Print
فائزة مصطفى

محمد زيان: يهود مصر جزء مُهمّش من ذاكرة البلد

19 مارس 2020
حوارات
وحدها الظروف الناجمة عن فيروس كورونا هي ما حال دون سفر الصحافي والكاتب المصري محمد زيان إلى إيطاليا، إذ كان يستعد لإتمام مشروعه عن اليهود المصريين في أوروبا، بعدما أصدر الشهر الماضي كتابه بعنوان: "يهود مصر، من الأهرامات إلى برج إيفل". ويحاول صاحب "مشاهير وشهداء في الجنة" أن ينجز موسوعة عمن يعتبرهم مكونا ثقافيا واقتصاديا فقدته بلاده بسبب الحروب مع إسرائيل، ويرى أن مشروعه هو توثيق لجانب مهم من تاريخ بلاده، ويأتي بحثه بالتزامن مع انفتاح مصري حكومي رسمي على الطائفة اليهودية تجسد من خلال ترميم أعرق المعابد في القاهرة والإسكندرية، كما يرى زيان هذه الخطوة بمثابة اعتراف بما حدث لليهود المصريين في عهد سابق.
هنا حوار معه:



(*) ما هي مراحل تطور فكرة إنجاز كتاب عن يهود مصر في فرنسا، بعدما كان في البداية مجرد مشروع لإنجاز سلسلة حوارات صحافية معهم، لا سيما وأننا قد نتصور صعوبة التواصل مع هذه الجالية لأسباب تاريخية وسياسية؟
ـ بعد نشر جريدة ’الأخبار’ بشكل عادي الحوار الذي أجريته مع إيف فديدا، رئيس جمعية النبي دانيال، قررت عمل تحقيق معمق حول اليهود من أصول مصرية في فرنسا، وتوثيق ذكرياتهم في بلدهم الأصلي ورصد جزء من حياتهم وعلاقاتهم مع الناس، ومعرفة ظروف مغادرتهم، وحياتهم في المهجر ومدى تمسكهم بعاداتهم وتقاليدهم المصرية، فضلا عن رصد مواقفهم من سياسات إسرائيل ومن حقوق الشعب الفلسطيني، وآرائهم حول الحروب التي خاضتها مصر مع إسرائيل، وعن دخولهم السجن في عهد مطاردة نظام عبد الناصر للشيوعيين، وتجريدهم من ممتلكاتهم، كما كشف كتابي عن زياراتهم لمصر بعد توقيع معاهدة السلام في عهد الرئيس أنور السادات إلى غاية اليوم، وأردت أن أعرف منهم أسباب رفضهم اللجوء إلى إسرائيل، وتضمن المؤلف ألبوما من الصور الخاصة باليهود الذين حاورتهم، وكذلك شهاداتهم ووثائقهم الإدارية. لقد راهنت على الجانب الإنساني للعمل، إدراكا مني أنني سأدخل مساحة شائكة قد تعرضني لمتاعب في بلدي لكون الموضوع مصنفاً ضمن التابوهات السياسية.

(*) الكتاب هو عبارة عن سير ذاتية لخمسة عشر شخصا فقط، رغم أنك تشير في الكتاب نقلا عن رئيس جمعية اليهود المصريين بفرنسا أندريه كوهين إلى أن هناك 10 آلاف يعيشون حاليا في هذا البلد، فما هي الصعوبات التي حالت دون محاورتك لأكبر عدد منهم؟
ـ لا أنكر فضل هذه الجمعية في ربط قناة اتصال مع هؤلاء وتزويدي بعناوين ثلاثين شخصا، وكان أمامي شهران لإجراء المقابلات بسبب ظروف التأشيرة، لكن الكثير منهم قابلوا عرضي بنوع من الخوف والتردد والتشكيك، هناك من اختار الإجابة على أسئلتي بالهاتف، ولمنح كتابي مصداقية حرصت على نشر الحوارات التي تمت مباشرة مع اليهود المصريين من بينهم المذيعة في راديو فرنسا بولا جاك، والأستاذ بجامعة السوربون توبي ناثان، والمناضلة الشيوعية جويس بلاو التي سلمت لمصر وثائق خطة العدوان الثلاثي عام 1956، وغيرهم.

 

99 بالمئة من اليهود المصريين الذين
حاورتهم يعارضون السياسة الإسرائيلية

(*) لماذا رفض بعضهم إجراء حوار مع صحيفة مصرية، وهم أصلا يتكتلون داخل جمعيات للحفاظ على هويتهم وتراثهم، ولا يفوتون فرصة للتعبير عن حنينهم لبلادهم الأصلية، ويمكن رؤية ذلك في مجلة "نهار مصرايم"؟
ـ لمست وجود حالة من الهستيريا تجاه الصحافة المصرية، هم يرون صورة مصر مختزلة في زمن ملاحقتهم إبان مرحلة عبد الناصر، ومقابلة صحافي مصري معناه فتح نافذة الماضي الذي يكرهونه ويرغبون في التخلص من ذكرياتهم المؤلمة.

لكني حظيت بمقابلات راقية من شخصيات رأت مشروع كتابي تكسيرا للحواجز. لقد اكتشفت وكأنهم لم يغادروا مصر أبدا، يتكلمون لهجتها بطلاقة، يتقنون رواية النكت ويحفظون أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب وغيرهما، وتتقن نساؤهم الرقص الشرقي، مثلا يجتمع بعضهم كل يوم خميس لتحضير أكلات من المطبخ المصري كالمحشي والملوخية ..إلخ، وهم يورثون كل هذه التقاليد لأبنائهم وأحفادهم، مثلا إيلي مشعالي وهو من مواليد طنطا بشارع شوق الفسيخ يتحدث العربية الفصحى بطلاقة وكأنه أستاذ في اللغة، وهو يرجع الفضل في ذلك إلى شيخه في القرية.

(*) خصصت جزءاً في كتابك للجانب السياسي، من خلال سؤال هؤلاء اليهود المصريين عن مواقفهم من سياسات إسرائيل وخطة السلام مع الفلسطينيين والعلاقات الإسرائيلية العربية وغيرها، فكيف تباينت آراؤهم حول الموضوع؟
ـ 99 بالمئة من الذين حاورتهم يعارضون السياسة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، وهم ضد الحرب على الفلسطينيين، ويشبهون السياسة اليمينية بالنازية لاستخدامهما نفس أساليب القمع والقتل. يطالب أغلب من استجوبتهم إسرائيل بالعودة إلى حدود 67، ما عدا إثنين منهم اعتبرا هذه الحدود "مكاسب إسرائيلية". كما سجلت أن جميعهم وبدون استثناء مع حق الشعب الفلسطيني في العيش بسلام وإقامة دولته الفلسطينية في إطار حل الدولتين.

 زيان: لفت انتباهي أن الفيلم الوثائقي الدي أخرجه أمير رمسيس بعنوان "يهود مصر" عرض في السينما فقط، ولم تبثه أي قناة تلفزيونية

















(*) يبدو كأنك حاورت يهودا غير صهاينة، أفلا تعتقد أن الجمعيات التي ساعدتك للوصول إليهم لا تضم بين صفوفها إلا اليساريين والشيوعيين، أو ربما رشحت لك فقط ما يرغب القارئ العربي سماعه من أراء مسالمة وخطابات تجنح نحو السلام؟
ـ في الحقيقة، هؤلاء يصرون على اعتبار أنفسهم فرنسيين، كانوا في السابق مصريين، ويحملون شعارات مناهضة للحرب، صحيح قد أكون حاورت فقط الذين لا يتفقون مع أطروحات الصهيونية، ولو أني لاحظت تحفظ بعضهم عن إظهار آرائه السياسية، ورفض التعليق عليها، بينما تباينت الآراء بين من يرى أن هناك سلاما حقيقيا بين إسرائيل وجيرانها، ومن يراه مجرد سلام بارد شكلي بين الحكومات وليس بين الشعوب، لكن اقتصر اهتمامي على الجانب الاجتماعي والتاريخي ليهود مصر في فرنسا بالدرجة الأولى خلال إنجازي للتحقيق الصحافي.

(*) لاحظت من خلال إجابتهم أنهم يجعلون من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر شخصية محورية في حياتهم، لماذا يحملونه وحده ما يعتبرونه مسؤولية هجراتهم من مصر التي بدأت قبله وتواصلت بعده؟
ـ اللافت أنهم يكذبون أسطورة أن الله أخرجهم من مصر حسب ما ورد في تراثهم، ويرون أن من فعل ذلك هو الرئيس عبد الناصر، وهو من تسبب في معاناتهم، فمثلا يتهمه المهندس ليون سيون الذي ولد بالقاهرة بالمسؤولية المباشرة عن طرد اليهود المصريين، وبتمويل إسرائيل بالعنصر البشري لبناء دولتها بدون قصد منه، تماما مثلما ساهم جزء من أحداث الربيع العربي في إفراغ منطقة الشرق الأوسط من مسيحييها، وأنا في نظري وقع الرئيس الراحل في خطأ كبير عندما أفرغ البلد من مكون اقتصادي وثقافي كان مهما أيضا في بناء الدولة المصرية.
لكن تجدر الإشارة إلى أن هناك ممن حاورتهم يبررون خروج عائلاتهم من مصر لأسباب اقتصادية أو علمية بعيدا عن أي دوافع سياسية، بل من بين الأشخاص الذين حاورتهم ثمة من أرجع لعبد الناصر الفضل في تألقهم في مجالات كثيرة ونجاحاتهم في الخارج، فلو بقوا في بلادهم لوجدوا أنفسهم يعيشون أزمات اقتصادية ويكابدون ظروف المعيشة الصعبة.

(*) لا يختلف اثنان على أن شريحة واسعة من مجتمعاتنا تقع في الخلط بين إسرائيل واليهود، وهذا ما يعرض أي كاتب ينجز مثل مشروعك للانتقاد أو الرقابة، خاصة في بلدان خاضت حروبا مع الدولة العبرية، ألا تعتقد أن حركة الانفتاح التي تتبناها الحكومة المصرية حاليا إزاء الديانة اليهودية كترميمها للمعابد هي من سهل نشر كتابك وتوزيعه من قبل مؤسسة الأهرام والاحتفاء به في معرض القاهرة الدولي للكتاب؟
ـ في الحقيقة لفت انتباهي أن الفيلم الوثائقي الدي أخرجه أمير رمسيس بعنوان "يهود مصر"، عرض في السينما فقط، ولم تبثه أي قناة تلفزيونية حسب ما أذكر، وهذا ما جعلني أتوقع منع صدور كتابي، لكن بالتأكيد انفتاح المؤسسات الرسمية على هذه الديانة في الفترة الأخيرة هو من فتح الطريق لنشر الكتاب الذي رصدت فيه جزءاً من تاريخ بلادي، ووثقت من خلاله لطائفة كانت موجودة منذ ثلاثة آلاف سنة، وحمل أبناؤها الجنسية المصرية لعقود طويلة، ولهذا السبب هناك إقبال وفضول من القراء والنخبة المثقفة والباحثين مثل الكاتب محمد السلماوي الذي اعتبر الكتاب خطوة نحو فتح باب النقاش، وأشير إلى أن هناك صحفا مصرية رفضت الكتابة عنه، وأخرى احتفت به رغم أنها ذات توجه إسلامي.

(*) إذاً، كيف تفسر هذه الخطوات التي تتخذها السلطات المصرية إزاء الطائفة اليهودية، ونذكر بأن يهودا شاركوا في كتابك حضروا حفل إعادة افتتاح معبد إلياهو هانبي بالإسكندرية في يناير الماضي؟
ـ نعم، لقد حضر 180 يهوديا مصريا من فرنسا وشاركوا في أداء الصلاة خلال مراسم افتتاح هذا المعبد، وحظوا باستقبال رسمي، ويمكن اختصار موقف السلطات في الكلمة التي ألقاها الدكتور مصطفى الفقي بصفته مستشارا في الرئاسة سابقا ومدير مكتبة الإسكندرية خلال تلك المناسبة،

عندما ذكر أن اليهود اضطهدوا في مصر أيضا، وهو ما يعتبر بمثابة اعتراف أو اعتذار غير مباشر عما لحق بهم في الماضي كتجريدهم من جنسيتهم. ولا أعتقد أن لهذا الأمر أي علاقة بصفقة القرن، بل هو يأتي في إطار صفقة لمحاربة خطابات الكراهية التي تطال المسيحيين والبهائيين أيضاً.