Print
إسكندر حبش

إيتيل عدنان في كتب لها وعنها: متعة الحياة

13 يونيو 2024
هنا/الآن


تبدو العاصمة الفرنسية وكأنها تكتشف اليوم الكاتبة والشاعرة والفنانة التشكيلية إيتيل عدنان، بعد سنوات قليلة على رحيلها. ففي السنتين الأخيرتين، تعددت الكتب التي ترجمت لها عن الإنكليزية، لتصدرها بعض الدور الكبرى، وبالأخص "غاليمار" و"لوسوي"، في سلاسلها الشهيرة، وإن دلّ ذلك على شيء، فعلى التقدير الذي يصيب الكاتبة. لا أعرف إن كانت إيتيل بحاجة إلى هذا الاعتراف، فبالنسبة إلينا – ولي شخصيًا بالتحديد – هي واحدة من الكاتبات الأساسيات، أكان في الشعر أم في الفن التشكيلي؛ لذا أميل إلى القول، وببساطة شديدة، إن الدُور الفرنسية هي التي تتشرف بنشر هذا الصوت المتفرد.
في أيّ حال، هناك مجموعة من الكتب، لها وعنها، صدرت مؤخرًا، وتحاول هذه المقالة، أن تعرض لها.

***

"فصول"، "بحر وضباب"، "ليل"، "انبثاق"، "إزاحة الصمت": هذه هي العناوين الأخيرة لمجموعات إيتيل عدنان الشعرية، الرسامة والشاعرة المولودة في بيروت عام 1925، والتي عاشت معظم حياتها في "سوساليتو" (شمال سان فرانسيسكو، مع زيارات منتظمة إلى لبنان، تقضيها في منزلها في منطقة المنارة، كما في بلدة "دير القمر")، قبل وفاتها في باريس في خريف عام 2021. تُرجمت هذه الكتب، التي كتبتها بين عامي 2008 و2020، من الإنكليزية، وقد جُمعت وفقًا لرغبتها في أنطولوجيا واحدة بعنوان "سيعيد القدر فصول الصيف المظلمة" (منشورات "لوسوي"، سلسلة "بوان / شعر"، مع مقدمة لـ Hans - Ulrich Obrist)، ما يوفر للقارئ متعة اكتشاف هذه "الحركات المضطربة والمشمسة" لآخر ما كتبته الشاعرة الراحلة. كذلك، وفي الوقت عينه، تسمح لنا الحوارات التي كانت أجرتها لور أدلر مع إيتيل (بعنوان "جمال الضوء"، منشورات "لوسوي"، سلسلة "Fiction et Cie"، وهي سلسلة من "النقاشات" و"اللحظات المضيئة")، بإعادة اكتشاف حضورها المنخرط بمحبة في العالم، والذي أصبح أكثر حيوية وحساسية من أي وقت مضى.

***

لو عدنا إلى فن إيتيل عدنان، وقبل الدخول إلى شعرها، هناك، في لوحاتها، ما تسميها الفنانة والناشرة – ورفيقة حياتها – سيمون فتال "الطاقة النقية". فهذه اللوحات "تطلق الطاقة وتوفرها"؛ إذ نرى فيها مساحات مسطحة ذات ألوان زاهية، وأشكال زاوية من المستطيلات والمربعات، وخطوط أفقية تمثل معالم البحر أو الجبل أو الأشكال الأكثر تجريدًا للمساحات الطبيعية الأميركية. غالبًا ما يظهر من هذه اللوحات انطباع الانسجام (أو لنقل الهرمونيا) الملون. وعندما نقرأ قصائدها، نفكر في هذا المفهوم اليوناني والقديم العائد للجمال (Le Beau)، وهو الجمال الذي يتم إدراكه وفقًا لمبدأ النظام والتوازن، بهدف إحداث استرضاء معين، وانطباع بالامتلاء يثيره هنا العالم المادي الذي يمثله. في مقابلاتها مع لور أدلر، تؤكد إيتيل عدنان على حبها للطبيعة: "في مرحلة ما، أحببت الرسم وكان ممزوجًا جدًا بالجبال. أعتقد أنني أحببت العالم حقًا. […]. والعالم أقرب إلى فكرة الرسم لأنه مادي… الجبال، الأنهار، العالم".

***

كتاب "جمال الضوء" هو في الأساس حلقتان إذاعيتان، حواريتان، كانت المذيعة (والكاتبة) الفرنسية الشهيرة لور أدلر، قد أجرتهما مع إيتيل في عامي 2015 و2019، وقد أكملتهما عبر محادثات استمرت بينهما، في باريس تحديدًا. وفي الوقت عينه الذي يعرض فيه تتبع الخطوط المختلفة لرحلة حياة إيتيل عدنان، يتضمن الكتاب تأملات عديدة حول نشاط الرسم والكتابة. تسلط هذه التبادلات الحوارية الضوء على الظروف التي شكلت مسار الرحلة، وفي بعض الأحيان يكون من دواعي سرور القارئ اكتشاف أحداث هذه الرحلة الصغيرة، كما تفاصيل تلك اللحظات غير المحسوسة أحيانًا، والتي تبدو حاسمة جدا، مثل لقائها صدفة بــ غابرييل بونور (مؤسس "الإيكول دو ليتر" في بيروت)، الذي عرّفها في فرنسا على هنري ميشو وماكس جاكوب، اللذين فتحا لها أبواب الشعر وحثّاها على دراسة الفلسفة في باريس، حيث التقت بــ إتيان سرياو وغاستون باشلار اللذين تتلمذت عليهما؛ كذلك هناك أيضا "الحدث الحاسم للجملة"، إذ يمكن لملاحظة واحدة وبسيطة، أتت في محادثة مع أحد مدرسي الفنون، أن "حررت يديها"، وحشدتها للرسم وهي في سن الرابعة والثلاثين. من هنا يتيح لنا هذا الكتاب أيضًا فهم الأهمية التي يمكن أن يمثلها مفهوم الإدراك بالنسبة لها، والذي غالبًا ما يتم دمجه مع التأمل في كتاباتها الشعرية.

***


في جميع القصائد التي تشكّل المجموعات المختلفة الموجودة في أنطولوجيا "سيعيد القدر فصول الصيف المظلمة"، نجد هذه القوة الحيّة والكونية للظواهر الطبيعية، كما لو كانت الكتابة الشعرية تسعى إلى التعبير عن الدافع الأولي والبدائي للمناظر الطبيعية، والتي تهدف، في الوقت عينه، إلى احتضان أبعادها، والتعبير عن واقعها الفعال. في كل مجموعة من هذه المجموعات، تسعى إيتيل عدنان إلى ترجمة مادية الفضاءات الفيزيائية من خلال العناصر الطبيعية غير المادية: مراوغة الفصول، البحر والضباب، الليل، الصمت الذي يشكل الكون (إزاحة الصمت). تُدشّن المجموعة الأولى من هذه المختارات، "فصول"، هذا البحث الشعري الفريد، لأنها تهدف إلى الاقتراب من العالم المادي في جوهره، وتدفقه الدائم، وزخمه، من خلال اللغة التي تستخدمها: "هناك كتابات غير محسوسة. ينطبق الشكل الثلاثي للحب على الرؤية: دفع الكينونة".

بهذا المعنى، يبدو أن ثمة آثارًا لهذا الحضور، تتخلّل شذرات إيتيل عدنان الشعرية، لأنها لحظات الوجود، لحظات الحياة. غالبًا ما تعمل النظرة كمبدأ للتكثيف الوجودي، "أنا أنظر ببساطة"، ومن خلال لغة شعرية شفافة، مع لهجات "رسولية" أحيانًا، تصف جمال الغابات والسماء الفخم، وتأثير البحر الساحق وثبات الجبل المهدئ. وهكذا تبدو القصيدة، مثل الطبيعة، وكأنها تظهر كما تأتي، في قلب زمن حاضر ودائم، في تسمية سعيدة لواقعها المباشر. ومن هذه الزاوية، تنبثق أحيانًا صياغة أسئلة جوهرية: "ماذا نسمي الحب؟"، "من أين تأتي الشمس؟"، وفي بعض الأماكن، يبدو أيضًا أن التدوين الأقصر والأكثر واقعية، والأبسط، هو الأكثر تأثيرًا. تنضم إلى لوحاتها صور شعرية معينة، إذ لا تزال إيتيل عدنان تصف عالمًا من الألوان والانطباعات، وغالبًا ما يبدو العالم المادي مألوفًا، فهو يتشكل من خلال سمات عاطفية وإنسانية. "جبل تامالبايس"، الذي كان حاضرًا خلال حياتها وفي لوحاتها، كان "هناك دائمًا"، و"يسهر" و"يراقب".

***

تترجم كلّ مجموعة من مجموعات هذه المختارات ما تسمّيه إيتيل عدنان في حواراتها مع لور أدلر "ذكرى حياة انطباعية"، لأن هذه الكتب تعبر عن تجربة الكتابة المبنية على التصورات. وينتهي بعضها بجزء من الشعر الحرّ بعنوان "محادثة مع روحي"، وبالتالي يعبر عن المحادثة الأكثر حميمية مع الذات، في نفس الوقت الذي يقدم فيه شكلًا من أشكال الوضوح والاهتمامات التي تركز على الأحداث العالمية.

تتفتح التأملات في لحظات، ويجد التأمل والإضاءة الشعرية والتذكر الشخصي أمكنتهم في وحدة قطعة أو جملة أو فقرة نثرية، والتي غالبًا ما يتخذ التعبير عنها أحيانًا شكل وقوة قول مأثور. في كل مجموعة، يعكس هذا التكوين المجزأ أيضًا، عدم تجانس التجارب المذكورة: قصة حلم، وسرد قصيدة، والاستحضار الحسي لطابع البحر المضطرب والأسطوري والمتوارث. نجد أيضًا كاليفورنيا بمساحاتها الشاسعة وأنهارها ووديانها؛ واليونان، التي يتم استدعاؤها وتعتز بها وتتخيلها باستمرار. هناك أيضًا العديد من التأملات الليلية، وذكريات الطفولة في بيروت، وشروح سرية عن التاريخ الشخصي للكاتبة، وتجربة "المنفى"، وأفكار أولئك الذين رحلوا، ما يؤدي ذلك كله إلى تأملات ميتافيزيقية، تتعلق بالروح والمادة، بتكوين الـ "أنا"، بهويتها المبنية والمتحركة.

تصف إيتيل عدنان العالم الذي تراه. إنه يعبر في الوقت نفسه عن الطريقة التي يدرك بها الوعي هذا العالم المعروض أمامها، وكيف تؤثر الفصول أو الحدث المناخي للضباب على الجلد ويؤثر عليه، وكيف يتفاعل الوعي والذاكرة مع عناصر الطبيعة، وينتجان صورًا وأفكارًا تنشأ في وقت واحد وتندمج، أحيانًا، في أعظم أسرار الذاكرة الذاتية غير المحسوسة. وفي نفس الوقت الذي تعطي فيه هذه المجموعات المناخ والعناصر الطبيعية خاصيتها الشعرية، فإنها ذات عمق فلسفي كبير. في قلب كل جزء من هذه الأجزاء، نرى استعداد إيتيل عدنان للتفكير في الحاضر الذي غالبًا ما يُختبر على أنه مثير للقلق، وشكل من أشكال الحركة التجديدية. وهكذا نكتشف عبر الصفحات خطابًا نقديًا عن حالة الصراعات والحروب، وهموم المؤلف في مواجهة الكارثة البيئية، وعن الأشكال الجديدة التي يتخذها الكون من خلال غزو الفضاء بينما الأرض تحتضر. هذه الحركة نحو الفكر لا تنتهي أبدًا، ولكنها غالبًا ما تصطدم بالتوقف المفاجئ للارتباك، ونتمنى أحيانًا تعليق هذه التأملات، ونشعر بالحاجة الحيوية والمتجددة للعودة إلى العالم المادي.

***

تكمن قوة المجموعة الأخيرة، الفريدة، من هذه المختارات، في هذه المحاولة لإعادة اكتشاف، في رتابة الأيام التي تنتهي، هذه العلاقة المباشرة مع العالم. فالاستماع إلى البحر ومراقبة المدّ والجزر بشكل دوري في "إركي"، في منطقة بروتاني (الفرنسية)، يعبر عن هذا البحث في كلّ صفحة. تصبح الكآبة أكثر حساسية، وتصبح حركات الإدراك الحسي أكثر ضعفًا، كما لو أن مراقبة الليل أو البحر لا تزال تثير أعظم آثارها في التمجيد من خلال ترسيخ وظيفتها الأساسية في "الحماية": "ماذا بقي؟" هذا الموسم من الحرارة والرياح، وعشاء الليلة، وهذه النطاقات الواسعة من الأمواج المرتجفة بظلال مختلفة من اللون الأخضر التي تكسر قلبي بجمالها المذهل".

***

إن جمال القدر الذي سيعيد فصول الصيف المظلمة يكمن في هذا الوضوح المضطرب، في هذه الدهشة الفلسفية حقًا التي تعبّر عن الانبهار باعتباره الحيرة الأكثر حساسية أمام الطريقة التي يسير بها العالم. من خلال مفهوم المصير الذي يمنح الوحدة لهذه المجموعات، تعبّر إيتيل عدنان عن كيف يعطّل التاريخ البشري ويغيّر دائرية العالم الطبيعي. إنه يكشف عن روعة عالم تم اختباره، لكن الصور الأكثر إزعاجًا تتخلل أيضًا عمليته الدورية والثابتة. لا بد أن نتذكر هنا إحدى قصائدها، "يوم القيامة العربي"، التي كتبت بين كانون الثاني/ يناير ونيسان/ أبريل 1975، إبان الحرب الأهلية اللبنانية، التي نقرأ فيها، في لازمة بهيجة وإيقاعية تحتفل بالشمس، والبداية الوحشية للحرب، لنجد في بعض أماكن، مجموعتها، "ليل"، العنف الهلوسي للنفس، وكوابيسها: "لدي هلوسات انهيار أسطح على عائلات بأكملها، سيارة تسحق طفلًا، قلبًا أصيب برصاصة طائشة". لكن، كما لو كان من أجل الوحدة اللحنية، استمرت أغنية الشمس في "يوم القيامة العربي"، ولو بلطف، في انقطاعاتها الأكثر وحشية.

في شعر إيتيل عدنان كما في لوحاتها، شكل من أشكال الحلّ المتناغم، والصيانة، حتى الهشة والمتحفظة، في قلب عالم شعري مرعب أحيانًا، لوحدة سعيدة يجب الحفاظ عليها ومتابعتها. من خلال هذا الفكر وهذا الوعي بالمصير، تعمق إيتيل عدنان علاقة معينة مع التاريخ. إنها تشهد على العنف البشري، ومن خلال إظهار الوعي بالتدمير في العمل، تعبّر عن الأسئلة الأكثر جوهرية في كتبها. إن الوعي بالاقتلاع يعمّق مسألة المكان والحضور في العالم، إنها تفتح محنة المنفى على التفكير في إمكانية الوجود السعيد للعالم داخل النفس.

***



بعد أنطولوجيا لوسوي التي صدرت العام الماضي تنشر غاليمار بدورها هذا العام مجموعة أنطولوجيا أخرى لــ إيتيل عدنان بعنوان "أنا بركان مليء بالشهب" – قصائد 1947 -1997، مترجمة من الإنكليزية أيضًا. بمعنى آخر نحن أمام استعادة نصف قرن من الكتابة الشعرية، حيث قام إيف ميشو بتحرير الكتاب، استنادًا إلى الدراسة المختصرة التي خصصها الفيلسوف عن الفنانة بعنوان "إيتيل عدنان، الملائكة، الضباب، قصر الليل" لتصدر في الوقت عينه مع طبعة جديدة من روايتها القصيرة "الست ماري روز" (وكلها عن غاليمار كما أسلفنا). لذا، يبدو وكأن عملية النشر هذه، المتزامنة، لهذه الكتب الثلاثة، تهدف إلى "تعويض بعض التأخير". ربما لأن إيتيل لم تحصل على اعتراف دولي حقيقي خارج الأوساط الأدبية إلا خلال معرض كاسل دوكومنتا عام 2012 حيث عُرضت لوحاتها. ويعترف إيف ميشو نفسه بأنه "اكتشف لوحة إيتيل عدنان في وقت متأخر" وأنه "انبهر" بها، وتمكن بعد ذلك من التحدث معها بانتظام عن فنها ومسيرتها المهنية.

تذكر رفيقتها الفنانة والناشرة سيمون فتال في مقدمتها لــ "الست ماري روز"، أن استقبال هذا النص المكتوب بالفرنسية عام 1976 والذي ترجم بسرعة إلى العربية حرم عدنان من عملها الصحافي وعجل بقرارهما بمغادرة لبنان عام 1980 ليعودا إلى الولايات المتحدة. إذ لم تستسغ "الميليشيات المسيحية"، على وجه الخصوص، الطريقة التي أشادت بها الكاتبة بإحدى ضحاياها (ضحايا هذه الميليشيات)، وهي ماري روز بولس، امرأة مسيحية لبنانية كانت تعمل إلى جانب اللاجئين الفلسطينيين، وقد اختطفت وقتلت على يد الكتائبيين في عام 1975.

في هذه الرواية القصيرة التي يتردد صدى تعدد أصواتها مع انقسام المجتمع اللبناني، تظهر ماري روز منذ البداية في زي بطلة مأساوية أكثر حداثة، من حيث أنها تعارض ما نصفه بالمأساة وعبثية الوضع الذي لا مفر منه والذي يؤدي إلى وفاتها. ترفض ماري روز مبدأ الانتماء الطائفي الذي تصفه عدنان بالقبلي، كما تعارض فكرة أن الانتقام وحده هو الذي يجب أن يحكم العلاقات بين القبائل وبين أفرادها. ولأنها لا تخشى أن تكون غنائية أو ملحمية في بعض الأماكن، فإن الغضب الذي يمر عبر "الست ماري روز" يشمل كل شيء، أو بشكل أكثر دقة، لأن هذا هو أسلوبها في الكتابة، فهو يغطي كل شيء: العلاقات بين الأخلاق والعنف، بين الرجال والنساء، بين اللبنانيين والفلسطينيين، الكل هنا محروم من الحب، على الرغم من أن ماري روز تعلن أنه "لا يوجد حب حقيقي إلا لما هو غريب".

***

تشترك قصائد عدنان أيضًا في هذا الغضب، على الرغم من أن نطاقها المحبب، على أقل تقدير، يضيق فجأة في بعض الأماكن المحددة. هي نفسها كانت خائفة منه عام 1982 في "بيروت": "لم أكن لأصدق/ من أن الانتقام/ هو شجرة/ تنمو في حديقتي". إنها خائفة من ذلك، ولكن بدلًا من درء هذا الشعور المتزايد بالقرب منها، تشاهده ينمو – "الأشجار تنمو في كل الاتجاهات/ مثل الفلسطينيين".  وإن كان لا يسعنا إلا أن نتفق مع عدنان عندما تتذكر أنه "لا يمكن لأحد أن يعيش إلى الأبد/ خلف البوابات"، تفاجئنا عندما تعلن، بعد عدة صفحات، بأننا "سننتقل من حلّ نهائي إلى حلّ نهائي/ على شواطئ الأرض المجنونة".

ثمة سؤال لا بدّ أن أطرحه على هذه الخيارات: كيف "تجرأت" غاليمار أن تنشر هذه النصوص التي تذهب عميقًا في خيارات إيتيل عدنان الفلسطينية؟ فكما يقول ميشو في هوامشه لهذا الكتاب: "بالطبع سيتم الاعتراض على أن القصيدة مؤرخة، وأنها تعود إلى زمن استخدم فيه هذا المصطلح بحذر تاريخي أقلّ مما هو عليه اليوم، وأن مذبحة صبرا وشاتيلا لم تكن بعيدة أيضًا، مثل مذبحة تل الزعتر، التي أهدت له قصيدتها الطويلة "يوم القيامة العربي" (1980)"، ويضيف في مكان آخر بأسف: "لم تُنشر هذه القصيدة في المجموعة بسبب عدم توافق تنسيق نسخة Leporello مع تنسيق نسخة "غاليمار/ شعر" بسبب الإخراج الفني". قد يبدو "اعتراضه" هذا، وكأنه يوفر، في النهاية، الوقت فقط من خلال الابتعاد عن الموضوع لتوفير السياق.

لكن إشارتي الحقيقية لما أسلفت به، يكمن حول "ملاحظة حول السياق" التي يضعها إيف ميشو قبل قصيدة "جيبو" (Jebu) المكتوبة بالفرنسية عام 1969، والتي تندرج تحت النقد نفسه. يحدد الفيلسوف في الواقع أن "اليبوسيين" (Jébuséens) كانوا سكان القدس قبل "طردهم (وذبحهم) على يد داود"، وأنه "بالنسبة للتاريخ الصغير والكبير، فإن عملية إعادة احتلال القدس من قبل الجنود الإسرائيليين عام 1967" كان يسمى جيبو. ولكن، من ناحية، فإن وجود اليبوسيين لم يشهد عليه إلا في العهد القديم، ومن ناحية أخرى فإن العملية التي تحمل هذا الاسم (عملية يفوسي) تمت أثناء الحرب العربية "الإسرائيلية" عام 1948 لا أثناء حرب الأيام الستة التي أسفرت عن احتلال الجيش الإسرائيلي للبلدة القديمة.

ربما يتقبّل بعض القرّاء الفرنسيين هذا الكلام بمعنى ما، بيد أن المشكلة الحقيقية تتعلق بشكل أساسي بمحتوى القصيدة نفسها حيث أنها "ردّات فعل عنيفة" من قبل الشاعرة على العنف. لكن هل يحتمل بعض الفرنسيين نزيف الغضب هذا الذي يحمل "كرهًا" (وكأن المطلوب غير ذلك!) فعليًا لدولة الاحتلال التي تسمّيها "يا سارقي الصلاة". ليس في كلام إيتيل عدنان أي تأويلات غامضة، بل هو واضح جدًا حين تقول: "لقد أتيت/ غطوا الأرض بقبور جديدة/ وسيتعيّن علينا حرق أسلافك من أجل/ تطهير الليل". وتضيف: "تمّ غزونا من قبل فراسخ المرابين/ مزوّري التاريخ"... لتستعيد فكرة مشابهة، بعد 10 صفحات من قصيدتها هذه، قائلة: "لصوص الألفية، مرابو جوع/ غيرك لتسرق نوره من عين/ يعمي نفسه".

***

هناك، في لوحاتها ما تسميها الفنانة والناشرة سيمون فتال "الطاقة النقية" (من معرض لإيتيل عدنان  في لندن - Getty- 1/6/2016)


كتاب إيف ميشو (الذي أشرف على طبعة غاليمار) حول إيتيل، يرى فيه أن "لوحة إيتيل عدنان لا تتمتع بنفس التنوع في الشكل مثل شعرها، وفوق كل شيء، ليس لها نفس الأهمية السياسية والاجتماعية أيضًا". من المفارقة أن الفيلسوف يشعر بالارتياح، (وكأنه يبرّر ما قاله في هوامشه في الأنطولوجيا)، لكنه لا يزال غير راضٍ، إذ لا يتوقف عن مقاطعة تحليلاته في كل مرة يكون فيها على وشك تقديم إشارة مضيئة محتملة للعمل. ويذكر ميشو على سبيل المثال أن عدنان "ترسم جالسة على طاولتها، بنفس الطريقة التي تكتب بها قصائدها ونصوصها الأخرى"، مضيفًا أن "وضعية الجلوس هذه لها أهمية كبيرة: فاللوحة ليست شاشة ولا بارافان ولا مرآة. إنها مساحة للكتابة". لكن بينما يتقدّم في هذا الاتجاه الواعد، يتوقف المؤلف بعد ذلك مباشرة على دليل قاطع– "أما الوسائط، فيجب على كل فن أن يتعامل معها" – وفق إجراء مماثل لتلك التي تتمثل في اختتام كل ما نقشه بعلامة التعجب، كما لو أنه بدأ فجأة في الكتابة بقوة على لوحة المفاتيح لتسليط الضوء على ما يضعه بين قوسين.

وبالطريقة عينها، نجد أن الثيمات الثلاث التي يرتكز عليها عمله – الملائكة، الضباب، قصر الليل - يتم تناولها فقط في النهاية، ولم يخصّص لكل واحد منها أكثر من صفحة. إن شخصية الملاك، التي تلتصق به، والتي يتم تشويهها وتدنيسها بالتناوب، ورفيق السفر و"ليالي عدنان المظلمة"، موجودة في كل مكان في كتاباته حيث قد يكون الملاك والغضب مرتبطين سرًا. وإذا كانت لوحاتها تحتوي على شيء سماوي، فلا شك في أن ذلك أيضًا بسبب غياب الغضب الدنيوي.

ويضيف ميشو: "لا يمكننا أن نقول إلى أي مدى قد يكون هذا الغياب قد ساهم في جعلها موضع تقدير عندما أعدنا اكتشافها. للتأمل في ذلك، علينا أن نعيد فتح القضية المعقدة والحساسة المتمثلة في إقامة روابط بين التجريد التصويري والعنف التاريخي، سواء كنا نشعر في الفن التجريدي بمراعاة جذرية لهذا التاريخ، أو ما إذا كنا نشك هناك، على العكس من ذلك، في إنكار أساسي. إن أشكال لوحة عدنان تشجعنا على أن نعزو لها موقعًا وسطًا قريبًا من الخيار الثاني – لوحة رسم، كما يقولون، والتي ستقع في أعقاب نيكولا دي ستايل، الذي أعجبت به، الذي يعتبر أسلوبه أكثر كثافة وأخف وزنا من أسلوب عدنان".

لكن ما هي هذه الخفة بالتحديد التي سعت إليها إيتيل عدنان في الرسم أيضًا؟ إنها "متعة الحياة"، "من الواضح أن الكتابة رفضتها من أجل تضمينها في هذه الكلمات، فعلى العكس من ذلك، تسمح اللوحة القماشية بالانزلاق فوقها، حيث تتخلص الألوان من نفسها عن طريق الاهتزاز من الثقل الذي قد يفرضه العصر عليها في أي لحظة".

 

مختارات من أجوبة إيتيل عدنان من حواراتها مع لور أدلر:

 ** أنا حالة خاصة بعض الشيء، لا سيّما في ذلك العصر. كانت والدتي يونانية، من سميرنا (إزمير اليوم)، أي من تركيا، ووالدي وُلد في دمشق، وكان أيضًا ضابطًا في الدولة العثمانية، فكانت لغتهما المشتركة هي التركية، وكنا نتحدث التركية في بيروت، في المنزل، لكن والدتي كانت تتحدث معي باللغة اليونانية، بالطبع. لذلك نشأت حتى بلغت العشرين من عمري، وحتى بعد أن بلغت الرابعة والعشرين من عمري، وأنا أتحدث اليونانية والتركية والفرنسية لأن المدارس في ذلك الوقت كانت ناطقة باللغة الفرنسية فقط، إذ لم يكن يتم تدريس اللغة العربية، التي تعلمتها، كما يقولون، في الشارع ومع الأطفال. لذلك نشأت وأنا أتكلم أربع لغات. (ص: 8).

** [...] كان هناك العديد من الفتيات والنساء في جامعة السوربون. عندما وصلت إلى باريس في أيلول/ سبتمبر 1949، كانت فترة ما بعد الحرب فترة حقيقية، وكان الناس لا يزالون مستهلكين بالحرب، ويتحدثون عنها باستمرار، ربما ليس بشكل مباشر، لكنهم كانوا يقولون: "في وقت الحرب، يجب أن تفعل هذا أو ذاك".  مالكة غرفتي، على وجه الخصوص، كثيرًا ما تحدثت عن ذلك.

لذلك كان هناك الكثير من الفتيات في جامعة السوربون، ولكن في بيركلي كان الأمر على العكس من ذلك، لم يكن هناك سوى عدد قليل من الفتيات الصغيرات، وعدد قليل جدًا من الأساتذة الإناث. على سبيل المثال، كانت لورا نادر، شقيقة كاتب المقالات والسياسي الأميركي المثير للجدل من أصل لبناني، رالف نادر، أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة بيركلي طيلة حياتها، وكثيرًا ما قالت إنها كانت واحدة من أوائل الأستاذات هناك. في منتصف الستينيات، كانت هناك شابة في كلّيتي تريد الحصول على درجة الدكتوراه في التاريخ، فقال لها رئيس القسم: "بصراحة، أنصحك بعدم القيام بذلك، فنحن لا نريد النساء في قسمي". كما قمت بالتدريس لمدة عام في نيو هيفن، ولم يكن هناك سوى امرأتين في القسم. امرأة شابة تدعى آني شولهار، والتي كتبت بالفعل رواية عن تلك السنوات، وعني، وقد تم تجاهلنا حقًا. عندما طرحنا سؤالًا، لم يجب المعلمون والطلاب حتى. لقد كانت ثورة منتصف الستينيات هي التي غيّرت العقليات كثيرًا، قليلًا بالنسبة للسود وكثيرًا بالنسبة للنساء (ص: 8).

** [...] عندما كنت طالبة في باريس، عشت في المدينة الجامعية في البداية، ثم في شارع تورنو، وكثيرًا ما كنت أتغيّب عن الدروس. كنت في الشارع، بالنسبة لي كانت باريس هي المدينة، والحياة، والدراسة لم تكن تهمني بقدر الطلاب الآخرين الذين كرّسوا أيامهم لها. قضيت أيامي في الشارع لاستكشاف المدينة سيرًا على الأقدام، وكثيرًا ما انتهى بي الأمر في متحف اللوفر. لم يسبق لي أن رأيت لوحات من قبل، ولم تكن هناك متاحف في بيروت. اليوم توجد معارض، لكن في ذلك الوقت لم يكن هناك شيء.

لقد نشأت في منزل لم يكن به هاتف ولا راديو، كنا نذهب إلى كل مكان سيرًا على الأقدام... لست نادمة على كل ذلك، إنه فقط لشرح الوحي بأن الرسم كان بالنسبة لي في فرنسا، خاصة وأنني كنت آخذ دورات في علم الجمال مع البروفيسور سورياو. كان الذهاب إلى متحف اللوفر، بالنسبة لي، بمثابة الذهاب إلى السينما، ولم أفكر في الرسم بطريقة خاصة، لقد نظرت فقط، وأتذكر زيارتي الأولى، عند المدخل كان هناك انتصار ساموثريس في المتحف. أعلى الدرج، كان ذلك هو الوحي، ثم فينوس دي ميلو، في المرات الأولى، درت حولها مثل الفراشة التي تدور حول الضوء، إنه عمل استثنائي، وموحٍ أيضًا. فكيف يمكن أن يكون هذا الشيء لحمًا وحجرًا في نفس الوقت؟ هذه هي عبقرية النحت اليوناني (ص: 9).

** [...] عندما كنت طالبة في جامعة السوربون، من عام 1949 إلى عام 1953، كان أستاذاي المفضلان سورياو، المشرف على الأطروحة التي لم أكملها قط، وغاستون باشلار. تابعت دروسهما، بما في ذلك تلك التي كان لها تأثير كبير عليّ، حول مفهوم الخبرة. وكان باشلار مشهورًا جدًا في ذلك الوقت. أعتقد أنه فيلسوف عظيم جدًا لا نقرأه بما فيه الكفاية، أقارنه في الأهمية بهيدغر، لأن ما يعجبني في هيدغر هو أنه على الرغم من هذا الشعور بالتجريد المستمر، إلا أن هناك حساسية تجاه العالم، لا أعرف كيفية التعبير عنها. يجعلني هيدغر أرغب في حب العالم لأنني أحب العالم، وباشلار يتمتع بهذه الخاصية الفائقة، الحساسية تجاه العالم، بشكل واضح جدًا. لقد فتح باشلار العقول للشعر من خلال دراساته في مرحلة الطفولة. إنه شاعر وفيلسوف عظيم في الشعر، وهو حديث جدًا في ذلك. وهناك اثنان من المفكرين الفرنسيين في نظري قالا، بشكل مباشر أو غير مباشر، أشياء رائعة: باشلار ومالرو. مالرو مفكر عظيم في الفن، والجميع يعرفه، وكذلك باشلار (ص 15). 

** [...] اعتقدت دائمًا أننا نتأثر بما نختبره. لقد سُئلت أحيانًا: "لماذا يوجد الكثير من تاريخ الحرب المعاصر في شعرك؟" وكنت أجيب: "لست أنا من يكتبه، بل التاريخ هو من يكتبه". في كثير من الأحيان كنت أرغب في التفكير في شيء آخر غير الحرب، ولكن، في كل مرة، كان ينشأ صراع جديد.

ولدت في عائلة من ثلاثة أشخاص فقط. كان والدي ضابطًا إمبراطوريًا، وزميل دراسة لمصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية وأول رئيس لها. شارك والدي في معركة الدردنيل، وعندما كان عمره 38 عامًا، انتهت مسيرته، واختفت الإمبراطورية العثمانية. لذلك  كانت حياته مأساوية بعض الشيء، بسبب التاريخ. كانت والدتي أقل ثقافة بكثير من والدي، لكنها كانت أكثر تعلقًا بعالمها اليوناني في تركيا. رأت سميرنا تحترق عندما كان عمرها 24 عامًا فقط. كانت تفكر في سميرنا فقط. بقيت هناك عقليًا. عندما كنت أسير في بيروت على الكورنيش، على طول البحر، وأشاهد سحبًا كبيرة في الأفق، أقول لأمي من أجل إرضائها: "هل هذه سميرنا؟". لم أكن أسمع سوى حديثًا عن سميرنا، كان أصدقاؤها يأتون إلى المنزل ويقولون دائمًا: "العنب أفضل في سميرنا، والسمك أفضل في سميرنا..." كانت ممسوسة، ومنفية من عالمها اليومي، وعاشت في غياب هذه المدينة. وتشتّتت عائلتها، أخ في سالونيك، وأخ في قبرص، وأخ في الإسكندرية، وأخت في إيطاليا. كما ترون، الحروب تفكّك العائلات والحياة، وقد عشت في هذا التكرار للتاريخ في المنزل، هذه القصص عن الحروب التي لا نهاية لها (ص 19 – 20).