Print
وائل سعيد

أفلام "المسافة صفر": حكايات لم تُروَ من غزة

20 مايو 2024
هنا/الآن
البوستر الإعلاني للمشروع السينمائي "من المسافة صفر" في مهرجان كان الـ77 المنعقد حاليًا 

تمر الأيام، وما من جديد في فلسطين المحتلة سوى ارتفاع حصيلة الدمار، وتضاعف أعداد الضحايا بين قتلى ومصابين، أو مفقودين تحت الأنقاض. وضع مأساوي أصبح واقعًا مفروضًا على أهالي قطاع غزة منذ اندلاع أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023. لم تكف كاميرات القنوات الفضائية، ووكالات الأنباء، وتقارير المراسلين، عن نقل مجريات الأحداث على مدار اليوم، إلا أن ذلك لم يقف حائلًا أمام المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي لإطلاق مبادرة بعنوان "من المسافة صفر"، بالتعاون مع عدد من الأفراد والمؤسسات، وذلك بهدف استكشاف حكايات خاصة لم ترو في ما سبق من تلك المسافة القريبة.
بدأت فكرة المشروع كما بدأت السينما توثيقية، فلم يكن الهدف من المبادرة سوى صناعة مجموعة من الأفلام التسجيلية توثق الأحداث، لتبقى إلى ما بعد انتهاء الحرب، كمستند حي للتاريخ ضد الرواية الإسرائيلية، سرعان ما تطورت الفكرة إلى سقف أرحب يترك حرية الاختيار للسينمائيين أنفسهم، على أن تكون الأفلام المنتجة ملكًا خاصًا لصناعها، سواء في ما يخص حقوق العرض ــ بأي وسيلة ــ أو المشاركة في المهرجانات السينمائية.
في ما يقل عن ساعتين، نتج عن التجربة ما يزيد على عشرين فيلمًا ــ حتى الآن ــ تتنوع بين التسجيلي والروائي والتجريبي أيضًا، بالإضافة إلى أفلام التحريك، وقد بلغ عدد العاملين في المشروع من سينمائيين ومساعدين وخلافه ما يقرب من 100 غزاوي تم التواصل معهم واختيارهم عن طريق وسطاء، ولم يكن هناك غير ثلاثة شروط للمشاركة، أولها أن يكون المتقدم من ممارسي الصناعة، وأن تحمل فكرته حكاية لم ترو، شرط أن تكون قابلة للتنفيذ وفق المعطيات المحدودة المتاحة، وربما يتشابه ذلك مع المنهج الذي اتبعه مشهراوي خلال مشواره الفني الممتد على ما يقارب أربعة عقود.


أزمة الإنسان العالق
ولد رشيد مشهراوي كأحد اللاجئين في مخيم الشاطئ بقطاع غزة، ورغم انتقاله بين عدد من الدول الأجنبية في ما بعد، فهو أول سينمائي فلسطيني يصنع سينماه من داخل الأراضي المحتلة، كما سجل فيلمه الروائي الطويل الثاني "حيفا" (1996) أول مشاركة فلسطينية رسمية في مهرجان كان السينمائي. تعالج أفلام مشهراوي عددًا من القضايا الإنسانية يأتي في مقدمتها المسألة الفلسطينية، وأزمات الهجرة والمهاجرين، لذلك نجد الشخصيات عنده عالقة بشكل مباغت لم يتم الترتيب له، أو الاستعداد، حينئذ ليس هنالك من مفر من مواجهة التحديات وفق قانون "الهنا، والآن"، يتضح ذلك منذ فيلمه القصير الأول "جواز سفر" (1986)، وفيه نتابع زوجين علقا في أحد المعابر الحدودية أثناء الانتقال من بلد إلى آخر، وذلك بعد أن فقد الزوج جواز سفره.
ويحكي فيلمه الروائي الطويل الأول "حتى إشعار آخر" (1993) عن يوم في حياة واحدة من أسر اللاجئين، حين فرضت قوات الاحتلال حظر التجوال على المدينة. وفي فيلم "عيد ميلاد ليلى" (2008)، يتأخر الأب عن موعد حفلة ابنته، بعد أن وجد نفسه حبيسًا داخل التاكسي الذي يعمل عليه، والذي ينتقل به من مأزق إلى غيره عبر شوارع المدينة. في عام 2020، وإثر الحجر الذي فرض بسبب انتشار جائحة كورونا، استغل مشهراوي حال الحصار المفروضة، وفترة العزل في مسكنه في باريس، لصنع فيلم تسجيلي/ تجريبي بعنوان "يوميات شارع جبرائيل"، استخدم فيه كاميرا الموبايل للتصوير، كما قام بعملية المونتاج، وعرض الفيلم لأول مرة في الدورة (43) من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي (2021).





ربط مشهراوي في فيلمه بين الحصار المفروض عالميًا وقتها وبين الحصارات المتوالية داخل الأراضي المحتلة، مستفيدًا من الوسيط السينمائي الذي ارتآه الوسيلة القادرة على الحفاظ على الذاكرة البصرية؛ فتقارير المراسلين والقنوات الإخبارية سرعان ما تتبخر بانقضاء الحدث، وهو المفجر الأساسي لمشروع "المسافة صفر"، لذلك نجد فريق العمل لا يتوانى عن تطويع كل الظروف، والعمل بأقل الإمكانيات، حتى أن بعض الأفلام صورت على أضواء كشافات الموبايلات، فيما استخدم بعضهم خزانات الملابس بعد إحكامها من الداخل لتسجيل الصوت بشكل جيد.
ينطلق مشروع مشهراوي من خلال صندوق تم إنشاؤه عن طريق مؤسسة "كو أورجين العاملة على الترويج الفني والتبادل الثقافي بين الحضارات"، وتتنوع غالبية موارده في ما يشبه الاكتتاب والتبرعات، بجانب بعض الشراكات المساندة مع عدد من المؤسسات. يستقبل الصندوق طلبات السينمائيين على مدار العام، ويقدم صورًا مختلفة من الدعم، بداية من مرحلة التطوير، ومرحلتي الإنتاج وما بعد الإنتاج، ويتم تقييم المشروعات المقدمة من خلال لجنة يكون ـمشهراوي أحد أعضائها وتخضع آلية الاختيار "اعتمادًا على نضج المشروع وتطوره"، كما يوفر المشروع "فرصة لسكان غزة لمشاركة قصصهم من الداخل".

كيف تحكي حكاية

"يوم مدرسي": مشروع "من المسافة صفر" 


اعتمدت كل الأفكار والمواضيع المطروحة في الأفلام على معايشة الحدث عن قرب، من المسافة صفر تحديدًا، والتي قد لا تستطيع كاميرات وأقلام الصحافة نقلها، لذلك نجد القصص تتميز بخصوصية التجربة الحية على أرض الواقع، والتي قد تكون بسيطة لأقصى درجة، ولكنها لن تؤرق سوى من عايشها في الحقيقة.
في فيلم "جنة الجحيم"، نصطدم بفكرة غرائبية حين يطالب البطل بتعجيل حقه في الاستفادة من الكفن الذي يصرف لكل شهيد بعد الوفاة، إلا أن المسؤولين في المخيم يخبرونه بعدم جواز ذلك؛ فالكفن حق للأموات فقط، وليس للأحياء، لكنهم ينصاعون في النهاية لطلبه، وهو ما يشعره بالانتصار، خصوصًا بعد تلمسه للدفء، فقد أصبح لديه الآن ما يقيه من البرد، بعد أن انهارت جدران البيت، ولم يعد هنالك سوى خيمة من القماش تؤويه، لا يعلم إلى متى ستبقى صامدة.
البطل في أفلام المسافة صفر هو الراوي والرواية في الوقت ذاته؛ كما يصف مشهراوي، في فيلم "عذرًا سينما"، لأحمد حسونة، حيث نتابع معاناة المخرج نفسه في الحصول على حصة أسرته من المعونات التي تقذف جوًا بواسطة البالونات. إنها معاناة يعيشها الأهالي تحديدًا في شمال القطاع المحاصر، وفي النهاية لا نرى على الشاشة غير جائع يوثق حياة جائعين.
"إعادة تدوير" فيلم تسجيلي من إخراج رباح خميس، يتناول أزمة شديدة الصعوبة يواجهها الأهالي في القطاع، فندرة المياه وصعوبة الحصول عليها جعلت لكل قطرة أهمية لا يعلمها سوى من اضطر لإعاده تدوير قدر صغير من الماء كي يكفي احتياجاته. وفي سياق مشابه، تتبع المخرجة ريم محمود رحلة يومية للنساء داخل المخيمات تقتضي الوقوف في طوابير للدخول إلى الحمام، أثناء ذلك، ومن خلال الحكايات المتوالية، تتعرف الساكنات على بعضهن بعضًا عن قرب.




الحياة في المخيم تحتاج إلى متطلبات كثيرة، وهي في الوقت ذاته قادرة على إكساب من يعيشها مهارات وعادات مختلفة. في فيلم التحريك "جلد ناعم" يتعرض المخرج خميس مشهراوي إلى عادة اكتسبتها الأمهات مرغمات خلال الحرب؛ فقد لجأن إلى حفر أسماء الصغار على أذرعتهم، وذلك للتعرف عليهم في حالات الوفاة؛ ففي أحيان كثيرة لا يتم العثور سوى على أشلاء مبعثرة لجثث مجهولة. أما المخرجة هناء عويضة فقد أفقدتها الحرب كل ما تملك تقريبًا؛ بعد أن تم قصف منزلها وشركة الإنتاج الخاصة بها لتجد نفسها وأسرتها تحت وطأة العيش داخل المخيمات. اعتزلت عويضة العمل الفني والحياة لشهور، مكتفية بما تتجرعه من ألم جماعي. وبعد مداولات عدة، وجدت قصة تستحق أن تروى، ولم تجد غضاضة في أن تقوم على الغناء، وهو ما كان في فيلمها "لا".
نلاحظ أيضًا أن هذه الأفلام لم تكتف ببرنامج منهجي واحد يقوم على نقل الواقع ــ حتى ولو فنيًا ــ خصوصًا وقد أصبح اليومي والمعاش في القطاع يفوق الفانتازيا والخيال أحيانًا، فيجد المواطن نفسه مضطرًا للعيش داخل عوالم كفكاوية لا تكتفي بعقابه عن ذنب لم يقترفه أو يعلمه؛ بل تجبره على البحث عن جلاده. في فيلمه "أطفال" يتناول المخرج ثائر أبو زبيدة قصة مواطن بسيط يدعى سعيد، زوج وأب لثلاثة أطفال اعتاد أن ينام يوميًا على الأزيز المستمر للطائرات الإسرائيلية المسيرة من دون طيار. ذات ليلة يتوقف الصوت لسبب ما، فيجافي النوم عين سعيد، ويصبح اسمًا ليس على مُسمى، لتنقلب حياة الأسرة في البحث عن حلول بديلة تساعده على استعادة النوم.

الحياة تحت الركام

الحياة في غزة "من المسافة صفر"... من داخل خيمة اللجوء والنزوح 


مجموعة أخرى من الأفلام تبني عوالمها حول تيمة الاتصال المقطوع؛ فأمام هذا الركام المتوالي من تفجيرات الاحتلال، ثمة حيوات منقطعة تظهر هنا وهناك، أو هي ظلال لحيوات ما تزال قائمة بين بعضهم، وبين ذويهم، ممن تواروا تحت الأنقاض، وهذه العلاقة ليست مشروطة بقرابة، أو نسب بين الطرفين؛ فعلي سبيل المثال ينتهي فيلم "يوم مدرسي" بجلوس الطالب فوق قبر معلمه الذي استشهد في الحرب، لا يحمل في جعبته سوى حقيبة الدراسة وكثير من المعاناة في الانتقال بين الخيام للذهاب إلى المدرسة، الفيلم من إخراج الشاب "أحمد الدنف"، والذي قام بتصوير أربعة أفلام أخرى لزملاء المشروع، وهو ما تكرر أكثر من مرة بين المجموعة التي اعتمدت على الاكتفاء في ما بينها ــ قدر الإمكان ــ في تولي المهام وتبادلها.
وفي فيلم "بدون إشارة" لمحمد الشريف، تجاهد الطفلة نور في عملية البحث عن والدها تحت الأنقاض، حيث اعتادت على المجيء يوميًا في صحبة عمها لمواصلة البحث، مؤكدة وهي تبكي بحرقة "بابا عايش". رحلة بحث أخرى يخوضها المخرج أوس البنا في فيلمه الوثائقي "جاد وناتالي"، وهنا الأمر مختلف كليًا؛ فالممثل المسرحي توارت حبيبته الوحيدة تحت الركام منذ شهور، ولا توجد وسيلة نافعة حتى الآن للوصول إليها، أو حتى لجثمانها، ويتخذ البنا من الحطام خلفية لروي قصه حبه، ومن جديد تختلط الدموع بلوعة الفقد.
فيلم وثائقي آخر بعنوان "24 ساعة" يرصد تجربة مصعب، الذي تم إنقاذه ثلاث مرات في يوم واحد، في ثلاث مناطق مختلفة "قيل له إنها آمنة"، حتى أصبح حديث الساعة على مواقع التواصل الاجتماعي والسوشيال ميديا، وهو ما عده بعضهم فألًا حسنًا لفكرة المقاومة التي لا تستسلم وهي في تحركها ربما تتشابه مع القطط، بسبع أرواح كما يقال. من تحت الركام، أيضًا، ثمة حيوات أخرى دفنت وكانت تنبض باللون والظلال في ما مضى، أما الآن فهي محض بقايا يتم إخراجها كالجثث المحترقة. في فيلمها الوثائقي "خارج الكادر"، توثق المخرجة نداء أبو حسنة لوعتها كفنانة تشكيلية فقدت لوحاتها إلى الأبد.
بدأ الإعلان لأول مرة عن مشروع "المسافة صفر" ضمن فعاليات الدورة الثامنة من مهرجان أسوان لسينما المرأة في أبريل/ نيسان 2024، وبحسب تصريحات مشهراوي، سواء في الصحف، أو من خلال البرامج، وفي مقدمتها البرنامج المصري "معكم... منى الشاذلي"، الذي انفرد بعرض لقطات ومشاهد حصرية لمجموعة من الأفلام، فإن هنالك رحلة من العروض الدولية في انتظار هذه المجموعة من الأفلام، بداية من مهرجان كان خلال فعاليات دورته الـ77 المقامة حاليًا، وعرض جزئي ــ خارج التنافس ــ يصاحبه لقاء مع عدد من صناع الأفلام. يشارك في دورة هذا العام من المهرجان الفرنسي الفيلم الفلسطيني "إلى أرض مجهولة"، للمخرج مهدي فليفل، ويعرض ضمن قسم "نصف شهر المخرجين".
لا شك في أننا أمام مشروع هام ومميز يُفعل الدور المجتمعي في المقاومة عن طريق السينما والفنون، وهو ليس بجديد على الفن الفلسطيني في العموم، سواء داخل الأراضي المحتلة، أو خارجها، فكثيرًا ما سجلت مبادرات فنية مواقف مشابهة خلال السنوات الماضية، سواء بعروض الأفلام، أو بالعروض المسرحية التي اتخذت من الأنقاض والركام في بعض الأحيان فضاء بديلًا عن خشبة المسرح، ومن خلال سينوغرافيا الخراب والموت خلقت أنشودتها الخاصة للحياة.