Print
عماد الدين موسى

ريبر يوسف: انتابني شعور الاغتراب أثناء كتابة الرواية

20 فبراير 2020
حوارات
بعد إصداره لعددٍ من المجموعات الشِعريّة، تحوّل الشاعر السوري ريبر يوسف إلى كتابة الرواية، حيثُ أصدر مؤخراً روايته الأولى "عزلة الأرملة السوداء".

يوسف، المولود في مدينة الحسكة بأقصى الشمال السوري سنة 1981، يكتب باللغتين العربية والكردية، وقد صدر له: "قصائد بحجم ابتساماتنا"- مجموعة شعرية مشتركة مع الشاعرين أوميد عبدو وأمير الحسين (2006)، "حَجِلاً أعبرُ الحقل" مجموعة شعرية (2009)، "من غصن إلى آخر يتنقّل القصف" مجموعة شعرية (2015)، "قريباً تنهض الجدة" مجموعة شعرية (2018)، و"مرايا دولة الدكتاتور" كتاب سردي (2018).
درس التصوير السينمائي في مدينة برلين، إذ يقيم في ألمانيا منذ 2009، كما يكتب في العديد من الصحف والمواقع العربية.
هنا حوار معه:

"انتصرت في معارك صغيرة جداً، إلا أنني تواق إلى المعركة الكبيرة، وسأنجح قريباً من خلال الشعر"



















(*) تأتي روايتك "عزلة الأرملة السوداء"، الصادرة حديثاً عن دار موزاييك، بعد أربع مجموعات شعرية؛ ما هو الدافع الذي جعل الشاعر يخوض غمار كتابة الرواية؟
- ربما يكون الأمر مشابهاً بخروج كائن على نفسه صوبَ تلك البيادر الشاسعة والكريمة - واهبةِ الهواء اللامتناهي لصدر المؤمن باللامحدود. كنتُ قد اشتغلتُ على مجموعة نصوص مفتوحة قبل ولوجي ذاك السرداب الخفي الذي نكنّه بالرواية، وسعيت قدر الإمكان في سبيل الرضا خارج أرض الرواية، طبعتُ كتاب (مرايا دولة الدكتاتور) - كتاب سردي - إلا أنني لم أحصد الهواء الذي أسعى إليه البتة، كنت تواقاً إلى تلك الشهقة العظيمة التي تملأ رئتي شيئاً لا مرئياً.

 

(*) حدثنا عن سبب اختيارك لعنوان "عزلة الأرملة السوداء"، وهل لهذا العنوان أي دلالة سيميائية مرتبطة بمضمون العمل؟
- ربما تكون عناوين الكتب هي العقبة الأزلية والأبدية المتربصة بالكتّاب عموماً. في أثناء البحث عن قيمة العناوين النفسية تلحظ طريقين قد يكون ثالثهما مبطّناً، الثالث الذي وجدتهُ بكل الأحوال باباً لا مرئياً يطل على عالم روايتي.

تأخذني، حقيقةً، فكرة العمل على اللامرئي البعيد أصلاً، مثلاً، هل يمكنك تصوّر كتاباً يتحدث عن مضمون معلَن يحمل بذات اللحظة اسماً معلناً؟ استفدت - بكل الأحوال - من ذاك السياق، أو، ذاك التزاوج ما بين السمعي والبصري الذي أشتغل عليه، لا توجد كلمات مثل (الأرملة السوداء) و(العناكب) ودلالاتها الروحية خلال الرواية، ثمة شيء مثل رائحة غير معلومة تذكرك بشيء غير معلوم في زمنٍ تجهله.

 

(*) نلاحظ في روايتك تهشيم لعنصر الزمن على حساب سرد سيرورة هواجس البطل.
- كان الأمر بمثابة منازلة الذات في مكان مجهول، تلك المنازلة التي أسعى في سبيلها دوماً. سألتُ نفسي مراراً هذا السؤال، قذفتني أجوبة متناقضة فيما بينها إلى حد الضياع، ضياعي خلال الإجابات اللامتناهية، أرجأتُ الحدث إلى تعريف الزمن الذي لا يوجد تعريف له بتصوّري.

 

(*) تعد روايتك من الروايات القليلة التي تركز على الجانبين الفلسفي والنفسي اللذين شرحا قضية البطل تجاه كل ما حوله حتى الماديات؛ لماذا اخترت هذا الجانب السردي؟
- لستُ على اطلاع تام بشكل الروايات حول العالم حقيقةً، لم تأخذني بتاتاً فكرة دراسة عالم الرواية - الأساليب، المعالجات.. إلخ - قبل ولوجي عالم الرواية، فعلتُ العكس تماماً، أي بما معناه، قرأت عوالم الروايات وأساليبها في أثناء انتهائي من كتابة روايتي.

سألت نفسي: ما هذا الذي كتبته؟ قد يكون الأمر محيّراً بعض الشيء سيما أن الروايات التي قرأتها لا تتجاوز عشرين رواية تقريباً، أنجزت قراءة القليل من هذا العدد حتى نهايتها، لا أعرف السبب الجوهري، ربما يكون خوض الروائي في تفاصيل بسيطة مطروقة ومملة أحد الأسباب، أقصد الروايات القليلة التي قرأتها أثناء مراهقتي، ربما أيضاً نفوري من السرد المنجز الذي يقتل ذهن القارئ ويجعله كائناً ليس بمقدوره التفكير والبحث في أثناء قراءة رواية ما، تأخذني الكتب التي تقبض عليّ لا تلك التي تحررني.

 

(*) هل تعمدت أن يكون زمن الرواية كله بالزمن المضارع، وما هو سبب ذلك؟
- حدثَ ذلك منذ زمنٍ بعيد قريب، أقصد بداياتي تقريباً، سعيتُ في سبيل البقاء خلال الزمن المضارع، هذا الذي يرافقني الآن ودوماً، كلّي إيمانٌ بأنّ (اللحظة/المضارع) حاملي الوحيد الذي ينقذني. خذلني الماضي كفعل ميت في ذهني، كذلك المستقبل اللامرئي الذي التفكير فيه وبه يشبه المقامرة. وجدتُ في عملية إمساك يدي والسير إلى جانب نفسي حلاً نفسياً أنقذ خلاله وبه ذاتي. الأمر شبيه بجوهر فكرة الخلق - بتصوّري - أي، بما معناه، ثمة مَن/ما خلقك ونفخ فيك ما ينبغي عليك عدم الخروج منه وعليه، حينها ستشاهد نفسك تماماً على منتصف الطريق، ستفكر في قرارة نفسك: هل أعود؟ هل أمضي قُدماً؟ ثمة وحشان مفترسان يرافقان الكائن هما الماضي والمستقبل؛ الأمر الذي دفعني إلى البقاء خلال تلك الأرض الصادقة التي تمسك بيدي، أرض المضارع.
اشتغلت على هذا السياق في أغلب مشاريعي الكتابية تقريباً، إلا أنّ فكرة العمل عليه داخل رواية أو عمل أدبي طويل كان تحدياً نوعاً ما، سألت نفسي مراراً، أثناء تفكيري بتقنيات الكتابة التي ينبغي عليها أن تحمل العمل بشكله النهائي: كيف سأكتب عملاً طويلاً دون التطرق إلى فعل واحد حتى في زمن الماضي؟ الفكرة تبعث - نوعاً ما - على الجنون، بدا الأمر فيما بعد سهلاً كما لو أنني أخوض نزالاً داخل أرضي/ ملعبي، في عالمي.

 

(*) لماذا جعلت قفلة الرواية هي الحامل الرئيس الرابط لكل أجزائها السابقة؟
- أثناء إنجازي كتابة الرواية، انتابني شعور الاغتراب، لم أك قد عشتُ ذلك قَط، حدث هذا حقاً كما لو أنك تبتعد وتخرج من أرضك، عالمك، كما لو أنك تفقد ما كان يجعلك على قيد الإيمان بشيء ما يدفعك إلى البقاء في هذه الدنيا، أجهشت مراراً بالبكاء أثناء انتهائي من الكتابة، اشتقت، تقتُ إلى العالم ذاك، دنيا أصدقائي وأهلي السوجقاريين الذي عشت بينهم وأحببتهم، كان الأمر شبيهاً بجوهر الموت، أثناء موت المرء تصبح كافة الأجوبة واضحة أمامه، أثناء الموت يخرج المرء من داخل كرة ما، وقتها يكون بمستطاعه رؤية ذاك العالم الذي كان بداخله؛ فكرة الموت، فكرة الانتهاء من كتابة العمل، دفعتاني إلى وضع (الآخر) أمام الأجوبة المنجزة لأسئلة راودته طوال فترة قراءة العمل، كان (الآخر) هو ذاتي، كنتُ أسير نفسي. الموت هو نهاية مرحلة ما، أي الفصل الأخير لتلك المرحلة - فصل الحقيقة - يقابله في الكتاب - الفصل الأخير - حاملِ العمل ومربّيه في آن.

 

(*) تكتب باللغتين العربية والكُردية، ولك مؤلفات بهاتين اللغتين، لكن ماذا عن اللغة الألمانية؟
- تأخذني فكرة الكتابة أو الحديث عن تلك البذرة الخفية المدفونة في صلب المرء لحظة تعلّمه لغة ما، فلنقل لغته الأم، لغته الأولى. لم أحظ كباقي كرد سورية بتعلّم الكردية علناً؛ إذ كانت ممنوعة في سورية. فيما بعد، أتقنا العربية - لغة الدولة السورية الرسمية - وبدأ الدخول في عالم اللغة تلك أثناء ذهابنا إلى المدارس. كتبتُ ذات يوم عن علاقة الكردي باللغة العربية، كانت تظهر كما لو أنها وحش يفترسنا، كان الأمر شبيهاً بالمرض حقاً، بما معناه، ذاك الخلط السحري والسري المزروع في دواخلنا - اللغة الكردية المنزلية الممنوعة في الخارج واللغة العربية ربيبة غضب وعنف المعلمين ورجال المخابرات والموظف الحكومي. تخيّل مثلاً قيمة الخوف الذي رافقنا في أثناء تعلمنا العلني للعربية وتعلمنا السري للكردية.

فيما بعد، على الصعيد الشخصي نازلتُ الخوف ذاك وانتصرت عليه بالكتابة، الشعر ومن ثم الرواية.
اللغتان - الكردية والعربية - كانتا مثل ظلال لنا، رغم الخوف والتوجس اللانهائي، كانتا لغات البيئة التي سرنا على خيرها.
الخوف ذاك رافقني أثناء مواظبتي على تعلم الألمانية هنا، لغة المكان الجديد، لغة مجهولة عني في بلد مجهول يملك قوانين لامتناهية، قوانين صارمة للغاية، تحولت اللغة الألمانية بالنسبة إليّ إلى لغة المؤسسات، تخيّل مثلاً.. يتعلم المرء لغة جديدة عبر مؤسسات الدولة، إذاً، هو التوجس ذاته.
حاولت منازلة (الوحش الألماني) أيضاً عبر كتابة الشعر بها، انتصرت في معارك صغيرة جداً، إلا أنني تواق إلى المعركة الكبيرة، وسأنجح قريباً من خلال الشعر بتلك اللغة الغريبة والمريبة.