Print
حسام أبو حامد

طارق الجبر: الشِعر والترجمة هما بمثابة توأمي التوازن بحياتي

18 أكتوبر 2019
حوارات
في 30 أيلول/ سبتمبر من كل عام يُحتَفَل باليوم العالمي للترجمة، وهو اليوم الذي توفي فيه القديس جيروم سنة 420م، أحد أهم أعلام ترجمة الكتاب المقدس من اليونانية والعبرية إلى اللاتينية. وقد تم تأسيس هذا اليوم في عام 1953م، وفي العام 1991 تم الاتفاق دولياً على الاحتفاء باليوم العالمي للترجمة كيوم معترف به رسميًّا؛ تعزيزاً لمهنة الترجمة التي لعبت تاريخياً دور الوسيط الحضاري بين الأمم، وكان المترجمون وسطاء بين الثقافات.
في عصر العولمة، تواجه هذه المهنة العريقة منافسة شديدة من الذكاء الاصطناعي، لا سيما منذ أن أعلنت غوغل عن إطلاق نظام الترجمة الآلية العصبية (GNMT)، الذي يتحدى ترجمات البشر، مما دفع إلى الاعتقاد أن هذه المهنة باتت مهددة بالاندثار. لكن الترجمة ليست مجرد عملية نقل معاني الكلمات من نظام لغوي إلى آخر، بل أيضاً نقل الأفكار المرتبطة بثقافة معينة إلى فضاء ثقافي مغاير، وهو ما يزال الذكاء الصناعي عاجزاً عن القيام به، فما بالك بترجمة العواطف والمشاعر في حالة الشعر، الذي تتحول نصوصه عبر الذكاء الصناعي إلى مجرد كلام مسطح بلا روح.
نحاور هنا السوري طارق الجبر، الذي جمع بين الشعر والترجمة، وكان صاحب تجربة فريدة حين كتب أشعاره بنفسه بثلاث لغات، رآها تمثل بالنسبة له ثلاثة وجوه للحياة. عن الترجمة والشعر والسينما واللجوء دار حديثنا:

 

الترجمة عملية خلق
(*)هل الترجمة مُهمّة تقنية تسعى إلى نقل كلمات، وأساليب، ومضامين، إلى فضاء لساني آخر، أم علينا أن نأخذ بعين الاعتبار، ونحن نترجم القصيدة، أنها ليست مجرد تركيب لغوي مفهومي، بل نسيج متشابك من المعاني التي تحملها كلمات، وأصوات، وإيقاعات، وموسيقى داخلية متناغمة، وعلى المترجم إنبات هذا النسيج في أرض مغايرة، آخذاً في عين الاعتبار تلك الدينامية الكامنة في القصيدة، واستحضار عناصرها التي تشكل خصوصيتها؟ إلى أي حد تبدو ترجمة شعرية أمينة مهمّة عصية تهدد المبنى ومعنى النص الأصلي؟
بالنسبة للترجمة الشعريّة، و"الترجمة" هنا هي نعتٌ خاطئ من حيث المبدأ في رأيي، فهي عمليّة خلق وإعادة ولادة للقصيدة مرّةً أُخرى. على الصعيد اللغوي مثلاً، هي حالة انتقاء مُفردات ذات معنى خاص مُتعلّق باللغة التي نقوم بالكتابة الشعريّة بها، أي بالإحساس بها، وبتركها لتقود عمليّة صياغة الجُمل بمفهومها الخاص. وعلى الصعيد الموسيقي الخاص باللغة الجديدة للقصيدة، هي عمليّة انسياق مع الجرف الهائل للثقافة، والمعنى المُغاير للتفاصيل الذي يجرف معه تعابير وصور القصيدة في وجهها المرسوم باللغة الأولى. فترجمة القصيدة هنا، هي كتابة ثانية (أو مرّة ثانية) للقصيدة على الطريقة التي كان يُمكن أن تُكتب بها لو أنّها وُجِدت في هذه اللغة أوّلاً.

(*)تتقن العربيّة والإنكليزيّة والإيطاليّة، وتتحدث الإسبانيّة والفرنسيّة. أي شغف وراء ذلك وماذا أضاف لك خوضك تلك العوالم اللغوية؟
بالنسبة للعربيّة والإنكليزيّة، فهما شغفي وطريقتي في اكتشاف العالَم مِن حولي مُنذ الصِغر. أمّا بالنسبة للإسبانيّة التي تعلّمتها في دمشق قبل خروجي منها، فقد كانت حُلُماً خاصّاً بغناء الفلامِنكو – يوماً ماً – في شوارع وحواري الأندلس، وهو الحُلم الذي حقّقته أكثر من مرّة خلال السنوات السبع السابقة. الإيطاليّة هي لغة تفاصيل حياتي اليوميّة منذ وصلت إلى ميلانو للمرّة الأولى، منذ سبع سنوات. وطبعاً الانتقال من الإسبانيّة إلى الإيطاليّة، ومنها إلى الفرنسيّة، ليس بالأمر الصعب، في حال كان عندك سبب شخصيّ لتَحدّث اللغة ومُمارستها، لأنّ اللغة (أيّ لغة) تذبل وتموت بدون المُمارسة الدائمة. لذلك، كما بإمكانك أن تتخيّل، لستُ على المُستوى نفسه في كلّ اللغات على مدار العام، فالمُستوى يتفاوت حسب مكان الإقامة، ولغة العمل، والتواصل.

 

(*)في ديوانك "مِن هذا العاَلم"، كتبت قصائدك بنفسك بثلاث لغات: العربية والإيطالية والإنكليزية. هل من تجارب أخرى مشابهة لشعراء آخرين نستحضرها هنا؟ أم هي تجربة تحافظ على تفردها؟
بالنسبة للشِعر، هنا في إيطاليا، هنالك كثير من التراجم لكُتّاب عالمّيين مع المُحافظة على إبقاء

نصوصهم الأصليّة على الصفحة المُقابلة في الكتاب، وعادةً ما تكون هذه النصوص من لُغات أوروبيّة شقيقة. فنحن نعلم أنّ الفرنسيّة، والإسبانيّة، والبرتغاليّة، والإيطاليّة – مثلاً – هي لغات لاتينيّة واحدة الجذر، وتتشابه حتّى المُماثلة، في بعض الحالات الشِعريّة خُصوصاً. أمّا في ما يخصّ التجربة التي قمتُ بها، وهي كتابة قصيدتي بالوجوه الثلاثة للغات التي شكّلت حياتي حتّى اللحظة، فليس عندي علم بتجارب سابقة حملت الشجاعة (وربّما الوقاحة) اللازمة إلى هذا الحدّ.

 

(*)ترجمتَ كتاب "Siamo gli eroi del circo" إلى الإيطالية أليسّاندرا ألتامورا، تحت عنوان "نحن أبطال السيرك" (2018). هل لنا بفكرة عن مضمونه؟ في رأيك أيهما أسهل ترجمة الشعر، أم النثر؟
هو كتاب مُمتع عن قصّة طفل (من عائلة مُسلمة) من مدينة حلب تهجّر مع عائلته إلى ماردين التركيّة، وبدأ يكتشف شخصيّته – ويستعيد جزءاً من حياته – بعد أن انضمّ إلى فرقة سيرك وعروض ترفيهيّة في المنطقة. الكتاب يدور حول حياته وقصّة نزوحه، بالإضافة إلى سرده علينا ذكريات عن حارته، من خلال قصصه مع الفتاة المسيحيّة التي كان يحبّها في الحيّ. أليسّاندرا عملت على التواصل مع العديد من السوريّين في ماردين وحلب لأكثر من سنة، أو اثنتين، لكي تحصل على المعلومات التي استعانت بها لكتابة هذه القصّة/ الكتاب.
أمّا بالنسبة إلى ترجمة النثر، في حالة كتاب كهذا مثلاً، فهي أشبه ما تكون بالسردّ اليوميّ للغة المحكيّة، وهي مُختلفة تماماً عن الكتابة الشعريّة التي هي في حاجة لنوع من الغناء والرؤية الشخصيّة. فترجمة النثر يقدرُ عليها مَن يمتلك طاقة الحكواتي، ويعرف كيفّيّة المُحافظة على التشويق السرديّ الطويل. أمّا الشِعر/ الشاعر فهو طفل لم يكبر بعد، في جميع اللغات.

 

العمل مع اللاجئين والمهاجرين
(*)ساهمت مع منظمات دولية كمترجم في استقبال اللاجئين على الشواطئ الأوروبية، لكن عملك (مرغماً ربما؟) امتد من الترجمة إلى المشاركة في معاناتهم إنسانياً ووجدانياً. كيف توصف تلك التجربة؟
من الصعب جدّاً أن أُجيب بسطورٍ قليلة عن تجربة "إنسانيّة" امتّدت لأكثر من ثلاث سنوات على بُقعة كبيرة من مساحة البحر المُتوسّط (ما بين لبنان، واليونان، وإيطاليا). العمل مع

مُنظّمات مُختلفة – من ضمنها مُنظّمة الأمم المُتّحدة – على أراضِ استقبال مُتعدّدة ذات ثقافات ولغات مُختلفة، ممّا يؤدّي بالضرورة إلى العمل مع عقليّات مُختلفة، كان أمراً مُغنياً على الصعيد العمليّ، بالتأكيد. أمّا بالنسبة لمُعاينة الخسائر البشريّة والتأقلُم مع المُعاناة التي يُقاسيها اللاجئون والمُهاجرون في كلّ مكان والمُغالاة في تقصّي أحوالهم – وهو الأمر الذي كان جزءاً من عملي، كوسيط ثقافي، أو كضابط ميداني – لدرجة أن تتماهى تفاصيل "رحلة الموت"، التي يقصّها عليكَ غالبيّة الذين تقابلهم، مع تفاصيل حياتك اليوميّة، فقد كان أمراً أكثر من صعب في وقته، والاعتياد عليه شبه مُستحيل.

 

(*)وصل هذا التماهي إلى حد الاشتغال على تحويل رحلة لجوء حقيقية إلى فيلم وثائقي خدمة لقضية هؤلاء اللاجئين، فكنت أحد المشاركين الرئيسيين في الفيلم الوثائقي "أنا مع العروسة" (2014)، الذي شاركَ في مهرجان البندقيّة السينمائيّ في نسختهِ الحادية والسبعين. وفاز بالجائزة الأولى لمهرجان الفيلم وملتقى حقوق الإنسان الدولي. ما هي الرسالة التي حملها الفيلم؟
هذا الفيلم/ الفكرة كان وليد لحظته، حين بدأت العائلات السوريّة بالوصول إلى المحطّة الرئيسيّة في ميلانو (مكان إقامتي وإقامة العديد من الأصدقاء المُشاركين في الفيلم حينها)، في محاولة منها للوصول شمالاً إلى دول أوروبيّة كالسويد. السبب الرئيسيّ لتصويرنا لهذه الرحلة "غير القانونيّة" عبر أوروبّا شمالاً، هو مُحاولة إيصال صوت الذين خسروا بيوتهم وأوطانهم، واضطرّوا مُرغمين إلى عبور البحر والبر والجبل، في مُحاولة للعثور على فُرصة حياة جديدة (ولو ضئيلة)، خصوصاً بعد أن رأينا كيفيّة تغييب مُعاناة الأفراد البشريّة في الإعلام الأوروبيّ، واستخدامهم كأداة على شاكلة موجة غزو لأوروبّا في يدّ اليمين المُتطرّف المُتصاعد في الفترات الأخيرة.

 

(*)الأفلام الوثائقيّة واقعيّة عموماً، لكن أن تصوّر قصة هروب حقيقية لمجموعة من اللاجئين يعبرون الحدود بين عدة بلدان أوروبية، وكان المهربون أنتم؛ طاقم العمل. أي واقعية هذه؟ هل كنتم تدركون التبعات والمخاطر المترتبة على ذلك، وقررتم المضي قدماً في تلك السينما الخارجة عن القانون؟
سؤال جميل، سُئلتُه كثيراً في تقديماتي للفيلم هنا في أوروبّا. اليوم الذي بدأنا "الرحلة" فيه، كان تقريباً بعد عشرة أيّام من وصول العائلات إلى المحطّة المركزيّة في مدينتنا، ميلانو. وكما ترى، لم يكن هنالك الكثير من الوقت للغوص في التفاصيل، والتفكير العميق قبل اتّخاذ القرارات.
وما زلتُ أذكر حتّى اللحظة، كيفيّة اتّصالنا بالأصدقاء لكي نسألهم إن كانوا يريدون الانضمام إلينا في رحلة "عُرس" مُزيّفة، في مُحاولةٍ منّا لزيادة فُرض وصولنا، وعدم إيقافنا من قِبل شرطة الحدود التي كنّا سنواجه – في حال حدوثها – تُهماً تؤدّي بنا إلى السجن لما لا يقلّ عن الخمس سنوات، إن كنّا محظوظين طبعاً. أعرف ما الذي ستحاول أن تسأله الآن؛ بعد سنوات من التفكير اللازم، لن نُعيد القيام بالرحلة مرّة ثانية.

 

هموم شخصيّة
(*)لننتقل من الهم العام إلى همومك الشخصية. أين تقف الآن في طريق تطوير ذاتك؟
بعد التجربة الأكثر من مُرهِقة في العمل الإنسانيّ، قرّرت أن أتّخذ مساراً جديداً في حياتي. ومع أنّ دراستي الجامعيّة في دمشق كانت محض لُغويّة/ أدبيّة في فرع الترجمة، قسم اللغة الإنكليزيّة، لكنّي بدأت منذ سنة تقريباً بدراسة الماجستير في إدارة الأعمال (موارد بشريّة وتنظيم)، المجال الذي لم أكن مُلِمّاً به لهذا الحدّ، ولكنّ عملي مع أكثر من مُنظّمة ذات خلفيّة وطريقة عمل مُختلفة، ساعدني لكي أخطو خطواتي الأولى في هذه الدراسة – الجديدة عليّ – بثباتٍ لم أكن أتوقّعه.

 

(*) الترجمة أم الشعر، أيهما يجيب عن سؤال الهوية الذاتية؟
الشِعر والترجمة هما بمثابة توأمي التوازن في حياتي. الشِعر هو تلك الحالة الطفوليّة الأولى في تعلّم الحياة، ومحاولة المعرفة والوصول إلى أجوبة بالطريقة الأكثر نقاءً وبدائيّة؛ كمُحاولة الطفل الصغير أن يتعرّف على الأشياء بوضعها في فمه أوّلاً، فكلّ ما هو غير حسيّ/ ذوقيّ – بالنسبة له – ليس مفهوماً، وفي حاجة للتذوّق الفوريّ. أمّا الترجمة فهي نتاج ما توصلّتَ إليه من تلك المُحاولات والتجارب؛ كمُحاولتكَ أن تشرح لصديقكَ عن أكلةٍ أو طبقٍ موجودٍ في ثقافةٍ أو بلدٍ ما – مثلاً – لأنّكَ تعرف مذاقه الأصليّ. فكما ترى، بدون شراهة الطفل الصغير لن تستطيع أن تجعل صديقكَ يشمّ رائحة الطبق الذي تحاول أن تقدّمه/ تشرحه له، وبدون قصصكَ المرويّة على مسامع الأصدقاء – بين الفينة والأُخرى – لن تُروّض نَهَمْكَ وشهيّتكَ المفتوحة، وقد تقع في فخّ أن تبدو كمن يأكلّ بأربعة طبقاً ليس واضح الملامح.

 

(*)تجلس في الساحات، وتبيع قصائد تكتبها على عجل لمن يشاء؟ أليس هذا تكسباً بالشعر؟ وهل هذه الظاهرة متعارف عليها أوروبياً اليوم، أم أنها انقرضت؟ وكيف تجد تفاعل الجمهور الأوروبي معها؟
بالنسبة لكتابة الشِعر في ساحات بلادٍ ومُدنٍ عديدة، لا أسكنها بالضرورة، فهي الطريقة الوحيدة التي أكتب فيها شِعراً منذ ما يُقارب الثلاث سنوات. لا أظنّ أنّني رأيتُ من يقوم بهذه "الفِعلة"

في أوروبّا، فقد أخذتها عن صديق أميركيّ تعرّفت عليه في مدينة روما الإيطاليّة، وهو من دفعني لأن أقوم بهذه التجربة (الغزيرة بالمشاعر المُتبادلة مع الناس) معه أوّلاً. بعد أن جرّبت الجلوس على قارعة الطريق، وانتظار من يطلب منّي قصيدة (واثقاً من قدراتي، بدون أن نلتقي قبل تلك اللحظة) عن فكرة، أو حالة ما، ثمّ أُعطيه ما كتبت – بعد خمس، أو عشر دقائق، تقريباً – وأقرأ في عينيه ما يقرأه هو في ورقتي الزرقاء الصغيرة التي أعطيتها له، مُحاولاً أن أُخمّن على أيّ السطور لمعت عيناه، وبأيّ تعبيرٍ تبسّمت شفتاه... لم أعد أستطيع أن أتخلّص من تلك العادة السحريّة التي أصبحت مُرتبطة بمعنى الشِعر نفسه بالنسبة لي. أمّا عن تفاعل الجمهور الأوروبيّ معها، فقد حصدتُ الكثير من الذكريات الجميلة حيثما حللتُ مع آلتي الكاتبة، وأوراقي الزرقاء، من روما، وفلورنسا، وتورينو، الإيطاليّة، إلى سالونيك اليونانيّة، وصوفيا البلغاريّة، وباريس وبوردو وتولوز وليون الفرنسيّة، وربّما غيرها إن خانتني الذاكرة.