Print
ضفة ثالثة- خاص

الإعلام الإسرائيلي وحرب الإبادة على غزة: في سلوك القطيع

10 سبتمبر 2024
هنا/الآن


كشفت دراسة حديثة صادرة عن "إعلام"- المركز العربي للحريات الإعلامية والتنمية والبحوث (الناصرة)، عن تصاعد التهديدات والتحديات التي يواجهها الصحافيون الفلسطينيون في أراضي 48 والقدس، وذلك منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

جاءت الدراسة تحت عنوان "صحافيون في المرمى 2: صحافيّو 48 والقدس: في مواجهة تحدّيات المهنة​ منذُ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023​"، وأجرتها طالبة الماجستير في دراسات الاتّصال والإعلام بجامعة حيفا، أفنان كناعنة، تحت إشراف الكاتب أنطوان شلحت، وتحقيق الصحافيّة ميسون زعبي، وتناولت بشكل مُعمّق الانتهاكات المُمنهجة التي تمارسها المؤسسة الإسرائيليّة، بكافة أذرعها، ضد الصحافيين، ما أدى إلى تفاقم المخاطر المهنيّة والتضييق على حرية الصحافة في أراضي الـ 48 والقدس.

وتُشير الدراسة إلى أنّ الصحافيين الفلسطينيين أصبحوا هدفًا مباشرًا لممارسات القمع والتضييق من جانب المؤسسة الإسرائيليّة بهدف تقييد حركتهم خلال تغطيتهم للأحداث، حيثُ اشتملت الاعتداءات على عشرات الحالات التي وثّقها مركز "إعلام"، بموجب الأنماط التالية: اعتداءات جسديّة (15.5%)، مصادرة المعدّات الصحافية (19%)، اعتداءات لفظيّة (21.4%)، توقيف (17.9%)، اعتقال (13.1%) واعتداءات من نوع آخر (13.1%).

وتبرز الدراسة أنّ هذه الانتهاكات لم تكن حالات فردية، بل هي جزء من سياسة مُمنهجة تتبعها السلطات لإسكات الأصوات الصحافية وتضييق الخناق على حرية التعبير لسببين رئيسيّين: أوَّلًا، بهدف لجم قوّة وسائل الإعلام على مسّ شرعيّة الاحتجاج ضدّ ما يرتكبه الاحتلال من جرائم حرب. ثانيًّا، بهدف تعزيز حملات التضليل الإعلاميّ التي تقودها إسرائيل، نحو فرض وترسيخ رواية إسرائيليّة وتغليبها على الوقائع في الميدان المُلقى على عاتق الصحافيين نقلها. ولم تقتصر الجهات التي ساهمت في تطبيق هذه السياسات على قوّات الجيش الإسرائيليّ، الشرطة وجهاز الأمن العام (الشاباك) وحسب، بل أيضًا كان صحافيّون ومدنيّون إسرائيليّون شركاء في ارتكاب هذه الاعتداءات أيضًا.

تناولت الدراسة مجموعة من المُعيقات والقيود التي تؤثّر في أداء وسلوكيّات الصحافيّين المهنيّة وقدرتهم على مُمارسة صحافة حُرّة، ناقدة، مُغايرة ومُراقبة للحكومة، خاصّةً وأنَّ الصحافة الإسرائيليّة مُعسكرة بدرجة كبيرة وغالبًا ما تلتزم بالخطاب المُهيمن والرأي الرسميّ للحكومة. وبالعموم، ترتبط الاعتداءات على الصحافيّين الفلسطينيّين بهويّتهم القوميّة باعتبارهم جزءًا من "أُمّة مُعاديّة" للكيان الإسرائيليّ، لوسمهم على أنَّهم يشكّلون خطرًا أمنيًّا أو جواسيس لدى المُنظّمات الفلسطينيّة، الأمر الذي يستلزم التعامل معهم بحيطة، فوقيّة، عنصريّة وعدائيّة. وفصّلت الدراسة المُعيقات والقيود أمام الصحافيّ الفلسطيني لتقسمها إلى: قيود سياسيّة وأمنيّة، وأُخرى مرتبطة بالوصول إلى المعلومات والتي هي واحدة من الحرّيّات الضروريّة لتحقيق حرّية الصحافة، وقيود قانونيّة تتعلّق بتطويع القانون وتجنيده كأداة ضبط وسيطرة تخدم الغايات القمعيّة لإسرائيل، وقيود اقتصاديّة وعقوبات ماليّة تسعى لترويض الخطاب السياسيّ للصحافة، بالقيود اللغويّة، والقيود المُجتمعيّة المُرتبطة بتركيبة المُجتمع الفلسطينيّ وببنى وهياكل القوى داخله، نهايةً بالقيود الجندريّة المرتبطة بالعنف المبني على النوع الاجتماعي المُوجّه ضدّ الصحافيّات النساء على وجه الخصوص.

تُخلِّفُ هذه القيود أضرارًا وآثارًا مُهوِّلة على أداء ووظائف الصحافة الفلسطينيّة، بدايةً من أثرها على الكمّيّة، الجودة والمستوى المهنيّ للمُنتجات الإعلاميّة الصادرة عنها؛ ونهايةً بالضرر اللاحق بوظيفتها ودورها في المُجتمعات الديمقراطيّة في أن تكون "سلطة رابعة" أو "كلب حراسة" لمصالح الجمهور، من خلال مُعاينة سياسات الحكومة وسلطاتها، ومدى التزامها بالأسس الديمقراطيّة وحقوق الإنسان. علاوةً على دورها في تعزيز المُثل الديمقراطيّة، حماية مصالح الجمهور العامّ، وضمان تعدّد الأصوات اللازمة لتحقيق سوق حرّة من الأفكار، تشجيع التطبيق السليم للعدالة، وتحفيز المُناقشات حول الحلول المُمكنة للنزاعات. يُضاف إلى ذلك، الحدّ من قدرة الصحافة الفلسطينيّة على أن تُشكِّل مركز قوّة لصحافة مُغايرة لتلك السائدة في إسرائيل، يكتبها السكّان الأصلانيّون، وينتقدُون الحرب والإبادة ويدعون من خلالها إلى السلام. هذا الاختزال لصوت الفلسطينيّ، لتجاربه، حقيقته، ومواقفه يُؤثّر بالطبع على انتشار وامتداد الرواية الفلسطينيّة.


أهمية الحماية الدولية للصحافيين

وفق المواثيق والمعاهدات الدولية

في ظل التصاعد المستمر لانتهاك الحرّيّات والحقوق الصحافيّة الفلسطينيّين، خاصّة: حرّيّة الصحافة، العمل، حرّية الوصول إلى المعلومات، حرّيّة التعبير عن الرأي، حقّ الجمهور في المعرفة، وحُرّية المُشاركة السياسيّة، تُبرِز الدراسة الحاجة المُلحّة إلى تفعيل الحماية الدولية للصحافيين الفلسطينيين، فوفق المتعارف عليه تُعتبر الصحافة الحرة والمستقلة ركيزة أساسية من ركائز الديمقراطية وحقوق الإنسان، وعليه، يجب أنّ يتمتع الصحافيون بالحماية الكاملة وفقًا للمواثيق والمعاهدات الدولية، مثل المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، واتفاقية جنيف الرابعة التي تفرض حماية خاصة للمدنيين في مناطق النزاع، بمن في ذلك الصحافيون؛ وقرارات الأمم المتّحدة التي تضمن حرّيّة الصحافة وحماية الصحافيّين من الاعتداءات المتكرّرة.

وخلصت الدراسة إلى عددٍ من التوصيات منها الدعوة إلى تحرّك دولي عاجل وفعّال لضمان حماية الصحافيين الفلسطينيين وتطبيق الآليات الدولية لمساءلة إسرائيل عن الجرائم التي ترتكبها بحقهم. وتؤكد الدراسة ضرورة وحيويّة تفعيل الآليات القانونيّة والحقوقيّة اللازمة لضمان عدم إفلات الجناة من العقاب ولتحقيق العدالة للصحافيين الذين تعرّضوا للانتهاكات.

كما تدعو إلى تحقيق الاستقلالية المهنية وتطوير آليات رقابة ذاتية لا تؤثر على استقلالية الإعلام الفلسطيني، مع تعزيز حرية الصحافة وضمان حماية الصحافيين من الضغوط الخارجية.

إلى ذلك، توصي بتوسيع نطاق حملات التضامن الدولي معهم وتكثيف الجهود الدوليّة للضغط على الحكومات والمؤسسات الدولية للتحرك الفوري لحماية الصحافيين الفلسطينيين، وزيادة الوعي العالمي بشأن الانتهاكات التي يتعرضون لها. كما توصي بإطلاق برامج تدريبية متخصّصة لدعم الصحافيين الفلسطينيين تركز على التغطية والسلامة المهنيّة في مناطق النزاع، وتزويدهم بالأدوات اللازمة للعمل بأمان وفعالية في الظروف الصعبة، مع الأخذ بعين الاعتبار المخاطر المرتبطة بالنوع الاجتماعيّ للصحافيّات وثقافة المُجتمع الذي ينتمون إليه. بالإضافة إلى الحاجة لإنشاء نقابة خاصّة بالصحافيّين الفلسطينيّين تتعاطى مع همومهم واحتياجاتهم الخاصّة خارج إطار النقابة الإسرائيليّة، وخاصّةً تزويدهم بالتمثيل القانونيّ في حال لزم الأمر، وبالدعم المعنويّ والنفسيّ في أعقاب الاعتداء عليهم. بالإضافة إلى الحاجة لتأسيس صناديق مانحة وداعمة أو تجنيد تمويل من صناديق دوليّة تُغنيهم عن التبعيّة الاقتصاديّة لإسرائيل.

خلفية: شهداء الصحافة في غزة

وتأثير اغتيال شيرين أبو عاقلة

أكد مركز "إعلام"، بناءً على توصيات مؤتمر للصحافيين عُقد بتاريخ 3/5/2024، أنّ الإعلام الفلسطيني في أراضي 48، وفي نظرة كرونولوجيّة، تقدّم وتطوّر بخطى ثابتة نحو المهنيّة، مع الحفاظ على  انتماء هوياتي لا يتعارض مع مهنية الصحافيين التي تحتم عليهم الحياد إلى جانب المُستضعف/ الضحيّة (الفلسطيني)، إلا إنّ التطورات الأخيرة والتي تفاقمت بعد قتل الصحافيّة شيرين أبو عاقلة في مخيم جنين، واستمرت في اعتداءات وملاحقات للصحافيين في القدس، لا سيما الفاعلين في البلدة القديمة، وحتى استهداف وقتل مئات الصحافيين في غزة منذ الـ 7 من تشرين الأول/ أكتوبر، تدفع إلى تطوير رقابة ذاتيّة في صفوف الصحافيين الأمر الذي يستدعي الوقوف عنده، وكذلك مدّ الصحافيين بكافة التدابير اللازمة للحفاظ على أمنهم وأمانهم وبالتالي الحفاظ على أمانتهم الصحافيّة.

في سلوك القطيع!

وتحت عنوان "الإعلام الإسرائيلي والحرب على غزة: في سلوك القطيع"، قدّم لهذه الدراسة الكاتب أنطوان شلحت.

وهنا نصّ التقديم:

مع إطالة أمد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، التي بدأت في إثر الهجوم الذي قامت به حركة حماس ضد مواقع عسكرية وضد السكان في ما يعرف باسم "غلاف غزة" في المنطقة الجنوبيّة يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بدأت تتبدّد شيئًا فشيئًا بعض سُحب الضباب التي تلوح فوقها تحت وطأة التعتيم الصارم الذي فرضته إسرائيل عليها واستهدف من ضمن أمور أخرى التغطية على ما تقوم به من جرائم حرب وإبادة من جهة، وممارسة أكبر قدر من التضليل الإعلامي من جهة أخرى.

بالرغم من ذلك لا يمكننا أن ندّعي، عند قراءة التقارير والتحليلات الإسرائيلية، أن الصورة واضحة تمامًا وإن باتت أوضح من ذي قبل، ولكن يمكن أن نقوم بتقاطع ما هو واضح حتى الآن مع ما تسعى إسرائيل له وتزعم أنها سائرة نحوه، وكذلك أن ندلي بدلونا في عرض المصاعب والتحديّات التي تواجهها هذه الحرب والتي تبدو غير عاديّة بالرغم من أن الدعاية الإسرائيلية تعتبرها عادية وتحاول إقناع رأيها العام بذلك، في جوّ طاغٍ تحرّكه غريزة الانتقام والعاطفة أكثر من أي شيء آخر، وأحيانًا كثيرة حتى من دون عقل، ومن خلال إيمان أعمى.

في واقع الأمر في كل من الحروب السابقة أوجدت إسرائيل الصيغة التي تناسب تغطيتها إعلاميًا، أو لعلّ الأصح القول إن الغاية التي تطلعت إليها من وراء كل حرب هي التي كانت بمثابة دليل لها على إيجاد الصيغة الأنسب. 

أجرت الدراسة طالبة الماجستير في دراسات الاتّصال والإعلام بجامعة حيفا، أفنان كناعنة


وبحسب أستاذ الإعلام الإسرائيلي، الدكتور باروخ ليشم، فإن السياسة التي تنتهجها وحدة الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي منذ بدء المناورة البرية (التوغّل البريّ) في قطاع غزة في الأسبوع الأخير من شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تتسم بفرض تعتيم إعلامي مطلق على طابع المعارك التي يخوضها الجيش، والاكتفاء بتسريب فتات المعلومات. وهذا السلوك ينطوي على تغيير إذا ما قورن مثلًا بما كانت عليه الحال إبان ما عرفت باسم "عملية الجرف الصامد" العسكرية في القطاع في عام 2014. وينوّه ليشم بأن المفهوم الذي يحكم سلوك جيوش الدول الغربيّة في العصر الحديث يؤيد التعاون مع وسائل الإعلام في أوقات الحرب. والفرضية الأساس التي تقف من وراء ذلك مؤداها أن الكثير من العمليات الحربية بحاجة إلى شرح وتأويل، والأهم من هذا بحاجة إلى شرعنة، سواء من حيث سيرها أو من حيث نتائجها. والصلة مع الجمهور العريض لها دور مهم في طرح موقف الجيش وتأجيج رأي عام مؤيد ومساند. وهذا المفهوم صار إلى تعزّز من جانب الولايات المتحدة بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 والحرب في العراق عام 2003، وقام الجيش الإسرائيلي بتبني هذا المفهوم حرفيًّا في حرب لبنان الثانية عام 2006. وهو ما أكدته الناطقة بلسان الجيش الإسرائيلي آنذاك والوزيرة في الحكومة الحالية ميري ريغف حيث قالت خلال إدلائها بشهادتها أمام لجنة فينوغراد التي تقصّت وقائع تلك الحرب: "لقد بذلنا جهدًا ساميًا من أجل إدخال مراسلين إلى ساحات القتال من منطلق الفهم بأن أي صورة تخرج من تلك الساحات تعادل ألف كلمة"!

وهناك اجتهادات إسرائيلية في تفسير دلالات التعتيم الإعلامي الراهن. فمثلًا المحلل العسكري رون بن يشاي (من صحيفة "يديعوت أحرونوت" وموقعها الإلكتروني) كتب أن الجيش يفضّل أن يفرض ضبابية على سير المعارك حتى على وسائل الإعلام الأجنبية، وذلك في سبيل الحؤول دون أن تفهم جهات مُحدّدة مثل حزب الله وإيران بل وحتى قطر ما الذي يدور في الميدان، وهذا من شأنه أن يصعّب عليهم عملية اتخاذ قراراتهم. 

ولكن ليشم يعتقد أن التداعيات التي ترتبت على أحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي وتسبّبت بتعبئة المجتمع الإسرائيلي من أقصاه إلى أقصاه إلى ناحية تأييد الحرب، تأدّى عنها عدم حاجة الجيش الإسرائيلي إلى أي شرعية من جانب الجمهور العريض في كل ما يتعلّق بردة فعله العسكرية الأعنف حتى الآن، وهنا ربما يكمن سبب تخلّيه عن تعبئة وسائل الإعلام، أما فيما يخصّ ردّة الفعل في العالم فإن إسرائيل تتلفّع بالدعم الأميركي المطلق وبالجدول الزمني الذي منحته الإدارة الأميركية للحرب والذي لم يتم تحديد منتهاه.

عند هذا الحدّ ينبغي أن نشير إلى أن "مؤشر حرّية الصحافة العالمي" الذي نشرته منظمة "صحافيون بلا حدود" الدولية في شهر أيار/ مايو 2023، أظهر تراجع إسرائيل إلى المرتبة الـ97 من بين 180 دولة يشملها المؤشر، بعد أن كانت تحتل المرتبة الـ88 عام 2022. وورد فيه، من ضمن أمور أخرى، أن ما يصفها بأنها البيئة السليمة لحرية الصحافة الإسرائيلية تقوّضت بعد أن وصلت إلى سُدّة الحكم حكومة تهدّد حرّية الصحافة، في إشارة إلى حكومة بنيامين نتنياهو السادسة الحالية.

وبموجب متابعة دقيقة يمكن القول إن نتائج المؤشر قوبلت بتجاهل تام تقريبًا في وسائل الإعلام الإسرائيلية نفسها بمعظمها، مع وجود استثناءات قليلة، كان أبرزها الموقع الإلكتروني "هعاين هشفيعيت" (العين السابعة) المتخصّص في نقد الإعلام، والذي نقل تعقيب رابطة الصحافيين في إسرائيل على المؤشر والذي أكدت فيه أنه بعد خفض الائتمان المستقبلي للاقتصاد الإسرائيلي، نشهد الآن خفض تصنيف إسرائيل في مجال حرّية الصحافة، ما يثبت أن ثمة عددًا من الأمور المقلقة آخذة بالتراكم، وترسم صورة قاتمة لخطر واضح وفوري يتهدّد الديمقراطية في البلد. وبغية إظهار حدّة النتيجة المتعلقة بإسرائيل في المؤشر، تعمّد الموقع ذاته أن يلفت الأنظار إلى أمرين:

(*) الأول، أن تدريج إسرائيل في المؤشر هذا العام جاء أدنى من دول لا تُعدّ ديمقراطية مثل ألبانيا والغابون ومنغوليا وزامبيا وغينيا بيساو وقبرص الشمالية وتوغو وليبيريا وغانا وبوركينا فاسو وساحل العاج وغيرها.

(*) الثاني، أن لإسرائيل تأثيرًا على تدريج دول أخرى ومنها مثلًا اليونان التي تدهورت إلى المرتبة 107 بسبب استخدامها منظومة تجسّس إسرائيلية ضد صحافيين. 

زئيف شتيرنهل: إفلاس الإعلام الجماهيري الإسرائيلي مطلق!


و"مؤشر حرية الصحافة العالمي" هو تدريج سنوي للدول تعدّه منظمة "مراسلون بلا حدود" وتنشره بناء على تقييم المنظمة لسجل حرية الصحافة في كل دولة. ويتم اعتماده على أساس استبيان يُرسَل إلى منظمات مشاركة مع المنظمة المذكورة، بينها 14 مجموعة لحرية التعبير في خمس قارات و130 مراسلًا حول العالم، بالإضافة إلى صحافيين، وباحثين، وخبراء قانونيين، وناشطين في مجال حقوق الإنسان. ويطرح الاستبيان، كما يرد في الموقع الرسمي للمنظمة، أسئلة حول اعتداءات تطاول صحافيين وإعلاميين بالإضافة إلى وقائع تثبت وجود ضغوط على الصحافة الحرّة. وفي تقارير سابقة من المؤشر ورد مزعم يقول إن "الصحافة الإسرائيلية تتمتع بحرية حقيقية قلّ نظيرها في منطقة الشرق الأوسط"، ولكن بالرغم من ذلك "فإن الصحافيين يواجهون بمعظمهم عداء وزراء الحكومة بالإضافة إلى الرقابة العسكرية وقرارات منع تغطية بعض المسائل، منها ما يتعلّق بالفساد، ناهيك عن إجراءات تكميم الأفواه التي تعتمدها دوائر المال والأعمال". ووصفت التقارير كيف تواترت العديد من "حملات التشهير ضد وسائل الإعلام من جانب بعض السياسيين المدعومين بأحزابهم ومؤيّديهم، بحيث تعرّض عدد من الصحافيين إلى مضايقات وتهديدات مجهولة الهوية، ما اضطر بعضهم إلى طلب حماية شخصية حفاظًا على سلامتهم". وجرى التنويه في حينه بأن الصحافيين الذين قاموا بتحقيقات استقصائية متعلقة بشبهات الفساد التي تحوّلت إلى بنود في لائحة الاتهام الرسمية المقدّمة ضد رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو كانوا أكثر من تعرّض إلى ملاحقات وتهديدات.

بطبيعة الحال، بالإضافة إلى ما تحمله الحكومة الإسرائيلية الحالية في أحشائها من مخاطر على حرية الصحافة، والتي تشي بآخر التحوّلات الطارئة على المجتمع الإسرائيلي وحقله السياسي، توقف مؤشر العام الأخير، كما مؤشرات الأعوام السابقة، عند مخاطر ينعتها بأنها تقليدية تتهدّد حرية الصحافة وإسرائيل مبتلاة بها منذ أعوام طويلة، مثل التضييق على الصحافيين الفلسطينيين، وقيود الرقابة العسكرية الصارمة، وإكراهات قطاع المال والأعمال. وجميع هذه المخاطر تفاقمت خلال الحرب الحالية على قطاع غزة كما يثبت هذا التقرير الذي يستند إلى وقائع وإلى شهادات من الميدان.   

ولم تتعذّر أي محاولة من جانب التقارير السابقة للإمساكِ بمفاعيل هذه المخاطر، أو تكوين إحاطة عنها اعتمادًا على الوقائع فقط. وبخصوص الرقابة العسكرية لوحدها جاء في تقرير حديث لمنظمة "فريدوم هاوس" الأميركية أن المقالات المطبوعة حول المسائل الأمنية تخضع كلّها إلى رقابة عسكرية، كما أن المكتب الصحافي الإسرائيلي الحكومي يحجب من حين إلى آخر بطاقات صحافية من صحافيين لمنعهم من دخول إسرائيل بحجة "الاعتبارات الأمنية".

في الحرب الحاليّة على قطاع غزة، لا تنحصر الإشكالية التي طغت على أداء وسائل الإعلام الإسرائيلية في الرقابة العسكرية، بل تتعدّى ذلك إلى مساهمة وسائل الإعلام هذه في تشكيل ما وصفه الإعلامي الإسرائيلي يزهار بئير بـ "الوعي الزائف"، والتي لا تتطلب الكذب بالضرورة، بل يمكن تحقيق النتائج أيضًا عن طريق حجب معلومات، وبواسطة تشجيع الجهل، لأن الجهل لا يقل غائيّة عن الوعي، وشغف الجهل هو أقوى شغف في حياة الشخص وأقوى من الشغفين الآخرين، الحبّ والكراهية، كما قال المحلّل النفسي والمنظّر الفرنسي جاك لاكان. ويلفت بئير إلى دراسة استقصائية أجرتها جامعة "فيرلي ديكنسون" في نيوجيرسي سابقًا، وتوصلت إلى نتيجة فحواها أن هناك أنباء تجعل الناس يعرفون أقل. ووجدت أنه بعد مشاهدة منهجية لقناة "فوكس نيوز"، كان مشاهدوها أقل معرفةً ودرايةً بالحقائق مقارنة بمجموعة اختبار لم يستهلك مشاركوها أي أخبار على الإطلاق. وبالتالي، فإن وسائل الإعلام لديها القدرة ليس فقط على تأطير الواقع وملء وعي المستهلكين بالمضمون والفهم، بل يمكنها أيضًا اختراق عقولهم وإفراغها من المعلومات والفهم السياسي.

ولا شكّ في أن لوسائل الإعلام الإسرائيلية الكثير الكثير من الأسبقيات في هذا الصدد، ولتسليط بعض الضوء عليها يكفي أن نستعيد وصف البروفيسور الإسرائيلي الراحل زئيف شتيرنهل، وهو من أبرز المتخصّصين في موضوع الفاشية، سلوك المثقفين والإعلاميين خلال "عملية الجرف الصامد" العسكرية الإسرائيلية ضد قطاع غزة عام 2014 بأنه يحيل إلى سلوك القطيع. ففي سياق مقابلة أجرتها معه صحيفة "هآرتس" في شهر آب/ أغسطس 2014، رأى شتيرنهل أن ما اتّسمت به تلك الحرب كان سلوك المثقفين في إسرائيل، وبرأيه "ما حدث عندنا هو التزام مطلق بالخط الرسمي من جانب معظم المثقفين والسير مع القطيع. والمثقفون بالنسبة لي هم الذين يحملون لقب بروفيسور والصحافيون. أمّا إفلاس الإعلام الجماهيري في هذه الحرب فهو مطلق. وبالرغم من أنه ليس سهلًا الوقوف أمام قطيع وبالإمكان أن تُداس بسهولة، فإن دور المثقف والصحافي ليس التصفيق للسلطة الحاكمة. ولقد رأيت خلال الحرب كيف أن الجامعات أيضًا استقامت وفقًا لمقاربة السلطة والأغلبية الصارخة في الشارع، وربما هذا هو الأمر الأكثر خطورة". وبرأيه تنهار الديمقراطية عندما يستقيم المثقفون والفئة المثقفة مع نزعات البلطجة من دون أن يعيروا انتباهًا إلى أن ذلك يقترب من الفاشية، والتي هي في الجوهر الحرب ضد التنوير والقيم الكونية.