Print
المعطي قبال

أندريه ميكيل.. هكذا كلّمني الشرق

15 سبتمبر 2015
حوارات
في السادس والعشرين من سبتمبر/ أيلول، يتمّ أندريه ميكيل عامه السادس والثمانين. مشوارٌ حافلٌ بالعطاء الفكري في الثقافة العربية. وليس من المبالغة القول إنه آخر المستعربين الفرنسيين الذين أعطوا الثقافة العربية، شفافية جليّة لا في المشهد الثقافي الفرنسي فحسب، بل الغربي أيضًا، من خلال نتاج غزير ومميّز، إذ لميكيل أزيد من ثلاثين كتابًا في مجالات مختلفة؛ الشعر والنقد والفكر والجغرافيا. وهو إلى ذلك مترجم مرموق. اتجه إلى الترجمة للحفاظ على علاقته باللغة العربية حيةً، وبسبب فتنة الشرق التي تسكنه.

* بدايةً نرغب في معرفة دوافع انجذابك واهتمامك بالعالم العربي.

تولد أوّل شغف لي بالعالم العربي في عام ١٩٤٦، إثر رحلة قمت بها إلى شمال إفريقيا حين كنت طالبًا. اكتشفت الضفة الجنوبية للمتوسط من خلال محطات عديدة، قادتني من تونس إلى الجزائر ثم الرباط ومراكش. في البداية كان هذا الانجذاب الأوليّ سياحيًا حيث اكتشفت شرقًا تقليديًا وغرائبيًا. إلا أنه لاحقًا، حين كنت أستعد لمسابقة الدخول إلى "مدرسة المعلمين"، تملكتني رغبة جارفة لتعميق هذا "الاحتكاك" مع العالم العربي، والغوص في مجتمعاته.
وبناءً على ذلك، اقتنيتُ نسخة من القرآن الكريم، مترجمة إلى اللغة الفرنسية. وهي الترجمة التي أنجزها كلود إتيان سافاري.
عندما شرعت بقراءة النص القرآني، انجذبتُ إلى الآيات الأولى، إلى قوّتها الرمزية والإيحائية. بعد ذلك، سجّل مساري صوب العالم العربي، "انقطاعًا" أو فاصلًا طويلًا من الدراسة والبحث، قادني إلى المدرسة العليا للأستذة، École normale supérieure، ثم التحقت ببرنامج المبرّزين باللغة العربية رغم أني لم أكن مستعدًا لذلك حقًا. ومن ثمّ ترددت في الاختيار بين التدريس في الجامعة أو الدخول في السلك الدبلوماسي. ثم سافرت إلى دمشق، حيث عشت تجربة مميزة لمدة عام.

* هل لك أن تسلط المزيد من الضوء على ما سمّيته "تجربتك الدمشقية"؟

في دمشق، هيّأت أطروحة دكتوراه تكميلية. وبناءً على نصيحة من المستعرب المعروف ريجيس بلاشير، الذي أنجز إحدى الترجمات المرجعية للقرآن الكريم، وأضاء الثقافة العربية بدراساته القيمة، أقبلت على الترجمة. أتذكّر أنه قال لي، كي تعمّق معرفتك باللغة العربية وتزيد تمكّنك منها، عليك أن تشرع بالترجمة. هكذا، بدأت بترجمة كتاب "كليلة ودمنة" لابن المقفع إلى اللغة الفرنسية. قسّمت وقتي عند إقامتي في دمشق، بين الترجمة وزيارة المكان. ليس سورية فحسب، بل العراق أيضًا. تجولت فيهما، وهي التجربة التي سمحت لي فهم معنى الشرق بشكل جيد. لذا يمكنني أن أعرّف الشرق باعتباره "أرض الترحاب".
استقبلتُ فيه، لا باعتباري أجنبيًا أو "مستعمرًا جديدًا"، بل كصديق. وفي دمشق انتفض تاريخ بأكمله أمام عيني، التاريخ باعتباره محصلة إنتاج ثقافي ومعرفي، فعايشت عن كثب طبقات التاريخ وذاكرته، بكلّ ما فيهما من بهاء وشقاء.

* ويبدو، أنه بعد سورية، تحوّل "مشوارك المصري" إلى كابوس كافكاوي؟

لئن مثّلت سورية الوجه المضيء في مساري، فقد كانت مصر بمثابة الوجه القاتم، مع العلم أنني أكن لهذا البلد محبة كبيرة باعتباره كان مهدًا لحداثة ما أحوج العالم العربي اليوم إليها. في مصر، سقطتُ ضحية "جنون عظمة" النظام الناصري الذي كان بحسّه العروبي يخاف الثقافة والمثقفين ويشكّ فيهما. كنت قد وصلت إلى مصر لتحضير أطروحة دكتوراه دولة عن "السينما والأدب في مصر المعاصرة"، وكنت أيضًا مبعوثًا من وزارة الخارجية الفرنسية لمهمة ثقافية. وبعد شهرين على وصولي وتحديدًا في يناير/كانون الثاني ١٩٦١، اعتقلتني المخابرات المصرية ووجهت إلي تهمة "التآمر ضدّ نظام جمال عبد الناصر". ومكثت في السجن مدة شهر. كانت تجربة قاسية جدًا، فقد تعرضت للتعذيب النفسي والتنكيل. كان السجن المصري بمثابة غوانتانامو قبل الأوان. بعد أن أطلق سراحي، عدت إلى فرنسا، ولم يتسن لي للأسف التعرف عن كثب على هذا البلد الأخاذ. كلّ ما أذكره منه ؛ زيارة خاطفة للأهرامات، وأمسية في الإسكندرية.

*أكانت هذه الصدمة سببًا في ابتعادك عن مصر؟

بالطبع، إذ إن تجارب مماثلة لا تساعد على الانصهار في "جوانية" البلد الذي ترغب في دراسته أو التعرّف إليه. أبعدني نظام عبد الناصر عن مصر، عبر إلصاقه يافطة "جاسوس" على سيرتي. وأصبح من الصعب بعد هذه الحادثة، أن أعود مرة ثانية إلى مصر. وبناءً عليه، غيّرت خطتي بالكامل. قلت لنفسي، إن كان علي متابعة دراسة اللغة العربية فيجب أن أعود إلى الحقبة الكلاسيكية. وبتوجيه من أستاذي ريجيس بلاشير، عدت سنوات في ما بعد إلى تونس. تولّدت لدي رغبة في التخلي عن دراسة اللغة العربية وعن معرفة العالم العربي بعد هذا الفاصل المصري الذي سميته كافكاويًا. لكنني فكّرت مليًا بعد ذاك، وقلت لنفسي؛ لو أني تخليّت عن العربية واتجهت صوب دراسة الحضارة واللغة الألمانية أو اللاتينية مثلًا، فسيكون ذلك بمثابة انتصار للخصوم. لذا قرّرت متابعة دراسة اللغة العربية. بعدها التحقت بالجامعة بمدينة إيكس أن بروفانس لمدة سنتين، ثم أمضيت أربع سنوات في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا، ثم سنتين بجامعة فانسان، وست سنوات في جامعة السوربون، وأخيرًا في الكوليج دو فرانس.

اقرأ أيضاً: فرانك ميرمييه: "الإسلام السياسي" مفهوم بحاجة إلى هدم

* كان المستعرب الفرنسي ريجيس بلاشير أحد أبرز الوجوه في ذاك الزمان. كيف تعرفت إليه؟ خصوصًا، أنه كان معروفًا عنه بأنه رجل صارم جدي، غير متسامح مع "السطحية"؟

فعلًا، لم يكن بلاشير رجلًا سهلًا. لكن رغم ذلك، نشأت بيننا علاقة تآلف. فقد التقيته وعرضت عليه رغبتي في تعلم اللغة العربية. فأجابني الجواب المقتضب الآتي : "نتحدثّ في الموضوع لاحقًا". إلا أنني حين كنت في "مدرسة المعلمين"، أحطت نفسي بالمعاجم العربية ـ الفرنسية كي أبدأ في ترجمة "نشيد الأناشيد" كاملًا إلى اللغة العربية. وإذ أنجزتها، قصدت بلاشير في أحد الأيام، ممسكًا النص وكلي فخرٌ بما أنجزت. استقبلني بلاشير بطريقة عادية، ولمّا قرأ النصّ قال لي: إنها محاولة تستحق التنويه. احتفظ بلاشير بالنص ولا أعرف مصيره اليوم. ثم اقترح علي، وأنا في صدد الإعداد للشهادة العليا لمدرسة المعلمين، ترجمة نصّ للجغرافي المقدسي. ويمكنني القول إن تعلم اللغة العربية بدأ من هذه اللحظة، لكن معرفتي بها وتعمقي فيها جاءا لاحقًا حين ترجمت "كليلة ودمنة".
وفي ما يخصّ طباع بلاشير، أذكر أن أحد أصدقائي جيرار تروبو، سألني معلّقًا على توجهي لإطلاع بلاشير على ترجمة "نشيد الأناشيد"، قائلًا: ألم يخرجك من مكتبه بركلات؟

* كان الجاحظ وابن المقفع، من بين الأسماء البارزة التي أدّت دورًا مركزيًا في عملك؛ ناقدًا ومترجمًا ومؤرخًا. لم اخترت هذين العلمين؟ وهل كانت مقاربتهما سهلة بالنسبة لك؟

الجاحظ وابن المقفع هما بلا جدل أحد عمالقة الأدب العربي. إذ يمثلان الرهان الذي حملته حضارة بأكملها، وذلك كي تكون حاضرة في زمنها، ومن أجل التأثير في هذا العالم عبر حضورها. بأية طريقة؟ بالانفتاح على الآخر والمساهمة في منظومته، سواء بتقاليده وابتكاراته. أثرى الجاحظ التراث النقدي والسردي والبلاغي العربي، أمّا ابن المقفع فقد أثرى التراث الفارسي ـ العربي والهندي. أدّى الإثنان دورًا تأسيسيًا في النثر العربي. لأن ولادة النثر ترجع إلى عصر الجاحظ وابن المقفع. لكن يجب ألا ننسى أن الثقافة العربية، تبقى في النهاية ثقافة شعر. فحين يرغب العرب بالحديث عن أنفسهم، يكتبون الشعر. لكنهم يكتبون النثر من أجل الانتقال إلى طور الجديّة والواقعية. هناك (في الشعر) الأنا كذات، وهناك (في النثر) الأنا كشاهد. طبعًا لم تكن مقاربة هذين العلمين سهلةً ولا هينة. إنتاج الجاحظ على سبيل المثال، يحتاج وحده لعمل لسنوات طويلة ولعمل جماعي أيضًا. من أجل هذا يعدّ الخوف أو التهيب، الدرجة صفر لأية مقاربة للجاحظ. بدءًا منها، يطرح علاقة الدارس مع الزمن. لأن قراءة نتاج الجاحظ ودراسته يحتاجان إلى عمر بأكمله.
لنعد إلى الشعر، ديوان العرب، الذي يبقى المرآة الصقيلة والبهية للهوّية العربية. منذ البداية أظهرتُ ميلًا إلى نوع بعينه من الشعر العربي، وإلى شعراء مندرجين إمّا في الهامش وإمّا خارج تراثهم التقليدي، وذلك بهدف عقد الصلة مع ما هو عالمي، من خلال مواضيع ؛ الحب، والموت والقلق. فوجدت في العصرين الأموي والعباسي بعضًا من هؤلاء الشعراء الذين يجسّدون هذه العالمية ويمثّلونها. غير أن امرأ القيس شكّل استثناءً دفعني إلى الاهتمام بالعصر الجاهلي. يهمّني مجنون ليلى على صعيد شخصي، أولًا لأنه مجنون، وثانيًا لأنه يمثّل رغبة شخصية لي، فحين كنت مراهقًا انجذبت بشكل قوي إلى الحبّ المستحيل، خصوصًا قصة تريستان وإيزوالت، وروميو وجولييت إلخ… في قرارة نفسي قلت إني مع قصّة المجنون، أنا في حضرة أحد الممهّدين للحبّ المستحيل. فهذا الأخير هو الحبّ المثالي الوحيد، والحب المثالي حبّ مستحيل. هي جاذبية شعر البداوة والصحارى وقد تمثّلت في شخص مجنون. وكان فاتحة لمقاربة قول شعري قويّ ونادر. اقتربت من المجنون لكي أشعر بضيافته وأخوّته. إذ ثمة شعراء يخاطبوننا من بعيد، مرحّبين بوجودنا معهم، لا لشيء إلا لمشاركة القول الشعري.

* جعلت ابن المقفع وسيطًا بين الحضارة العربية والحضارة الهندية والحضارة الفارسية. إذ يعدّ كتاب "كليلة ودمنة" برهانًا على هذه الوساطة التي هي في الوقت نفسه تلاقح ثقافي.

كتاب "كليلة ودمنة" مرآة لعصره. فالعرب الذين لم يبرحوا ثقافتهم القُطرية والقرآنية والشعرية، ينفتحون مع هذا الكتاب على أقطار فكرية أخرى. فها هو نصّ وافد من الهند يمرّ إلى الفرس قبل أن يُترجم إلى العربية. هذا الانتقال في حدّ ذاته هو أمرٌ خارق. كما أن النص يخبّرنا عن المكانة التي كان يشغلها العامل الإيراني في المنظومة الثقافية العربية. لأن رغبة الإيرانيين كانت هي الكتابة باللغة العربية أولًا وقبل كلّ شيء. وقد أدّى الفرس دورهم تجاه العرب على أكمل وجه. ففي العصر العباسي، كان الهاجس الرئيس لدى العباسيين بناء دولة حقيقية وسلالة حاكمة حقيقية. لنرجع إلى "كليلة ودمنة"، إذ من خلل طرحه لمسألة السلطة والقانون والذات، أيكون نصًا علمانيًا؟ أهو نصٌ علماني؟ يبقى السؤال مفتوحًا.

* كتابك "الجغرافيا البشرية للعالم الإسلامي حتى القرن الحادي عشر" بأجزائه الأربعة، أدنى إلى ورشة فكرية أسسّت لعلم غير معروف وغير مألوف، لكنه كان متداولًا في الثقافة العربية الكلاسيكية.

يعود فضل اهتمامي بالجغرافيا البشرية إلى أستاذي ريجيس بلاشير. فقد وجهني إلى هذا الحقل المعرفي، بحجة أنه لم يكن يلقى اهتمامًا من الباحثين. كشفتُ عن قارة الجغرافيين العرب، لا بصفتها قارة معزولة، بل باعتبارها قارة تتداخل فيها عدة تخصّصات وبالأخص تداخل الأدب بالرحلة، وبالجغرافيا والفن. لكن يرجع الفضل إلى الجغرافي أبو العباس أحمد بن إسحاق بن جعفر بن وهب بن واضح اليعقوبي صاحب "كتاب البلدان"، المؤسّس الحقيقي للجغرافية البشرية. فهو الذي زاوج بين الرحلات والأدب. في القرن التاسع إذن، وبفضل اليعقوبي، وابن حوقل، والمقدسي نشأ علم "المسالك والممالك". والعمل الذي أنجزه المقدسي يبقى تأسيسًيا في مجال الجغرافيا البشرية. فقد جمع بين التحقيق الميداني والمعرفة المكتبية. ومن أجل جمع المعطيات وتصنيفها مارس جميع المهن، أي أنه نزل إلى الميدان. وإعجابي بهذا العالِم ليس وليد الأجزاء الأربعة للكتاب، بل سبق وأن ترجمت نصّه البديع: "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" وهو من منشورات المعهد الفرنسي بدمشق عام 1963.
ومن بين أفضال هؤلاء جميعًا أنهم جمعوا بين، ما يسمى اليوم، الإعلام وبين دقة التعبير، بين الجغرافيا الواقعية والجغرافيا المكتوبة. وقد خصصت الدراسة، مكانة مميزة لإخوان الصفا الذين جعلوا الأرض والأشغال اليدوية مرجعيات أساسية في حياة المواطنين. أما أبو محمّد الهمداني، صاحب "صفة جزيرة العرب"، الذي قدّم فيه دلائل على كروية الأرض، فكانت مساهماته في مجال الجغرافيا البشرية مهمة جدًا. هو يعلمنا كيف تجب قراءة النصوص ورصد مشهد ما في النباتات. ورغم أنه كان لصيقًا بالجزيرة العربية ولم يغادرها، إلا أنه خلق صلة وصل وتواصل بين جزيرة العرب والعالم الإغريقي.
وفي فترة لاحقة نلاحظ "انبثاقًا" لمجموعات من الكتب الجغرافية، لكتّاب وجغرافيين يصفون بلداتهم، هذه المجموعات ألّفت إرهاصات المعاجم الجغرافية. لقد قدّم لنا هؤلاء الجغرافيون، من منظورهم وفي زمانهم، بانوراما مميزة للعالم الإسلامي.

* تحتل ترجمة "ألف ليلة وليلة" في نتاجك، مكانة مميزة. إلا أن "الليالي" تحكي أيضًا قصّة الصداقة القوية التي جمعتك مع المفكّر والكاتب والمثقف الكبير جمال الدين بن شيخ (1930ــ 2005)، فألّفتما معًا زوجًا حميمًا لتفكيك معاني هذا التراث الإنساني وترجمته إلى اللغة الفرنسية، ونشرت الترجمة ضمن سلسلة "لا بلياد" الشهيرة، أبرز سلسلة نشر في فرنسا. كيف عملتما معًا في ترجمة هذا العمل الاستثنائي الذي يعدّ مرجعًا أساسًا؟

جمال الدين بن شيخ هو صاحب فكرة ترجمة "ألف ليلة وليلة" إلى اللغة الفرنسية. بن شيخ هو الصديق الذي رحل باكرًا، الذي سيبقى ذكره حيًا. في البداية ،اتفقنا على ترجمة بعض الحكايات التي تعجبنا، ونشرها في سلسلة "فوليو" التابعة لدار النشر العريقة غاليمار. إلا أن الدار أقنعتنا بترجمة "الليالي" كلّها ونشرها ضمن سلسلة "لا بلياد"، هكذا عملنا معًا على الأمر، ثم تابعت وحدي إنجاز الترجمة بعد وفاة بن شيخ. وفي ما يخصّ مسار الترجمة، اتفقتُ أنا وجمال على عدم إعداد مقدّمة نقدية للنص، قد تشحنه بالملاحظات، وبالمراجع والهوامش، إذ إنها عملية صعبة جدًا كما لا يخفى، بسبب غنى الليالي وثرائها. النقطة الثانية التي اتفقنا عليها، كانت في الحفاظ على أبيات الشعر التي حُذفت من جميع الترجمات الأخرى. وذلك بسبب قناعتنا أن القصائد والمقطعات الواردة في "الليالي" تعطي النصّ نكهة خاصّة، ومن الصعب تصوّر "الليالي" وتخيّلها من دون تلك الأشعار.

* في الخامس من أغسطس/آب الماضي، تكون قد مرّت عشر سنوات على رحيل جمال الدين بن شيخ. المفارقة المحزنة، أن ذكراه مرّت ولم تحظَ بأي اهتمام يذكر، لكأن الرجل لم يكن موجودًا، بينما طبع بن شيخ ببصمته الاستثنائية متن الأدب العربي تراثًا وحداثةً، عبر كتبه وأبحاثه وترجماته. كيف تنظر إلى الأمر؟

جميعنا عرضة للنسيان. لكن أن ننسى أو نتناسى مبدعًا وناقدًا من مستوى جمال الدين بن شيخ هو أمرٌ لا يغتفر. يفضّل الناس اليوم تحت سلطة الإعلام القاهرة، متابعة أخبار داعش أو ملاحقة أخبار الـ People، أي النجوم والمشاهير، وفي هذا برهان على سيادة التفاهة في الزمن الذي نعيشه. لقد أسدى جمال الدين بن شيخ خدمات لا تُعوّض للثقافتين العربية والفرنسية، سواءٌ عبر تنظيراته عن الشعرية أو عبر التيار النقدي الوظيفي الذي تبناه. كما عمل على تقريب الثقافة الإغريقية من الثقافة العربية. كانت لبن شيخ مَلَكة توضيح ما هو غامض، مع تقريب المعاني من ذهن القارئ. كان عاشقًا للغة والشعر الفرنسيين. وقد تعامل مع اللغة الفرنسية كما لو كانت "غنيمة" على حدّ تعبير الأديب كاتب ياسين.
تحت قلم بن شيخ البهي، يجد قارئ اللغة الفرنسية نفسه إزاء لغة شعرية منحوتة وصقيلة وغير مألوفة. وعلى الجميع تذكّر القراءات الشعرية التي كان يقيمها أمام الجمهور، وتغدق على الأجواء جاذبية وسحرًا خاصين. أعدّ جمال الدين بن شيخ صنوًا لي. هو لا يُعوض، فقد وجدت فيه سندًا قويًا، مثله مثل أستاذي ريجيس بلاشير. وقد جمعتنا مغامرة "ألف ليلة وليلة"، وهذه المغامرة وحدها تلخّص حكاية صداقتنا المشتركة؛ حكاية ألف تبادل وتبادل، وألف حوار وحوار، عن كيفية انتقاء كلمة أو اختيار عبارة أو تركيب نحوي، أو صيغة بلاغية باللغة الفرنسية. كانت هذه التجربة تزاوجًا بين الشرق والغرب. لم يسع جمال الدين بن شيخ وراء الشهرة، ولم يركض خلف الإعلام. كان يعتبر أن نتاجه يمثّله، وهو نتاج مفتوح على الأبدية. لكن سيجيء يوم، قد يصحّح فيه التاريخ هذا النسيان أو التناسي، ليعود جمال إلى المكانة التي يستحقّها عن جدارة، في مجال البحث العلمي وفي مجال الإبداع.

*ماذا يمكنك أن تقول عن تدريس اللغة العربية في فرنسا اليوم، علمًا أنه لم يتمّ الاعتراف بها كلغة تدريس رسمية رغم وجود جالية عربية إسلامية مهمّة وكبيرة؟

لا تحظى اللغة العربية في فرنسا بالمقام اللائق بها في النظام التعليمي في فرنسا، سواءٌ في المرحلة الابتدائية أو الثانية أو حتى التعليم الجامعي والعالي. لكنها ليست مسؤولية الحكومات والأنظمة السياسية التابعة لها فقط، بل إن المستعربين يتحملون بدورهم المسؤولية. حين كنتُ في جامعة فانسان، دافعت عن فكرة مفادها أن شيئًا لن يحفّز على تعلّم اللغة العربية حال لم يتمّ إدراجها ضمن مساقات أخرى. بمعنى أنه من المطلوب إدراج اللغة العربية في كليات علم الاجتماع والفلسفة والتاريخ والأدب المقارن، أي أن يتجاوز الأمر إدراجها في الأقسام اللغوية واللسانيات. للأسف لم يجد اقتراحي هذا آذانًا صاغية. وفي ظنّي فإن تدريس اللغة العربية في بلد كفرنسا يعرف مدًّا شوفينيا وإسلاموفوبيًا هو رهان سياسي لم تقدر أي حكومة على خوضه البتة، بل وحتى في ظل حكومة اشتراكية وبوجود وزيرة للتعليم من أصول عربية، مثل نجاة بلقاسم. فاللغة هي الهوية.
مع ذلك، حصل تغيير، وهو تغيير لا يستهان به، وقد تمّ على مستوى اللهجات المغاربية التي تسرّبت إلى اللغة اليومية الفرنسية، وإلى الفنون الموسيقية أيضًا. هذه اللهجات المغاربية وعبر مفرداتها لغّمت اللغة الفرنسية من داخلها، لو جاز القول، فقد أدخلت إليها غرابة و"عجمة"، كما لو أن الجيل المغاربي "انتقم" للآباء والأجداد، وردّ للاستعمار بضاعته. المهم أنه لم تتوفر بعد الإرادة السياسية لإدراج اللغة العربية وإدماجها في الكيان الفرنسي. هكذا نجد أنفسنا حيال إحدى المعارك المعلّقة.

* كيف تقيّم "الانفلات" الذي يعيشه العالم العربي اليوم؟

نشأتُ في بيئة تآلف فيها وبشكل طبيعي، العقل والنقل. وعشت على تراث أسّسه الفلاسفة العرب الذين أثّروا بشكل قوي في المنظومة الفكرية الأوروبية في القرون الوسطى. وفي ظلّ غياب تاريخ ديناميكي وفاعل، يقتات العرب اليوم على حنين إلى عصرهم الذهبي، أو على حنين لنقاوة الإسلام غبّ بداياته. وتجيء هذه "الانفلاتات" التي تعيشها المجتمعات العربية حاليًا، وقد أدّت إلى الانهيار وإراقة الدماء وتكميم الأفواه والنزوح المستدام، لتعمّق من جراح هذا الحنين. على أية حال سأظلّ دائما مناصرًا للأنوار ضدّ الظلامية، ومناصرًا للحرية والعدالة ضدّ القهر والجور.