بهدوءٍ يشبههُ تمامًا، رحل قبل أيام الشاعر الفلسطيني/ الأردني زهير خليل زقطان (1951-2024). شرب كأس اليانسون ونام. هذا كل ما في الأمر. وإن كان لا بد من ضجيجٍ للموت في نهاية المطاف، فهو الذي ظلّ يروّضه داخل حجرات روحه، ولا يسمح له بالصعود إلى طبقات الصوت جميعها من أعلاها إلى أكثرها أثيريةٍ وئيدةٍ حتى لا يكاد يُسمع صوته.
حافظ صاحب "فصول قلقة" على الحياد التام والحياء العام، تاركًا كل صيْرورات جيليّ ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته في المشهد الشعريّ المحليّ والعربيّ تعتملُ وحدها، وتمارس (تلك الصيرورات)، وحدها، كل مراهقاتِها تسابقًا، أو تخندقًا مع/ أو ضد قصيدة النثر، أو تناصًّا، أو تلاصًّا، أو مكائد، أو مصائد، أو ملاحقةً للطرائد.
من مخيّمٍ في الخليل، إلى مخيّمٍ في غور الأردن، من عروبة إلى كرامة، سَنْسَلَ الباحث عن مكان له ولشعبه تحت الشمس، مفردات مغايرتِهِ برويّة مُتوارية، وبصيرةٍ صموتةٍ متنحيّةٍ، لا يريد سوى تقشير كل شيء من زوائده؛ القصيدة من زخارِفها، الجهاد من صهيلِهِ، الوجد من حسيّته، سعيَ الرزق من وحوشيّته (عمل مدرسًا حيث أقل ساعات العمل وأكثر عُطل السنة)، الصداقة من قيودِها والكتابة من شعبويّتها.
عن التقشيرِ يقول الشاعر والناقد والأكاديميّ محمد عبيد الله: "في الشعر كان زهير يكثّف الجُمل والكلمات، يقشّر الفقرات ويُسقط كلَّ ما لا لزوم له. ما من شاعر معاصر انتمى إلى روح الشعر مثلما فعل الراحل العزيز، لم تكن تعنيه الشهرة، ولم ينشغل بما انشغل به غيره من قضايا ومشكلات، كان همه متّجهًا إلى جوهر الشعر لا إلى قشوره...". ثم ما يلبث عبيد الله أن يقول: "رحل زهير زقطان المعلم والشاعر والناقد... رحل الإنسان النبيل الذي سنظل نتذكّره ونستعيد بزهوٍ أننا عرفناه وتعلّمنا منه، في كلامه وصمته، في غيابه وحضوره"، واصفًا إياه بأنه: "الفرع الجميل من شجرة آل زقطان الوارِفة".
أما الشاعر أحمد الكواملة فيرى أنه "الفرع الأكثر حكمة والأعمق رؤية والأرهف حسًّا في شجرة آل زقطان المبدعة".
بانسيابيةٍ يبدو أنها لا تتأتى لغيرِه، تتجلى إشراقات زهير الجمالية والنفسية والإنسانيه كارجةً من دون صخب، حادبةً على قطّة البيت، وأُصص الشرفة، ومواعيد القطار الذي لا يجيء.
هل نطرق أبواب صوفيّته؟ إذ لا بدّ لكلِّ متناولٍ حياة زهير وشعره ومشاعره، من التقاط التماعاتها (تلك الصوفيّة الخاصة)، في نظرته ونظّارته، في شعاع الأثير الذي يرخي فوق محيّاه برزخ الصمت المحاكي عالمًا آخر غير الذي نقضي حياتنا نتصارع داخل حدودهِ المحدودة، في حين يبدو أن الشاعر الراحل عثر على وميض المطلق من بين براثنِ الحدود والقُيود.
هل نبحث معه عن ثنايا الغبار الذي يطوّق البيوت والخِيام ومكامِنَ الهِندام؟
هل نتأمّل في حضرته، أو حضرة غيابه، المعنى الروحيّ للكائنات والأشياء؟
هل نتأسّى معه على العمر الذي إذا به "ظلٌّ مضى/ في صيف بهجتنا/ فاستغفل الشجر العاري/ بقايانا/ وأصبح الليل عشا/ فيه موعدنا/ لما غذا السر/ من تقوى خطايانا"؟
هل نرثي معه المدينة التي "لم تعد طفلةً/ منذ أكثرِ من شارةٍ/ للمُرور"؟
هل (نلْطش) من صفحته الفيسبوكية (نكتة) مصرية عن "فلاح مصري بسيط وضع في صندوق مسجد سيدنا الحسين رسالة للحسين (بن علي رضي الله عنهما)، وكتب فيها أنه يحتاج 200 جنيه، وهو مبلغ ضخم في فترة (الستينيات) من أجل جهاز ابنته وكتب اسمه وعنوانه في الرسالة... وصادف ذلك صلاة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر للجمعة بالمسجد، فأمر بعد انتهاء الصلاة بفتح هذا الصندوق وقراءة ما فيه بعد معرفته بأن بُسطاء الشعب يرسلون شكواهم للحسين في هذا الصندوق . بعد قراءته للشكاوى والطلبات من جملة ما قرأه رسالة الفلاح الفقير... فأمر له بــ 100 جنيه من خزينة الرئاسة... فأوصلوا المبلغ إليه وقالوا له: دي من عبد الناصر ردًا على رسالتك للحسين...!! بعد أسبوع قرأ عبد الناصر خطابًا آخر تم وضعه في الصندوق من نفس الرجل يخبر الحسين أنه قد وصلته 100 بس وعبد الناصر أخد الـ 100 جنيه لنفسه... وطالب أن يرسل له الباقي مع (حد تاني) غير عبد الناصر... وكانت المرّة الوحيدة التي سُمع فيها عبد الناصر يضحك بصوت عال، وأمر له بمائة جنيه أخرى!"؟
المريح في حالة صاحب "جسور خفيّة"، وفي شذرات الكتابة عنه، أن بإمكانك أن تفعل كل ما تقدم، أو أن لا تفعل أي شيء منه، أن تتمدّد على سجيّتك، أو تهْجس بموّالٍ نشاز، أو تتلو على مسامعه قصة متواضعة، واثقًا أن نظرة عتب واحدة لن تأتيك من صوبه، ولا إشارةٍ من إشارات تقليل الشأن.
وصفه شقيقه الشاعر غسان زقطان بأنه "حارس العائلة" هامسًا له، فلا يجوز القول بين يدي زهير إلا همسًا: "فطرتَ قلبي يا أخي".
من ديوانه الثالث "سكن متبادل" (2012) الصادر عن دار ميريت القاهريّة، نختم بمسكٍ من زهير:
"فأتعبني ركضًا وراء
لهاثه
وطاردني طيفًا بما كان...
............
بكهربائهِ التي توقفت
عن بث
شهقة اشتعالنا
برغم لمسة الأصابع
الأليفة التي غدت
من لهجة
الأزرار،
بالزجاج
حين لم يعد تفتحا...
...........
حكاية انبعاثها على ارتفاع
رحمة الإطباق
واليديْن،
بكل ما نوى للسر
أن يقوله الدليل،
تكاملت في الظل
لوعة المكان
عندما تنبهت بنا
حقائب الرحيل".
حافظ صاحب "فصول قلقة" على الحياد التام والحياء العام، تاركًا كل صيْرورات جيليّ ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته في المشهد الشعريّ المحليّ والعربيّ تعتملُ وحدها، وتمارس (تلك الصيرورات)، وحدها، كل مراهقاتِها تسابقًا، أو تخندقًا مع/ أو ضد قصيدة النثر، أو تناصًّا، أو تلاصًّا، أو مكائد، أو مصائد، أو ملاحقةً للطرائد.
من مخيّمٍ في الخليل، إلى مخيّمٍ في غور الأردن، من عروبة إلى كرامة، سَنْسَلَ الباحث عن مكان له ولشعبه تحت الشمس، مفردات مغايرتِهِ برويّة مُتوارية، وبصيرةٍ صموتةٍ متنحيّةٍ، لا يريد سوى تقشير كل شيء من زوائده؛ القصيدة من زخارِفها، الجهاد من صهيلِهِ، الوجد من حسيّته، سعيَ الرزق من وحوشيّته (عمل مدرسًا حيث أقل ساعات العمل وأكثر عُطل السنة)، الصداقة من قيودِها والكتابة من شعبويّتها.
عن التقشيرِ يقول الشاعر والناقد والأكاديميّ محمد عبيد الله: "في الشعر كان زهير يكثّف الجُمل والكلمات، يقشّر الفقرات ويُسقط كلَّ ما لا لزوم له. ما من شاعر معاصر انتمى إلى روح الشعر مثلما فعل الراحل العزيز، لم تكن تعنيه الشهرة، ولم ينشغل بما انشغل به غيره من قضايا ومشكلات، كان همه متّجهًا إلى جوهر الشعر لا إلى قشوره...". ثم ما يلبث عبيد الله أن يقول: "رحل زهير زقطان المعلم والشاعر والناقد... رحل الإنسان النبيل الذي سنظل نتذكّره ونستعيد بزهوٍ أننا عرفناه وتعلّمنا منه، في كلامه وصمته، في غيابه وحضوره"، واصفًا إياه بأنه: "الفرع الجميل من شجرة آل زقطان الوارِفة".
أما الشاعر أحمد الكواملة فيرى أنه "الفرع الأكثر حكمة والأعمق رؤية والأرهف حسًّا في شجرة آل زقطان المبدعة".
بانسيابيةٍ يبدو أنها لا تتأتى لغيرِه، تتجلى إشراقات زهير الجمالية والنفسية والإنسانيه كارجةً من دون صخب، حادبةً على قطّة البيت، وأُصص الشرفة، ومواعيد القطار الذي لا يجيء.
هل نطرق أبواب صوفيّته؟ إذ لا بدّ لكلِّ متناولٍ حياة زهير وشعره ومشاعره، من التقاط التماعاتها (تلك الصوفيّة الخاصة)، في نظرته ونظّارته، في شعاع الأثير الذي يرخي فوق محيّاه برزخ الصمت المحاكي عالمًا آخر غير الذي نقضي حياتنا نتصارع داخل حدودهِ المحدودة، في حين يبدو أن الشاعر الراحل عثر على وميض المطلق من بين براثنِ الحدود والقُيود.
هل نبحث معه عن ثنايا الغبار الذي يطوّق البيوت والخِيام ومكامِنَ الهِندام؟
هل نتأمّل في حضرته، أو حضرة غيابه، المعنى الروحيّ للكائنات والأشياء؟
هل نتأسّى معه على العمر الذي إذا به "ظلٌّ مضى/ في صيف بهجتنا/ فاستغفل الشجر العاري/ بقايانا/ وأصبح الليل عشا/ فيه موعدنا/ لما غذا السر/ من تقوى خطايانا"؟
هل نرثي معه المدينة التي "لم تعد طفلةً/ منذ أكثرِ من شارةٍ/ للمُرور"؟
هل (نلْطش) من صفحته الفيسبوكية (نكتة) مصرية عن "فلاح مصري بسيط وضع في صندوق مسجد سيدنا الحسين رسالة للحسين (بن علي رضي الله عنهما)، وكتب فيها أنه يحتاج 200 جنيه، وهو مبلغ ضخم في فترة (الستينيات) من أجل جهاز ابنته وكتب اسمه وعنوانه في الرسالة... وصادف ذلك صلاة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر للجمعة بالمسجد، فأمر بعد انتهاء الصلاة بفتح هذا الصندوق وقراءة ما فيه بعد معرفته بأن بُسطاء الشعب يرسلون شكواهم للحسين في هذا الصندوق . بعد قراءته للشكاوى والطلبات من جملة ما قرأه رسالة الفلاح الفقير... فأمر له بــ 100 جنيه من خزينة الرئاسة... فأوصلوا المبلغ إليه وقالوا له: دي من عبد الناصر ردًا على رسالتك للحسين...!! بعد أسبوع قرأ عبد الناصر خطابًا آخر تم وضعه في الصندوق من نفس الرجل يخبر الحسين أنه قد وصلته 100 بس وعبد الناصر أخد الـ 100 جنيه لنفسه... وطالب أن يرسل له الباقي مع (حد تاني) غير عبد الناصر... وكانت المرّة الوحيدة التي سُمع فيها عبد الناصر يضحك بصوت عال، وأمر له بمائة جنيه أخرى!"؟
المريح في حالة صاحب "جسور خفيّة"، وفي شذرات الكتابة عنه، أن بإمكانك أن تفعل كل ما تقدم، أو أن لا تفعل أي شيء منه، أن تتمدّد على سجيّتك، أو تهْجس بموّالٍ نشاز، أو تتلو على مسامعه قصة متواضعة، واثقًا أن نظرة عتب واحدة لن تأتيك من صوبه، ولا إشارةٍ من إشارات تقليل الشأن.
وصفه شقيقه الشاعر غسان زقطان بأنه "حارس العائلة" هامسًا له، فلا يجوز القول بين يدي زهير إلا همسًا: "فطرتَ قلبي يا أخي".
من ديوانه الثالث "سكن متبادل" (2012) الصادر عن دار ميريت القاهريّة، نختم بمسكٍ من زهير:
"فأتعبني ركضًا وراء
لهاثه
وطاردني طيفًا بما كان...
............
بكهربائهِ التي توقفت
عن بث
شهقة اشتعالنا
برغم لمسة الأصابع
الأليفة التي غدت
من لهجة
الأزرار،
بالزجاج
حين لم يعد تفتحا...
...........
حكاية انبعاثها على ارتفاع
رحمة الإطباق
واليديْن،
بكل ما نوى للسر
أن يقوله الدليل،
تكاملت في الظل
لوعة المكان
عندما تنبهت بنا
حقائب الرحيل".