Print
راسم المدهون

"على قمة الدنيا": يوميات من كابوس غزة ومحرقتها

29 يونيو 2024
هنا/الآن
كيف تبدو الحياة في الجحيم؟
سيبدو السؤال نافلًا وخياليًا قبل أن يتبعه السؤال اللاحق والأخطر: كيف يمكن الكتابة في الجحيم؟
قبل أيام، وصلني نص متميز، حار وينبض بوهج خاص من الشاعرة والكاتبة الفلسطينية التي تعيش في غزة، دنيا الأمل إسماعيل. النص يحمل عنوان "على قمة الدنيا"، وتحته عنوان تعريفي آخر: "يوميات امرأة من غزة"، وهو بعيدًا عن طوفان المتابعات الإخبارية الشفهية والمصورة التي تصلنا كل لحظة من ذلك الجحيم، يضعنا في صورة مباشرة أمام الحياة في ذلك "العصف المأكول"، وكأننا بشر "جحيم" دانتي الذين لا يعرفون ولا نعرف نحن هل هم أحياء أم ينتمون لعالم الأموات.
في الجحيم، ترتبك الحياة، فكيف للكتابة (وهي من صور الحياة ليس إلا) أن تكون طبيعية وعادية... بل ما معنى أن تكون طبيعية وعادية، بل أيضًا وأيضًا لماذا يجب أن تكون طبيعية وعادية؟
هل هو سؤال جدوى الكتابة؟ أم سؤال جدوى الحياة ذاتها، خصوصًا أنها "حياة" من باب المجاز، ومن باب عجز العثور على مسمَاها الحقيقي والقادر على إيصال المعنى، أي معنى، فالطبيعي والمنطقي هو تمامًا عكس صورة ما تعيشه غزة منذ شهور، وهو حال يقفز عن أسئلة الكتابة وهمومها وشروطها إلى أسئلة أخرى تجعل احتياجات البشر البسيطة والبديهية، وحتى الغرائزية، شبه مستحيلة، وتحتاج معجزة ما لتحقيقها.
في غرائبية هذا المناخ العام، بل وفجائعيته الصامتة، حتى في غير أيام الحرب، تذهب دنيا الأمل نحو العادي من تفاصيل الحياة اليومية، فتستحضر البيت والعائلة وبناتها، بل وحماتها، وتعرج على هموم العمل والغيرة الوظيفية، وتتحدث عن آلام صغيرة نبتت كالطحالب على صخرة غزة المثخنة بالحروب: بقايا التنافسات العائلية الفارغة، والتي فقدت أي بريق لها منذ دهر طويل، وتنافس السيدات على نيل إعجاب رجل وحبه، وتكتب من حدقة الحلم مشاهد الفرح القليلة لامرأة يحلو لها أن ترى نفسها في المقعد الأمامي للسيارة قرب النافذة تراقب المشهد العابر أمامها في رحلة هي الأطول في القطاع الصغير بين مدينتي غزة ورفح. الكتابة هنا تستدرج الرغبات الصغيرة، ولكن الحميمة والأثيرة للنفس، كما هي وجنبًا إلى جنب مع تلك السطور التي تتناول حياة البنات الصغيرات في ساعات أيامهن المختلفة.
إنها يوميات الأمل في اقتطاع مساحة ما من بقعة السواد الكبرى التي تحلق فوق الجميع، وتنذر في أية لحظة بالعودة مجددًا إلى حالة الدمار، حين تستعيد الطائرات حضورها في "السماء الصغيرة"، وتدب أقدام الموت في الشوارع المكتظة بالبشر اللاهثين في ساعات حياتهم الأخيرة، وهي كتابة تضع الذات الفردية كل الوقت في مأزق يبدو شاملًا وكابوسيًا ولا يكاد يتحرك: "خفت ضوء الكشاف الكهربي، فقد ضعفت بطاريته بعد ليلة عمل طويلة، لم أتأفف، ولم أبد كثير غضب على حالنا الذي يشبه حال معظم البيوت في غزة. بعد قليل سيغرق البيت في عتمة مؤكدة وصمتٍ مخيّم، إلا من ضحكات البنات في سمرهنّ، الذي يحلو لهنّ في آخر الليل. وأنا أنتظر نومتهنّ لأكمل تأملي الداخلي، لكن الأمر يطول لساعتين بالتمام والكمال قبل أن يأوين إلى فراشهنّ، أكون قد وصلت بعدها لقمة شعوري بالتعب، لكن النوم لا يأتيني وعقلي في تمام صحوه، كأنّ شيئًا لا يرهقه، أشعلت كشّاف اليد الصغير، وأمسكت بكتابٍ بجواري، وبدأت أقلب وأقرأ على ضوئه الضعيف، بعد برهة تعبت عيناي، شعرت برملٍ تحت الجفون، قاومت قليلًا، لكنني في النهاية استسلمت، واكتفيت بسماع ما يأتيني من صوت التلفاز وزوجي يقلب محطاته كعادته من دون أن يثبت على واحدة حتى غططت في النوم إلى صباح متأخر من يومٍ جديد".
هي يوميات تعتني بالتفاصيل، وتذهب نحو الجزئيات، ولكن الأهم فيها أنها تنتبه بالذات إلى وقع تلك التفاصيل في روح كاتبتها، وما ترسمه من ملامح أهمها القلق: هو قلق يشبه أصحابه، ومن يعيشونه دقيقة بدقيقة في تلك البيوت المهددة في كل لحظة، وفي كل يوم، بخطر الحرب، وما تحمله من موت وتدمير.




وفي "على قمة الدنيا"، تبدو الكاتبة تمشي وتتحرك في حيز ضيق، ولكنه ينير لها عوالم كبرى، شاسعة ومأهولة بالآخرين، فرغم المتاعب الكبرى والهم العام تمشي المتاعب اليومية، الصغيرة والشخصية و"العابرة" سيدة الموقف وتحكم قبضتها على الجميع. نلحظ جيدًا أن الحياة الاجتماعية تحضر صورها بقوة وسلاسة رائقة في هذه اليوميات، فدنيا الأمل إسماعيل تستعيد فسيفساء الحالة العائلة والمواقف الفردية فيها، والتي تعكس ما تحمله من إيجابيات، وحتى تناقضات تشكل مجتمعة صورة المجتمع في غزة وحقيقته:
"لم يكن الليل أشد حلكة من سواد الانتظار، أن تنتظر موتك أو حياتك، اختزال مخل لإنسانيتك، واستسلام غير مقصود للعبة الموت التي يجيدها الآخر الإسرائيلي. في انتظار الموت أكثر من موت، وأيضًا أكثر من مخيلة تتحايل على ما هو قائم باستنهاض اهتمامات صغيرة توارت خلف طموحاتنا غير المدروسة وغير المسنودة التي عجت بها حياتنا في السنوات السابقة. طرزت جنين استشهادها بروح عالية لتقول لنا الكلام الذي أزحناه وواريناه ثرى نفوسنا الواهمة. وجاء صغارنا ليعلمونا درسًا أهملنا استذكاره كما يحق له. ها نحن، جيدًا، نتناول موتنا ضد موتنا. لا وقت للعزاء، ولا وقت للفرح، هنا وقت فلسطين كما كانت تكون، تنسج هويتها من دمها، تعيد إحياء مفهومها المنسيّ، تؤسس لبهاء لا آنية فيه".
دنيا الأمل إسماعيل بين أبرز أدباء غزة، وهي تعيش اليوم حالة النزوح الرابعة، أو الخامسة، مع عائلتها وأهلها، وتكتب يوميًا منشورات حارة ومثخنة بالوجع المتجول في قطاع غزة، صدرت لها ثلاث مجموعات شعرية، وفازت بجائزة "منتدى نساء البحر المتوسط" في فرنسا، ولم تتمكن من استلام الجائزة بسبب الحصار.
هي كتابات تنير لنا أفق الحياة الضيق في محرقة غزة والكتابة في هذا الحد الأقصى من القسوة الإنسانية أقرب ما يكون لشهادة تكتبها امرأة كاتبة وموهوبة وتحمل فكرًا حيويًا ينتمي لرؤى مستقبلية تستشرف ما بعد الموت الرابض في كل شبر من القطاع الصغير والمدمر.