Print
الجزائر- سارة جقريف

بدعوى "عدم احترام القيم": محاكمة نصوص أدبية والتشهير بكتّابها

20 سبتمبر 2024
هنا/الآن

تحوّلت مواقع التواصل الاجتماعي في الجزائر مؤخرًا إلى منصات لمحاكمة نصوص أدبية والتشهير بكتابها ومهاجمة دور النشر الصادرة عنها، بدعوى عدم احترام القيم الأخلاقية للمجتمعات العربية المحافظة، في ظاهرة جديدة دفعت بعض الأدباء إلى التهديد بمقاضاة من يقفون خلف نشر صفحات من كتبهم وإخراجها عن سياقها وتحريض القراء ضدهم، في حين وجد آخرون أنفسهم مجبرين على الخروج والرد على ما يتم تداوله حول أعمالهم وتبرير ما جاء في نصوصهم، وهناك من طالبوا باستحداث مؤسسات ومجالس ثقافية لحماية الكتاب والأدباء والدفاع عنهم ومحاسبة من يتعمدون محاكمتهم أخلاقيًا، والذين قد يدفعونهم إلى ممارسة الرقابة الذاتية على إنتاجهم الفكري والأدبي. 

من "هوارية" إلى "سقوط": محاكمة الروايات

قبل أن يختفي الجدل حول رواية "هوارية" وقبل أن تنتهي محاكمة صاحبتها، الكاتبة إنعام بيوض، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، انتشرت صفحات من رواية "سقوط" للكاتب الجزائري وليد الأسطل، وتحولت إلى موضوع محاكمة بدعوى توظيف الكاتب للجنس والإباحية وعدم احترام بيئة وقيم القارئ العربي وبتواطؤ مع دار خيال للنشر.

وبدأت التعليقات والمنشورات الفيسبوكية مجدّدًا في مهاجمة الكاتب، والتساؤل لماذا يصرّ الروائيون على توظيف مشاهد جنسية لا معنى لها ولا تضيف شيئًا للسرد وجمالياته، كما يصرون على تحطيم النماذج العليا والذوق الجمالي. وهناك من اعتبر الأمر ركوبًا للموجة واتهم الكاتب بأنه يحاول صنع الحدث، خاصة وأنه مقيم في فرنسا. وهاجم مستخدمو الفيسبوك دور النشر واتهموها بالتهافت على نشر الأعمال الأدبية بدون مراعاة القيم والأخلاق، ودعوتها لممارسة الرقابة على ما يصلها من كتب قبل طباعتها، ووضع معايير أخلاقية صارمة للنشر، واعتبار كل نص يحتوي على مشاهد حميمة خروجًا عن قيم المجتمع وأخلاقياته، وتصنيفه كمحتوى غير لائق يسيء إلى ذوق القارئ.

وفي موقف مخالف، عبّر متفاعلون آخرون عن تخوّفهم من الضغوط الممارسة عبر مواقع التواصل الاجتماعي على دور النشر والكتاب التي من شأنها دفع الناشرين إلى ممارسة الرقابة على الأعمال الأدبية التي تصلحها ومحاكمتها أخلاقيًا قبل نشرها والحدّ من حرية الكتابة الإبداعية ودفع الكتّاب إلى ممارسة الرقابة الذاتية على أعمالهم وتقييدها لإرضاء رواد مواقع التواصل الاجتماعي، ولو كان ذلك على حساب جمالية النص ورسالته.

تشهير أو دفاع عن الأخلاق والقيم؟

وبينما يرى البعض أن ما يتعرّض له الكتاب من هجومات عبر الفيسبوك تشهير لا علاقة له بالنقد الأدبي البناء، وأن من يقفون خلفه ليسوا من القراء وإنما مجرد أشخاص همّهم تداول صفحات من الكتب وإخراجها عن سياقها ومهاجمة أصحابها لتحقيق التفاعل والظهور بثوب المدافعين عن الأخلاق، يرى آخرون أن ما يقومون به ليس تشهيرًا، وإنما هو دفاع عن أخلاقيات الأدب والنشر، عن طريق فضح نماذج ما وصفوه بـ"الانحدار الأدبي"، مبرّرين ذلك بالتأثير السلبي المتوقع لهذه النصوص الأدبية على القراء ومساهمتها فيما وصفوه بـ"تدني الذائقة الأدبية" لدى الجيل الجديد، وتشجيع المزيد من الكتاب على اتّباع منهج الإثارة الجنسية في مؤلفاتهم.

وأمام موجة الانتقادات التي طاولت رواية "سقوط" وقبل ذلك رواية "هوارية" ونصوصًا أخرى، واتهام الكاتب وليد الأسطل بأن نصه يفتقر إلى هدف نبيل أو رسالة إيجابية بل يسعى للإثارة على حساب القيم الأدبية الرفيعة، في محاولة تحطيم النماذج العليا وتقديم صورة مشوهة للواقع، بعيدة عن الأصالة والهوية الثقافية، نشر الناقد التونسي عمار بلخضرة قراءة في الرواية تفنّد الاتهامات السابقة، مؤكدًا أن رواية "سقوط" للكاتب الأسطل رواية بوليسية بامتياز، لهذا يجب أن يتم التعامل معها على أنّها رواية بوليسية غربية كتبت بلغة عربية علّها تكون منفذًا لتأصيل هذا الجنس الأدبي في البيئة العربية التي لا شكّ بأنّها تطورت في تشريعاتها وقوانينها وتنظيم مجتمعاتها ما يقرّبها إلى الأنظمة الغربية التي أنتجت ذلك الأدب.

وأوضح الناقد أن ما جاء في الرواية مسألة إبداع صرف وقدرة عظيمة على التخيّل والخلق، وأن القارئ لا يستطيع هجر النص وتركه إلاّ بعد إتمامه، ويمنّي النفس بألاّ ينتهي وإن انتهى فإنّه يحس بالفراغ، على حدّ تعبير القاص والشاعر الطيب صالح طهوري معلّقا على رواية "سقوط". وكتب عمار بلخضرة أن "الحسن فاعل قصصيّ في نص وليد الأسطل إذ هو جامع بين أهمّ الشخصيات في الرواية، بل إنّه تحول في بعده المادي الجنسي قضيّة أساسية ارتكزت عليها الرواية. ولست أعتقد أنّ الكاتب ههنا جاء ليستعرض علينا مشاهد جنسية مثيرة بقدر ما كان يهفو إلى توظيف تلك المشاهد في تواتر الأحداث وتتابعها في بناء أحداث مثيرة كان الجنس محرّكًا رئيسيًا لها، لا سيما ونحن أمام رواية غربيّة المشهد والمظهر، تنتسب وقائعها ضرورة إلى مجتمع غربيّ له تقاليده وعاداته ونظرته الخاصّة إلى الجنس والعلاقات بين الأفراد على اختلاف أجناسهم، نظرة تختلف جذريا عن واقعنا العربي الإسلاميّ الذي لا يقبل أبدًا بالمثليّة مثلًا في حين يُدافع عنها الغرب دفاعًا مستميتًا، حيث بلغ به الأمر إلى إحداث تشريعات كثيرة تحمي هذه الفئة وتُدمجها في الواقع".

انتشرت صفحات من رواية "سقوط" للكاتب الجزائري وليد الأسطل، وتحولت إلى موضوع محاكمة بدعوى توظيف الكاتب للجنس والإباحية!!!


ويضيف الناقد صراحة: "أعتقد أنّه من التجنّي أن نتّهم الكاتب بالتّشريع لإباحيّة يلفظها الواقع العربي لأمر بسيط وهو أنّ الجنس في الرواية لم يُذكر عَرَضًا وإنّما كان فاعلًا قصصيًّا مهمًّا حرّك الأحداث وطوّرها في اتّجاه تعقيدها فحلّها. أليس الجنس سببًا رئيسًا في فتور العلاقة بين لويز وفرانسوا؟ أليس الجنس هو الذي مكّن قاتل دوروتي من إخفاء جريمته بإحكام كبير؟ الحقيقة أنّ القراءة السطحيّة المتسرّعة تجعلنا نقرأ النصّ على أنّه ترويج للإباحيّة الغربية وتأصيل لها، إلاّ أنّ القراءة المتأنّية المعمّقة تجعلنا نقف أمام نصّ ذي رؤية واضحة على غير ما يعتقد البعض، تتجلّى في إنكاره لتلك الإباحية الغربية الموغلة في التحرّر وذاك ما يدلّ عليه العنوان صراحة "سقوط". إنّنا أمام سقوط أخلاقيّ غربيّ فظيع ليس أقلّ حدّة من سقوط شخصيّات الرواية في سوء المصير".

الهجوم والمحاكمة تدفع الكاتب إلى الرد

خرج الكاتب وليد الأسطل عن صمته، عقب الهجوم الذي تعرّضت له روايته "سقوط"، ونشر ردًّا، يوضح فيه أن روايته بوليسية تدور أحداثها في الغرب، كما أن كل شخصياتها غربية، تتناول مسألة الإباحية أو الانفتاح الجنسي في الغرب، مما استوجب كتابتها بنفس غربي صرف. وأوضح أن توظيفه لمشاهد جنسية كان بطريقة فنية، وضرورية وصحية لتستقيم الرواية، وتأتي مقنعة.

وكتب الأسطل: "لكن يبدو أن هناك من نظر إلى المشاهد الجنسية بمعزل عن هدف الرواية، المضاد للإباحية. إنها رواية تقوم بتعرية الإباحية ورسم مآلاتها الوخيمة. ولا أدل على ذلك من العنوان الذي اخترته لها، "سقوط"، في إشارة مني إلى سقوط الغرب أخلاقيًا. كما أن نهاية الرواية أشبه بالكابوس، وهذه إيماءة، تقول الكثير. تقول إن الحضارة الغربية مصيرها للزوال ما لم تصحح من خط سيرها الأخلاقي. لقد قلت كل هذا، ولكن بشكل فني إيمائي، لا بشكل وعظي مسجدي".

وأكد الكاتب أنه "لا يمكن تناول السعار الجنسي الغربي الرهيب في بداية القرن الواحد والعشرين باللغة والأسلوب اللذين كان يكتب بهما جبران أو المنفلوطي عن الحب العذري في بداية القرن الماضي". وجاء في ردّه، أن شخصًا مهووسًا لا يكف عن مهاجمته، واتهمه بأنه لم يقرأ روايته أبدًا، وأن هناك من سرّب له صور صفحات قليلة جدًا منها. وأشار إلى أن الرواية البوليسية الخالصة في عالمنا العربي شبه منعدمة، رغم زعم البعض كتابة رواية بوليسية وهي ليست كذلك. واستنكر الكاتب في ردّه أن النقاد العرب لا يحكمون على أي رواية بالأهمية إلا إذا كانت ذات حمولة فلسفية أو معرفية كبيرة، معتبرًا ذلك خطأ، فلو اعتمدنا، حسب رأيه، معيارهم لما اعتبرنا أغاثا كريستي روائية كبيرة، كون رواياتها تفتقر إلى هذا المعيار الذي يشترطه "نقادنا الميامين" كما وصفهم.

ودعا الأسطل إلى أن يتم التعامل مع روايته بالنظر إلى الفئة التي تنتمي إليها، مشيرًا إلى أن غالبية من كتبوا الرواية البوليسية في عالمنا العربي، وقعوا في مطب شحن رواياتهم بالأيديولوجيا - بمفهومها الكبير والمركب، ذلك أنه لا تخلو رواية من أيديولوجيا- أو بأشياء أخرى، أرادوا من وراء ذلك إثبات أنهم من أهل الثقافة والفكر، وأنهم لا يقلّون شأنًا عن الروائيين الذين يكتبون الرواية التاريخية والفلسفية، الأمر الذي جعل رواياتهم "البوليسية" إما "زفتًا وقطرانًا"، أو تاريخية، مثلًا، بنكهة بوليسية.
في ظل ما سبق، توضح الناقدة الجزائرية سعاد حمداش لـ"ضفة ثالثة" أنه قد انبثق في ظلّ التطوّر التكنولوجي أسلوب جديد للحياة منح الظاهرة الأدبية تجلّيًا حسيًّا لوظيفة اللغة التواصلية؛ فأصبحت شبكات التواصل الاجتماعي قطاعًا جديدا ناقلا للكتب؛ هذا الفضاء الذي يعمل على تجسيد إشارية المعنى بوصفها البعد العاملي لسردية الحدث الثقافي العام لمجالس الأدب المعاصرة، إذ يمكننا اعتبار شبكات التواصل الاجتماعي اليوم فضاءً للاندماج الجماهيري الأنموذجي عبر حسيّة التفاعل التواصلي، ما يجعل من هذه الشبكات مدونة لتسجيل الأثر اللغوي عبر مستوى التعبير، ومن هنا نستذكر قول فيرلين كلينكنبورغ (أكاديمي أميركي) حينما يُفسّرُ "الفعل المزدوج للكتابة باعتبارها تتمفصل عبر اللغة وخاصيتها الخطية الممثّلة في ميزة مكانية- فضائية- إنّها خاصية أساس أصلها في توجّهها نحو القناة البصرية".

وترى حمداش أنّ "شبكات التواصل الاجتماعي لغة بصرية بامتياز، جعلت من العمل الأدبي فعلًا مصوّرًا figuré يبدو بأنّه ذو حمولة مزدوجة ومعقّدة، فيمنح لنا إمكانية إدراك العمل على مستوى التعبير بوصفه سياقا اجتماعيًا بشكل جماهيري".

وتضيف أن فعل التواصل لأدبية الأدب يعمل على تمديد نماذج الأدب بوصفها تجليات بصرية مجرّدة من أدبيتها بوصفها تشكيلًا لغويًا يؤسّس لرؤيا العالم من جديد؛ حيث إنّ قراءة التشعّب المعرفي للتواصل الاجتماعي ورمزيته، تمنح فرصةً جديدة لتمديد الشكل اللغوي للعمل الأدبي ذاته إلى أشكال جديدة قابلة للتعدّد عبر وسائل التكنولوجيا، إنّه قوامٌ جديد للعب بالشكل والهُوية؛ حيث يُعيّنُ هذا الفضاء أنموذجًا للمشاركة الأكثر شمولًا من نوادي الكتب التقليدية، فنكتشف اليوم كتبًا خارج منطقتنا المفضلة المعتادة، فيمنحها ديمقراطية القراءة من خلال تشكيل المشهد القرائي للعالم، فأعتبر هذه المقروئية شكلًا جديدًا للارتجال ومرحلة الشفوية العربية بأسلوبية جديدة، حدّدت الأدب من خلال أثر اللغة الجماهيرية.

وعلى هذا الأساس تعتبر حمداش أنّ فعل القراءة من خلال شبكات التواصل الاجتماعي فعل توزيعي للغة الأدبية، وهذه المقروئية الجديدة تمنح الكتابة ميكانيزم التحويل والتشكيل للعمل ذاته من خلال اللغة البصرية، وهي قراءة تمنح نصًا موَلّدًا، بمفهوم جوليا كريستيفا.