Print
دارين حوماني

في رحيل الياس خوري: صَمَت بعد كسر "تروما" الفلسطيني

17 سبتمبر 2024
هنا/الآن

الموت، تلك الفكرة القاسية التي تأخذ معها الكثير، ليس جسدًا فحسب، بل ثمة ما يتصل بمسافة واسعة من الوجود، بأشياء لا يمكن عدّها على الأصابع. هو الياس خوري الذي يشبه رحيله فقدان جزء من الوطن، ثمة فقدان يخترقنا ونحن نتحرّك حول فكرة موته الذي كان يشعر به منذ زمن وهو يقول لي في حوار أجريته معه قبل أربع سنوات: "الإنسان في عمري يصبح قريبًا جدًا من الموت وتصير الكتابة بالنسبة إليه حوار الموت معه"، هكذا كانت الكتابة بالنسبة إليه وهكذا يرحل ونحن نتحسّس الحياة فلا نميّزها إن كانت موتًا أم حياة... وها هي فلسطين التي يتركها على وجعها منذ ولدت نكبتها ومنذ ولد هو عام 1948، يقول لي: "عندما كتبت ‘أولاد الغيتو‘ عن مجزرة اللّد اكتشفتُ أنها سقطت في نفس اليوم الذي وُلدت فيه، في 11 تموز/ يوليو سقطت، وأنا ولدت في 12 منه، خُلقت بالحرب وعشت في الحرب ويبدو سنموت في الحرب"... وقد تحققت نظرتك يا الياس، إذ ترحل وفلسطين تزداد وجعًا، وأنت المنتصر لها والمؤرّخ لوجعها على طريقتك، وكنتَ تجوب مدنها وقراها في خريطة رواياتك ومقالاتك، ليس لأنك فلسطيني ولا لأنك يساري ولا لأنك أيديولوجي كما اتُهمت ذات يوم، بل لأن الهوية الإنسانية هي هويتك، "أنا لست متعاطفًا مع القضية الفلسطينية، أعتبر القضية الفلسطينية قضية إنسانية، وهي أكبر قضية إنسانية بزمننا وبالتالي فهي تمسّني شخصيًا"، يقول لي...

كان خبر رحيل الياس خوري يوم 15 أيلول/ سبتمبر متوقعًا وهو الذي يتألم منذ 15 شهرًا أمضاها بأغلبيّتها في المستشفى، وبدون أن تتوقف زاويته الأسبوعية في صحيفة القدس العربي إلا قبل أقل من شهر، وهو الذي كان يدور فيها حول الألم الفلسطيني. وفي مقالاته الأخيرة كان يحكي كأنه يبكي؛ يقول في مقاله "إيقاع الفتنة" بتاريخ 29 تموز/ يوليو 2024 عن بيروت في ذكرى انفجار مرفئها:

"قالت: أين سنذهب بعد الخروج من المستشفى؟

قلتُ لها: إلى بيروت.

- نحن في بيروت.

-لا، هذه ليست بيروت. هذه أحد أشباح بيروت، وأنا أريد المدينة لا أشباحها. كيف تستطيع مدينة أن تتحلل بهذه السرعة وقد اقتضى بناؤها عشرات السنين؟

نحن أبناء الحرب الأهلية التي لم تنته إلا على شكل احتمالات حرب. نحن عشنا لأننا بكينا كثيرًا وصبرنا وحوّلنا دموعنا إلى وسائد لرؤوسنا".

وقبل أسبوعين من مقاله عن بيروت، بتاريخ 15 تموز/ يوليو 2024، سيكتب في مقاله "عام من الألم":

"فوجئت أنني قابع في سريري في المستشفى منذ سنة كاملة. حياة من الألم الذي لا يتوقف إلا أمام ألم جديد، كأن الإنسان مصنوع من مواد متقاطعة ألمها يعيد صوغ حياته. ما كان لي أن أشكو، وأنا لا أشكو. لكن كمية الألم تفتت الصخر وتجعل الحياة تفتقد المعاني... في حياتنا اليومية العادية، علينا أن نبحث عن المعنى. أما في حياة الألم، فعلينا أن نصنع المعنى. وعندما أنهض من النوم لأكتب مقالي الأسبوعي ينفجر فيّ ألمٌ مضاعف كأنني ارتكبت كل الخطايا وكل الجرائم منذ فجر التاريخ... هل أستطيع أن أفكر برأسي بينما جسدي يتمزّق؟ ورغم كل ذلك، فأنا لم أفقد الأمل ولا الشجاعة. كيف يفقد الشجاعة من امتزجت تجربته بالتراب منذ بداية المقاومة الفلسطينية؟ غزة وفلسطين تُضربان بشكل وحشي منذ ما يقارب العام أيضًا، وهما صامدتان لا تتزحزحان. إنهما النموذج الذي أتعلم منه كل يوم حب الحياة".


هكذا يقترح علينا الياس خوري الأمل فوق الألم، الأمل المستمدّ من صمود الغزّاويين التاريخي، وهو "الوقت المقاوم" كما يسمّيه، لكن أوقات الياس خوري كانت كلها مقاوِمة منذ التاسعة عشرة من عمره، يوم حمل قلبه الحزين بعد هزيمة عام 1967 واتّجه إلى الأردن ليلتحق بالفدائيين في الأغوار الأردنية، ثم سيترك الأردن بعد أحداث أيلول الأسود عام 1970 ليعود إلى بيروت ثم إلى فرنسا ليكمل دراسته في التاريخ. ومنذ عودته إلى بيروت، انضمَ إلى مربّع الكتابة في العديد من الصحف والمجلات اللبنانية والفلسطينية ويبدأ بكتابة أولى رواياته عام 1975 "عن علاقات الدائرة". وستتوالى أعمال الياس خوري الإبداعية، الروائية والقصصية والمسرحية، التي ستجعل من فلسطين مكوّنًا مرئيًا أمام العالم في وقت كان الجميع ينسحبون من حولها، ألم يقل عباس بيضون عنه: "الفلسطيني لا يُذكر في الرواية اللبنانية باستثناء أعمال الياس خوري". وإذ نرى خوري يقف في فيلق واحد بين غسان كنفاني ومحمود درويش في تمثيلهما الحزن الفلسطيني أدبيًا، لتقول غولدا مائير عند استشهاد كنفاني "لقد تخلّصنا من فيلق فكري مسلّح"، وبهذا المعنى، كان الياس خوري مناضلًا بفكره، وعلى طريقته، وإذ بشمسه تشّع عبر روايته "باب الشمس" (1998) التي أدخلته إلى العالمية وتحولت إلى فيلم سينمائي، تكلّم فيها عن وجع فلسطين من خلال قصة حب، لكنه تكلّم كمن يتكلّم بديلًا عن صمت الضحايا. وفي عام 2016 ستأتي رواية "أولاد الغيتو" "كنصّ أدبيّ مكمّل لرواية ‘باب الشمس‘ وكوثيقة دفاع عن هذا الصمت"، كما يقول الناقد أنطوان شلحت في مقالته "ماذا يخفي الصمت"؟. ويعود شلحت في هذا المقال إلى رواية كنفاني الأولى "رجال في الشمس"، التي دان فيها صمت الفلسطينيّ على ما يحيق به من عذاب عربيّ من طريق دعوته إلى دق جدران الخزّان كفعل احتجاج ضد هذا العذاب، ويذكر شلحت كيف تناول خوري مسألة صمت الضحايا "المسألة ليست فقط جريمـة تهجير الفلسطينيين من أرضهم، لأن جريمـة أكبر جاءت بعدها، هي جريمة فرض الصمت على شعب كامل. ولا يدور الحديث حول الصمت الذي يلي ‘التروما‘ في لغة علماء النفس، بل عن الصمت الذي فرضه المنتصر على المهزوم بقوة لغة الضحيّة اليهوديّـة التي سادت في العالم، أي في الغرب، بعد جرائم الحرب العالمية الثانية بما في ذلك المحرقة النازيّـة. وتضيف الشخصية ذاتها أن أحدًا لم يسمع في ذلك الوقت أنين الفلسطينيين الذين كانوا يموتون ويُشردّون بصمت، ولذا جاء الأدب كي يصنع للضحية لغتها الجديدة"؛ بهذا المعنى كان الياس خوري يتكلم عن الجثث، عن الأموات، وعن الأحياء الذين لا يحيون، وعن كثيرين صمتوا أو لم يكن لهم صوت لبثّ مآسيهم على الورق وكانوا بحاجة لقصّ حكاياتهم.

والمفارقة أن آخر ما كتبه الياس خوري كان مقالًا بعنوان "تروما" بتاريخ 19 آب/ أغسطس 2024، استعاد فيه حكاية أحد الأطفال الفلسطنيين في "غيتو اللد"، يقول إنه ذكرها في روايته "أولاد الغيتو" وكان الطفل يشكو من آلام حادّة في ظهره ولا يحكي عن ألمه، ولما مرّ طبيب الأونروا وفحصه، قال الطبيب "هذه التروما ولا يوجد أي شيء بيولوجي هنا. فصار لصغير الغيتو اسمان: اسمه الحقيقي وتروما".

منذ عودته من الأردن إلى بيروت عام 1970، انضمَ الياس خوري إلى مجلة "مواقف" ثم "شؤون فلسطينية" بالتعاون مع محمود درويش ومحرّرًا لسلسلة "ذكريات الشعب" الصادرة عن مؤسسة البحوث العربية في بيروت بين عامي 1980 و1985، وتولى إدارة تحرير مجلة "الكرمل" بين عامي 1981 و1982، كما كان مدير تحرير القسم الثقافي في صحيفة "السفير" من 1983 إلى 1990، وكذلك ترأس ملحق النهار الثقافي من عام 1992 إلى عام 2009، وكان يكتب في صحيفة القدس العربي بشكل أسبوعي منذ عام 1992، وترأس تحرير مجلة "الدراسات الفلسطينية" حتى رحيله. وكان خوري أستاذًا جامعيًا لمادة الكتابة الإبداعية في عدد من جامعات بيروت وفي جامعة كولومبيا التي درّس فيها إدوارد سعيد، وكان سعيد من ساهم بذلك.


كما كتب خوري أعمالًا مسرحية، وكان مديرًا فنّيًا لـ"مسرح بيروت" بين العامين 1992 حتى 1998. يقول المخرج روجيه عساف بأن الياس خوري أعاده إلى المسرح في عام 1993 مع "مذكرات أيوب" التي كتبها عن شخصية واقعية خيالية اسمها أيوب وقام روجيه عساف بإخراجها على خشبة مسرح بيروت. يقول خوري بأن أيوب هو الذي قاتل في صفوف جيش الإنقاذ خلال حرب النكبة عام 1948، وساهم في معركة استقلال لبنان عام 1943، وكان صوت بيروت المقاوم خلال الحصار الإسرائيلي الطويل للمدينة عام 1982، وكتب بخط يده شعارات الصمود والمقاومة والسخرية من جيش الاحتلال الإسرائيلي على حيطان المدينة المثقوبة بالرصاص والقذائف. وفي عام 1993، في الذكرى الخمسين لاستقلال لبنان، وجد أيوب نفسه وحيدًا في مقاومة فقدان الذاكرة الجماعي الذي احتلّ بيروت بعد اتفاق الطائف وقانون العفو العام ومشروع الهدم والإعمار. رجل كهل قرر أن يقاوم ممحاة كبيرة تريد أن تمحو ذاكرة بيروت ومعناها.

آمن الياس خوري بثورة تشرين 2019، قبل أن تعمل قوى المحو على تقطيعها، وفي إحدى مسيرات الانتفاضة سيلتقي بروجيه عساف وربيع مروّة الذي أدّى دور أيوب في المسرحية، يقول خوري: "شعرت حين التقيت الأيوبين معًا أن علينا نحن الثلاثة أن نعيد ترتيب أرواحنا وذاكرتنا كي تتأقلم مع نبض ثوري يصنعه جيل شاب قرر أن يبني لنفسه ذاكرة جديدة. وقلت في نفسي إن لحظة الانفعال التي شعرتها مع الأيوبين كانت مجرد حنين إلى ماضٍ علينا أن نطويه بعناية، ونتركه يصير ذاكرة صامتة. لكن يبدو أنني كنت على خطأ، فأيوب والحكايات المرتبطة به أو بمن يشبهونه ممن بنوا ثقافة المقاومة ليست مجرد ماضٍ علينا أن ننساه، بل هي جزء من احتمالات الحاضر".

ولخوري العديد من الدراسات النقدية والبحثية، منها "الذاكرة المفقودة: دراسات نقدية" (1982)، "دراسات في نقد الشعر" (1986)، "تأملات في شقاء العرب" (2005) الذي اشترك في تأليفه مع الراحل سمير قصير وآخرين، و"محمود درويش وحكاية الديوان الأخير" (2009).

 كما نشر إلياس خوري مجموعة قصصية بعنوان "المبتدأ والخبر" (1984) وست عشرة رواية، منها، "الجبل الصغير" (2003)، "رائحة الصابون" (2007)، "مملكة الغرباء" (2007)، "يالو" (2012)، "المرايا المكسورة: سينالكول" (2012)، وثلاثية "أولاد الغيتو": "اسمي آدم" (2016)، "نجمة البحر" (2019)، و"رجُل يشبهني (2023) وهي الرواية الأخيرة له؛ استدعى فيها شخصيات شكّلت وعيه بالقضية الفلسطينية وشخصيات من روايات سابقة منها خليل أيوب من رواية "باب الشمس"، وأيضًا إحدى شخصيات رواية "ملجأ" للروائي اليهودي من أصل عراقي سامي ميخائيل.

وتُرجمت روايات إلياس خوري إلى أكثر من 15 لغة وحازت روايته "باب الشمس" على "جائزة فلسطين الكبرى"، وتمّ اقتباس الرواية للسينما مع المخرج يسري نصر الله، كما فاز مترجم الرواية إلى الإنكليزية همفري ديفيز بجائزة بانيبال الأدبية في عام 2006. وحاز خوري على وسام جوقة الشرف الإسباني في عام 2011 وتوّجته اليونسكو بجائزة الثقافة العربية لعام 2011 وفي عام 2016 حاز على جائزة كتارا عن عمله "أولاد الغيتو" كما حاز على جائزة محمود درويش في دورتها السابعة.

لكن خوري ورغم سعادته لنيله جوائز عربية وعالمية عن أعماله، إلا أنه سيخبرني عن سعادته الحقيقية عند سؤالي له عن اتهامه بالسعي لنيل جائزة نوبل عقب مقابلة أجرتها معه صحيفة "هآرتس" بعد ترجمة "باب الشمس" للعبرية، يقول: 

"أهم تجربة في حياتي ولم تحدث مع أحد، أنه في عام 1994 توجّهت مجموعة من الشباب الفلسطينيين من الضفة ومن الجليل إلى منطقة استيطانية شرقي القدس اسمها E1 ووضعوا الخيام وأسّسوا قرية سمّوها ‘باب الشمس‘ وأقاموا سهرات نار وقرأوا من رواياتي كعمل احتجاجي على الاستيطان الإسرائيلي، جاء الإسرائيليون وهدموا القرية واعتقلوا الشباب الذين قاوموهم. لأول مرة أرى أدبًا يصير واقعًا، ما أعرفه أن الواقع يصير أدبًا لكن هنا حدث العكس. قلتِ لي نوبل؟ هذه هي جائزة نوبل بالنسبة لي، جائزة لكتابي بأن يتحوّل إلى اسم قرية".  

تلك كانت جائزة الياس خوري، الاستثنائي في زمنه، والذي يقف اليوم مع أولئك الخالدين الذين يرحلون ولكنهم لا يرحلون، وأنا أراه وهو ينظر إلينا من بعيد ويقول من مكانه الأخير ما قاله الشاعر الياباني باشو:

"كم من الليالي

وأنا أسافر ولم أمت بعد-

نهاية الخريف...".

فمثل الياس خوري لا يموتون.