن تحالف "الاتحاد الشعبي البيئي والاجتماعي الجديد" للأحزاب اليسارية الفرنسية، مستنكرًا "التحريض الدائم على التفرقة" من قبل حزب "فرنسا الأبية"، مما أذن بنهاية التحالف الذي تشكل من "فرنسا الأبية" و"الاشتراكي" و"الخضر" و"الشيوعي" لخوض انتخابات أيار/ مايو 2022. لكن الباحث الأكاديمي السوري عزام أمين ينبه إلى أنه "لا يمكننا تحميل 7 أكتوبر مسؤولية انهيار التحالف. لنتذكر أنه قبل العملية صرح حزب الخضر أن سيخوض الانتخابات البرلمانية الأوروبية بشكل مستقل عن بقية أحزاب اليسار، وحتى لو كان ذلك تكتيكًا انتخابيًا فهو مؤشر أيضًا إلى هشاشة التحالف القائم على مصالح انتخابية لا مواقف أيديولوجية. أيضًا فيما كان ينادي حزب ’فرنسا الأبية’ بخروج فرنسا من حلف شمال الأطلسي، تمسك حزب الخضر والحزب الاشتراكي ببقاء فرنسا في حلف الناتو. ربما كان الخلاف حول 7 أكتوبر بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير. مع ذلك، وفيما يعد تراجعًا عن مواقف سابقة، اتفق الشيوعي والخضر على إدانة جرائم إسرائيل والمطالبة بوقف إطلاق النار".  

الرئيس الاشتراكي الراحل فرانسوا ميتران التزم خلال حكمه بالسياسة الفرنسية الديغولية بالنسبة لقضايا المنطقة، حين دعم قيام دولة فلسطينية مستقلة أمام الكنيست في عام 1982، وحين دعوته ياسر عرفات لزيارة فرنسا، لكن مع ذلك ليس مستغربًا موقف الحزب الاشتراكي الحالي من حرب غزة، فهو تاريخيًا، كما يؤكد أمين، "حزب يسيطر عليه التوجّه الصهيوني المناصر لإسرائيل. لذلك شن بقوة حملة تشويه ضد حركة ’فرنسا الأبية’ بعد 7 أكتوبر".

استدراك فرنسي

 في 12 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أطلّ إيمانويل ماكرون على الفرنسيين في خطاب من قصر الإليزيه دعاهم فيه إلى الوحدة في مواجهة ما يحدث في غزّة، مستشعرًا فيما يبدو خطر انقسام المجتمع الفرنسي.
"كل شيء هنا يشعر المراقب بأن الأمور تقترب من الاشتعال"، يقول سفر المقيم في فرنسا، لكنه يستدرك أن "ما يجعل الأمور هادئة، ربما هو العودة الدائمة إلى سلسلة إجراءات قانونية تعيد الأمور إلى نصابها ولا سيما لجهة عدم السماح لسلطة الحكومة، ومن ورائها سلطة الرئاسة، بأن تنفرد في اتخاذ القرارات في مواجهة المعارضة التي يقف في مقدمتها بشكل رئيسي اليسار الفرنسي من الحزب الاشتراكي، وحتى حزب "فرنسا الأبية" اليساري ووجهه الأبرز ميلانشون".

ورغم أن برنامج إسرائيل النووي هو نتاج تعاون مع فرنسا منذ الخمسينيات، فقد غيّرت حرب عام 1967 موقف فرنسا، وانتقد الرئيس شارل ديغول دولة الاحتلال، وأعلن حظر تصدير السلاح الفرنسي إليها، وحافظت باريس على موقف متمايز عن المزاج الغربي العام بقيادة واشنطن، وعلى "سياسة عربية" ثابتة سواء وقعت مفاتيح الإليزيه بيد اليمين أو اليسار، ولكن المقاربة الفرنسية للحرب الإسرائيلية على غزة خرجت عن هذا التوجه العام، معبرة عن تراجع وزن فرنسا أوروبيا ودوليًا واكتفائها بالتبعية الأميركية. وأدرك دبلوماسيون فرنسيون خطورة ذلك التراجع، فكانت رسالة "التمرد" التي وصلت إلى ماكرون عبر وزارة الخارجية بتوقيع عدد من سفراء فرنسا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في سابقة في تاريخ الدبلوماسيّة الفرنسيّة الحديث، بحسب "لوفيغارو"، يحتجون فيها على انحياز فرنسا لإسرائيل في موقف يناقض موقف فرنسا التاريخيّ من الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين... ما "يعرّض مصالحها في دول الشرق الأوسط للخطر"، بحسب الرسالة. خطر انقسام المجتمع ورسالة "التمرد" كانا من بين عوامل دفعت فرنسا إلى استدراك موقفها السابق والعودة عنه تدريجيًا لتقترب أكثر من موقفها التاريخيّ "المتوازن" من الصراع الفلسطينيّ الإسرائيليّ، بعد دعم غير مشروط لإسرائيل في حقّها في "الدفاع عن النفس"، فطالب ماكرون إسرائيل بالتوقف عن "قتل النساء والأطفال في غزة"، مشيرًا إلى أمله في أن ينضم قادة الولايات المتحدة وبريطانيا إلى الدعوة لوقف إطلاق النار، وأكد التزام فرنسا بدعم التطلّعات الشرعيّة للشعب الفلسطينيّ، واستمرار العمل من أجل حلّ الدولتين.

(يتبع...)