Print
عبد الكريم قادري

"حلم" للتنمية المسرحية: مشروع رائد في مسرح الطفل

9 أبريل 2024
هنا/الآن



يعتقد علماء النفس بأن صفعة طفل من الممكن أن تؤثر ليس عليه فقط، بل يحتمل أن تتعداه إلى الجيل الثالث من أحفاده وربما أكثر، وهذا انطلاقًا من التأثيرات النفسية التي يمكن أن تتركها فيه، وبالتالي سيعكسها هو الآخر على طفله، لأنه سيعيدها بطريقة أو بأخرى، بشعور منه أو كمنطلق مرض نفسي مكتوم، وبالتالي تصبح العملية توازي في إفرازاتها المفهوم الفيزيائي الذي يطلقون عليه مصطلح "أثر الفراشة"، لتتضح نتائج تلك الأفعال والتصرفات السيئة على أطفال اليوم، من الذين سيصبحون شباب الغد، وهذا ما يُحتّم على المؤسسات الثقافية والتربوية من جمعيات وتعاونيات ومجتمع مدني ومثقفين، المبادرة لتحويل هذا التأثير بأثر عكسي، أي المسح على شعر طفل، الضحك في وجهه، معانقته والتصفيق له، لأنها المعطيات العاطفية التي تساهم في تطوير مواهبه واستخراجها، كون هذا السلوك سيؤثر هو الآخر عليه وعلى الأجيال التي من بعده، ليحوّل هذا الوضع الإيجابي "أثر الفراشة" من طريق الأشواك نحو دروب مليئة بالأحلام والفن والرؤيا والجمال الممتد.

الوعي المسرحي والطفل: طرق التغيير والاختلال

اعتمد الفنان والممثل المسرحي حسين مختار، من خلال "مشروع حلم"، على خلق وتطوير المسرح المدرسي، وهو المغزى الرئيسي لإنطلاقه، وفي نفس الوقت أفرز جملة واسعة من الأهداف الثانوية التي سعى من خلالها لتطوير واكتشاف مواهب الأطفال، والأخذ بيدهم للخروج من العوالم الضيقة التي عاشوا فيها، ومعالجتهم من العقد والآفات والسلوكات السلبية التي زرعت فيهم سابقًا، انطلاقًا من البيئة غير المناسبة التي تربوا فيها، أو كنتيجة الوضع الاجتماعي المتردي الذي مروا به، إلى غير ذلك من المسببات الأخرى التي تسلب حلم الأطفال باكرًا، وترمي بهم في غياهب الآفات والسجون والزوايا المظلمة التي تقتل أجمل ما فيهم باكرًا، لهذا فكّر حسين مختار ودبّر في "مشروع حلم" منذ سنوات، من أجل توجيه الأطفال إلى الخيارات المفضلة، وتنقيتهم من الأشياء السوداء التي علقت في قلوبهم النقية، عن طريق العلاج النفسي بالمسرح، وهي من التقنيات التي باتت اليوم رائدة في العلاج الحديث، من خلال استخدام البسيكودراما في تطبيب الآثار التي يمكن أن تتركها الحروب والاعتداءات والتنمر وغيرها من السلوكات الفردية والجماعية المنتشرة في المجتمع. ولقد تلقى مختار تكوينًا خارج الجزائر، كالتدريب الذي تلقاه في المركز العربي الأفريقي للأبحاث والتكوين المسرحي التابع لمسرح الحمراء بتونس، وهو من الفضاءات التكوينية المهمة التي أسسها المخرج المسرحي عز الدين قنون (1953-2015)، كما شارك في ورشة العلاج النفسي عن طريق الفن ببيروت، إضافة إلى خبرته الواسعة في التمثيل وتدريسه في إحدى المدارس الخاصة بأبناء السفراء بالعاصمة، أي أن لديه الأدوات الضرورية للمضي قدما في هذا المشروع التنويري الهام، لتنمية المسرح المدرسي وخلق جيل مستقبلي من المسرحيين الذين من الممكن أن يقودوا قاطرة المسرح الجزائري إلى روضة الفن والجمال.   

اعتمد الفنان والممثل المسرحي حسين مختار، من خلال "مشروع حلم"، على خلق وتطوير المسرح المدرسي، وهو المغزى الرئيسي لإنطلاقه


التكوين الجيد... خطوات محسوبة نحو المستقبل

بدأ برنامج "مشروع حلم" بشكل رسمي في شهر يناير/ كانون الثاني 2022، من خلال جلب مجموعة من الفنانين المحترفين في العديد من المجالات، قدموا خلالها ورشات مهمة، وهي ورشة "تحويل السرد إلى فعل" أطرها وقادها الممثل نبيل عسلي، صاحب الحضور القوي في المسرح والدراما والسينما، وورشة "علم نفس الطفل" من تأطير البروفيسور جعدوني الزهراء، وورشة "سوسيولوجيا التربية" من تأطير الفنان رابح سليماني، وورشة الموسيقى من تأطير الفنان محمد الشريف بن مغنية، وورشة "الاخراج المسرحي" من تأطير الفنان محمد فرمهدي، وورشة "الكوريغرافيا" من تأطير الفنان لحسن الشريف بن موسى، وورشة "الكتابة الدرامية" من تأطير الأستاذ إسماعيل سوفيط، وورشة "الصحوة الفنية لدى الأطفال" من تأطير الأستاذ خالد بلحاج، وورشة "الجسد وتوظيف الإكسسوارات" من تأطير الفنان أمين زرقان، وورشة "الإرتجال" من تأطير الفنان ربيع قشي، وورشة "صناعة وتحريك الدمى" من تأطير الفنان قادة بن سميشة.

وقد قاموا ولمدة شهر بتأطير ثمانية من الشباب المسرحي من ولاية معسكر (تبعد عن العاصمة حوالي 361 كلم)، وهي المدينة التي انطلق منها المشروع، ليقوم بعدها كل خريج من هذه الورشة بعكس ما تعلمه في مدرسة ما من مدارس معسكر بالحي العريق بابا علي، وكل فرد منهم عليه أن يقوم بتأطير 10 تلاميذ، لتكون النتيجة النهائية تأطير 80 طفلًا دارسًا، من بينهم مجموعة ممن يعانون من أمراض نفسية وحركية وذهنية، لكن وبحسب تصريحات الفنان حسين مختار الإعلامية فإن المشروع تجاوز الرقم الذي كان مسطرًا، ليصل إلى 180 طفلًا من 9 مدارس ابتدائية، وتحول عدد المسرحيات من ثماني إلى عشر مسرحيات، وهو رقم مرتفع في ظل شح الموارد وتوقف دعم صندوق دعم الآداب والفنون عام 2022 قبل أن يُعاد فتحه من جديد، وكان قد قدم وقتها حوالي 30 بالمئة فقط من ميزانية المشروع الكلية في شطرها الأول، وهذا ما أصاب المشروع بالعجز وهدّده بالتوقف في أي لحظة، ولقد رفع مختار وقتها رسالة إلى رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، اشتكى فيها من بيروقراطية الإدارة ومماطلتها، وعدم جدية المسؤولين في دعم مشروع معرفي هادف وناجح مثل مشروعه، وتنصل بعض الجهات من التزاماتها في الدعم.

لكن الدعم الذي لم يجده في الإدارات الرسمية تلقاه من الفنانين الذين شاركوا في التأطير، بعد أن تخلوا عن أتعابهم المالية المستحقة لفائدة المشروع الذي آمنوا به وبأهميته الكبيرة، ورافقوه منذ البداية إلى غاية إقامة الأيام المسرحية، كما أن هناك من دعمه ماديًا في الكثير من الأحيان، وكلها معطيات ساهمت بشكل ما في أن يتحول "مشروع حلم للتنمية المسرحية المدرسية" إلى واقع وحقيقة عاشها أكثر من 180 طفلًا برغم الظروف القاهرة التي صاحبته منذ البداية.

الدعم الذي لم يجده مختار في الإدارات الرسمية تلقاه من الفنانين الذين شاركوا في التأطير، بعد أن تخلوا عن أتعابهم المالية المستحقة لفائدة المشروع الذي آمنوا به


نموذج مصغر والحلم في أن يكبر ويعمم

من المعطيات الجيدة التي تشير بشكل واضح إلى أن الفنان حسين مختار ومن معه سطروا مشروعًا متكاملًا لبناء نموذج مصغر يمكن أن يتم تعميمه مستقبلًا على مستوى الجزائر ككل، اختياره لمقاطعة إدارية صغيرة لتنفيذ هذا المشروع، في الحي الشعبي في ولاية معسكر المعروف بتسمية "بابا علي"، وهو الفضاء الذي يعرفه جيدًا، بحكم أنه كبر وترعرع فيه، وقد أطلق العنان للمبادرات الترفيهية والتطوعية لتتشابك معه معرفيًا وعاطفيًا، ليكون هذا الحي رافدًا مهمًا لورشات التمثيل المسرحي. وقد شاركت في هذا المسعى مجموعة من الفنانين التشكيليين مع الأطفال وأوليائهم في رسم العديد من الجداريات، وأعادوا طلاء الجدران والأزقة وتزيينها، وخلقت تلك الأجواء الجماعية جوًا من البهجة، خاصة من طرف العائلات الذين رأوا تلك الابتسامة والإشراق في وجوه أطفالهم المشاركين، خاصة من الذين يعانقون حلمًا مسرحيًا اقتربوا من تحقيقه، لتنطلق بعدها "أيام حلم للمسرح المدرسي" والتي جرت فعالياتها من 12 إلى 16 من شهر يونيو/ حزيران 2023، بمشاركة مسرحيات مثل فيها الأطفال الذين استفادوا من تلك الورشات المكثفة والنوعية، تنفيذا للبرنامج الذي استمر 6 أشهر من الناحية العملية، بمشاركة عشرة عروض، مثل مسرحية ''عين بنت السلطان'' لمدرسة عيشوبة محمد، ومسرحية "زَيْن وزَينة" لمدرسة علال فتيحة، ومسرحية "ساحرة السيرك" لمدرسة ولد قابلية عبد الرحمان، ومسرحية "في الأعماق" لمدرسة سيدي محمد الشريف، وغيرها من الأعمال التي مثّلت بعض مدارس المقاطعة الإدارية لحي بابا علي. وقد قدّم هؤلاء الأطفال الذين دخلوا عوالم "أبو الفنون" باكرًا، أدوارًا وشخصيات مختلفة، انطلاقًا من الشخصيات التي عاشوها وعايشوها بجوارحهم، لأن النصوص المسرحية التي كتبت هي ترجمة لواقعهم وقصصهم، وأشرف على هذا المشروع المختص في الكتابة الدرامية إسماعيل سوفيط.

وثّقت عدسات الكاميرا تلك الوجوه التي تبكي فرحًا بما تحقق على الخشبة، ما يعكس بدرجة كبيرة نجاح هذا المشروع الذي بات من الضروري تبنيه من طرف المؤسسات الثقافية الرسمية، من أجل تعميمه على باقي ولايات الجزائر، لأنه سينعكس إيجابًا على المسرح الجزائري وبدرجة أوسع على نفسية الطفل، لأن هذه هي التنمية الحقيقية التي يجب تثمينها واستثمارها وتحقيقها ميدانيًا، بعيدًا عن المهرجانات الظرفية والمناسباتية التي تقتل الإبداع بدل أن تحييه، لأنها تنطلق في عجالة ولا ترسم بعدًا وأهدافًا واضحة.

من الأسباب المهمة التي ساهمت في نجاح "مشروع حلم" للتنمية المسرحية، امتلاك المشرف عليه حسين مختار مرجعية مهمة في المسرح، ولقد سبق له القيام بالعديد من المشاريع التي تخص التنمية في المسرح، وقد قدر للكثير منها الاستمرارية. ومن بين المبادرات المهمة التي قام بها تأسيسه لمسرح "القوس" سنة 2013 في ولاية معسكر مع جملة من المبدعين من أبناء المدينة، وهو فضاء حر ومستقل عن المؤسسات الرسمية، جمع تحت قوسه جملة من المبدعين في شتى المجالات، وتخرج منه العديد من الممثلين والكتاب والمولعين بالمسرح وعوالمه الساحرة، ليأتي هذا المشروع ويكمل باقي الأحلام التي تحققت سابقًا.

يذكر أن "مشروع حلم" من تنظيم جمعية نشاطات شباب المستقبل، بالشراكة مع المسرح الجهوي لولاية معسكر الذي كان يديره الشاعر والكاتب عبد الله الهامل الذي رافق ودعم مشروع حسين مختار، حتى أن هذا المشروع تم نقله لولاية بشار، بعد تحويل الهامل إلى هذه المدينة ليدير مسرحها الجهوي، وهناك انطلقت شرارة المشروع في خطوته الثانية، في فضاءات جديدة وتجارب مختلفة، ليكون هذا المشروع الذي يندرج في إطار التنمية المسرحية من بين أهم المشاريع الثقافية التي عرفتها الجزائر، في انتظار أن يتوسع هذا الحلم ليشمل جميع محافظات البلد.

من صور "مشروع حلم":