Print
بهاء إيعالي

عيسى مخلوف:لعلّنا إزاء إنذار أخير لعالم على شفا الهاوية

25 مارس 2020
حوارات
لا يمكن اغفال الغنى النوعي في إبداع الشاعر والكاتب اللبناني عيسى مخلوف (1955)، فحصوله على الدكتوراه في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية إضافة لترحاله بين فنزويلا وفرنسا عقب الحرب الأهلية اللبنانية فتحا له آفاقاً ثقافيّة موسوعيّة واسعةً كان لها أثرها على تجربته الشعرية منذ أن صدر له "نجمة أمام الموت أبطأت" عام 1981 حتى كتابه الشعري الأخير "ما سوف يبقى" الذي صدر مؤخراً عن دار التنوير. وقد تنوّعت تجربته في مختلف الحقول الأدبيّة فلم يدخل فقط في عالم الشعر، بل ولج في الترجمة عن الفرنسية والإسبانية وكتب في المسرح. وقد نال جراء ذلك تقديراً فحاز على جائزة "ماكس جاكوب" عام 2009 وترجمت أعماله لعدّةِ لغاتٍ منها الفرنسية والإسبانية.
ومع صدور كتابه الأخير "ما سوف يبقى" مؤخراً عن دار التنوير، إضافةً لطبعةٍ جديدةٍ من دراسته "الأحلام المشرقية- بورخيس في متاهات ألف ليلة وليلة"، كان لنا حوار مع صاحب "رسالة إلى الأختين" وفيه تناقشنا مطوّلاً عن ثيمات النصوص الشعرية وتطرّقنا بعض الشيء إلى تجربته الطويلة مع الشعر والترجمة ورأيه في فيروس كورونا المستجد.



يبقى الحبّ.. ولكن!
(*) بعد عدّة مجموعات شعريّة ونثريّة أبرزها "عزلة الذهب" و"عين السراب" و"رسالة إلى الأختين" و"مدينة في السماء"، ها أنت تعود بـمجموعة جديدة عنوانها "ما سوف يبقى". ما الذي سوف يبقى؟
- لا أدري. لأوّل وهلة، قد أقول: تبقى الصداقة ويبقى الحبّ. تبقى بعض العلاقات الإنسانيّة النادرة والمتجلّية. بعض مظاهر الإبداع حين نخرجها من سياقها النفعي المادّي. وبعض المشاهد الطبيعيّة حين ننسى الجبروت الذي يحرّكها، وكذلك منطق الثنائيات الذي لا يرحم: لا جمال من دون قُبح، ولا نهار من دون ليل، ولا سلام من دون حرب. هذا هو جوابي الأوّل. لكنّي، في أعماقي، أخفي شيئاً مختلفاً تماماً، وقد أقول، بعد تردّد: لن يبقى شيء.

(*) لماذا؟
- لن يبقى شيء إذا استمرّت أحوال العالم على هذه الوتيرة. عالمنا مريض ويزداد مرضه يوماً بعد يوم. صحيح أنّ هناك دائماً قطبين متناقضين، القطب الإيجابي والقطب السلبي، ولم ينتصر فيهما حتى هذه اللحظة، بصورة نهائيّة حاسمة، قطب على آخر، لكنّ القطب السلبي لم يتمتّع يوماً بالقوّة التي يتمتّع بها الآن. مع التطوّر العلمي والثورة التكنولوجية، يخطو العالم خطوات هائلة في ميادين كثيرة منها الطبّ والمواصلات والمعلوماتية والفلك، لكن التقدّم العلمي هو أيضاً تقدّم في صناعة الأسلحة، وفي مقدّمها الأسلحة النوويّة. والتقدّم وضع إمكانات غير مسبوقة في أيدي الممسكين بالسلطة، وهم، في الغالب، من عُتاة المجرمين والسوقيّين والأمّيين، ومن مستغلّي الثروات الطبيعية والبشر.

بإمكان أيّ بلد في العالم الآن، حتى لو كان فقيراً، أن يقتني أجهزة تسمح له بالتجسّس على شعب بأكمله. المشكلة التي يعاني منها العالم اليوم أنّ التقدّم العلمي يتحرّك في أيدي البعض بطريقة بعيدة كلّ البعد عن البعدين الإنساني والأخلاقي. أي أنّ هذا التقدّم بدلاً من أن يكون الهدف منه الحدّ من مشاكل البشر ومساعدتهم على مواجهة التحديات الكبرى، أصبح، في أحيان كثيرة، أداة قهر واستغلال وعبوديّة. دائماً كانت السلطة في يد الأقوى، لكنّنا نشهد الآن على استباحة كاملة للأرض وللإنسان، بل لجميع الكائنات الحيّة، من أجل المزيد من السلطة والربح، مع استمرار الظروف المواتية لمزيد من العنف والنزاعات والحروب. لذلك فإنّ المقياس الأساسي للتحضُّر هو مقياس إنساني لا يتجاهل الأفراد ومتطلّباتهم وتطلّعاتهم وأحاسيسهم وأحلامهم.

(*) ألذلك تختم مجموعتك الجديدة بهذه العبارة: "لا أدري لماذا لم يغادر الشعراء بعدُ مع الطيور المغادرة"؟
- أظنّ أن نسبة كبيرة منهم غادرت أو تستعدّ للمغادرة. مساحة الشعر ضاقت كثيراً وسط هذا الصخب المتزايد. وأصبحت الكتابة الشعرية مهمّشة وضرباً من المغامرة بعد أنّ تمّ إخراجها من الحيّز الاجتماعي العامّ. أصبح التعامل مع الشعر في الغرب اليوم - الشعر بما هو مساحة للتأمّل والإصغاء - أشبه بالتعامل مع اللغة اللاتينيّة البائدة. فالشعر أحد النتاجات التي يصعب تسويقها، وما يصعب تسويقه يضمر وينحلّ حين تصبح المردوديّة المادّيّة هي القيمة الوحيدة. والواقع أنّ ما يتهدّد الشعر اليوم، يطال أيضاً الفلسفة والفكر والعلوم الإنسانية بعامّة والنصوص المسرحيّة. لقد أصبحت هذه المجالات أسيرة دوائر مغلقة قلّما يتمّ التفاعل معها.

(*) من هنا إذاً أصبح الحديث سائداً عن موت الشعر، وتحضر جدليات واسعة حول صحّة هذه العبارة من عدمها. ما هو موقفك من هذا الموضوع؟
- اعتدنا أن نسمع عبارة "موت الشعر"، لكن ما هذا الميت الذي لا نفتأ نتحدّث عن موته منذ أكثر من عقدين من الزمن؟ ما هذا الميت الذي لا يموت ولم نتمكّن بعدُ من دفنه لفرط حيويّته! وإذا كانت الكلمات وحدها لا تكفي لكتابة الشعر فلأنه حالة قبل أن يكون شيئاً مجسّداً، ولا يكفي أنّ نسمّي هذا العمل أو ذاك شعراً ليكون عملاً شعرياً بالفعل.

الشعر رؤية للحياة والعالم تُناقض السائد والمألوف وتتوق إلى فتح آفاق جديدة. وهو يطالعنا في القصيدة كما يطالعنا في اللوحة الفنية أو في الموسيقى والفنون المشهديّة. هل يستقيم أدب أو فنّ من دون هذه الروح الشعريّة؟ هل تبقى الشجرة واقفة في مكانها من دون النسغ الذي يجري في أنسجتها؟ نهاية الشعر، بهذا المعنى، كنهاية النحل. نُفوق النحل، هذه الكائنات الصغيرة النشيطة والضرورية لبقاء البشر على قيد الحياة، يعني القضاء على الكثير من الأشجار والنباتات والأزهار، ويعني اختلال موازين الطبيعة.

(*) قلت منذ قليل إنّ الشعر ليس الصنف الوحيد المهدّد بالاندثار، وذكرت الفلسفة والفكر والعلوم الإنسانية...
- يمكن أن أذكر أيضاً الرواية، هذا الفنّ الجميل الذي يشهد أوج الاهتمام به الآن، شرقاً وغرباً. هناك في الغرب من يتحدّث منذ سنوات عن موت الرواية. أكتفي هنا بذِكر الروائي الفرنسي جان روو، الحائز على جائزة "غونكور"، وهو يشير إلى هذا الحديث في كتابه "الحرب بنسبة قليلة".

يحيل موت الرواية على الموت بكلّ بساطة، ومعه نهاية السرد ونهاية البحث عن الطفولة ومسارات الحياة في ركام السنوات العابرة. بل يمكن أن نضيف هنا أنّ موت الرواية، كما يتخيّله روو وغيره من الروائيين الغربيين، هو موت شهرزاد، أي موت الحكاية التي تساعد، بصورة رمزيّة، على مواجهة الموت. قد نفهم خوف الكاتب الفرنسي من موت الرواية ووضعها في "متحف الفنون التقليدية الشعبية"، كما يقول، لأنّ طفرة الكتابة الروائيّة، وبالطريقة التي يتعامل معها رأس المال ويسعى إلى تدجينها والاستفادة منها كسلعة إلى أقصى الحدود، تجد نفسها في دائرة الخطر بسبب ما يتهدّدها من متاجرة وتلاعب وتزوير. ماذا يعني أن يصدر في فرنسا سنوياً، مطلع كلّ موسم أدبي، أكثر من ستمئة عمل روائي؟ أين ستذهب هذه الإصدارات، لمن، وما مصيرها؟ وهل من حركة نقديّة فعليّة تواكبها؟

(*) تحمل غالبية قصائد مجموعتك الجديدة أفكاراً ينظر إليها بشكلٍ خاطفٍ مع خروج "الأنا" من النصّ على غرار فكرة الشاعر الفرنسي فرنسيس بونج. أهذا الخروج نوعٌ من "الافتتان بالكواليس" أم تبرئة النفس من شعرية الفكرة؟
- لا أظنّ أنّ الأفكار تطفو على سطح هذه القصائد. هناك هواجس وحالات تظهر لكن بصيغة شعريّة. هناك قلق وتساؤل وحيرة. والمفرد، هنا، يلامس الجمع. السَّفَر في الذات، في الأزمنة والأمكنة، هو سَفَر إنساني وجمالي في الدرجة الأولى ويذهب، من خلال الشعر، إلى حدّه الأقصى.



فعل القراءة والكتابة داخل النيران المشتعلة
(*) تأتي ثيمة النصوص في هذه المجموعة عنيفة في تعريفها للمآسي والصراعات البشريّة الأزلية، والتي تبدو فيها مسلّماً بلانهائيّتها. كيف يمكن الحديث اليوم عن استحضار الكتابة في الحديث عن العنف؟ وكيف ترى كتابة الشعر للعنف؟
- قد تكون الكتابة بحثاً دائماً عن مصالحة مع الذات والآخر، واقتراباً من سؤال الموت، وردّ فعل على العنف السائد، المادّي والمعنوي. عنف الحروب التي لم تهدأ يوماً. تتقنّع بالدين حيناً، وحيناً آخر بـ"الدفاع عن شرف الأمّة"، أو بالمناداة بالحرية وحقوق الإنسان، لكن هدفها واحد: السلطة والاستئثار والقتل.

أما الحروب العربية فلا تتوقّف منذ مئات السنين، الحروب الأهلية ومعها الحرب السنّية الشيعيّة وهي أطول حرب في التاريخ. كأنه لا يكفي المنطقة العربية ما تفعله الدول الطامعة بثرواتها الطبيعية وبموقعها الاستراتيجي. ينحرونها وتنتحر في وقت واحد. وهذا الانقضاض الأعمى على شعوب بأكملها من سورية إلى العراق ومن ليبيا إلى اليمن، في مناخ يُعمِّم الجهل والفقر وانعدام الحرّية والسعي الدائم إلى محو الآخر. من يجرؤ على التفكير في تلك البقعة من العالم مُلاحَق ومدان، من يطالب بحقوقه ويستنكر الظلم ويرفض الفساد هو عميل وتابع للصهيونية والإمبريالية. العالم العربي جحيم حيّ يفوق تصوُّرات الأديان التوحيدية للجحيم، ويفوق مخيّلة الأدباء عبر التاريخ، من المعرّي إلى دانتي. وهو تجسيد للعنف في أقصى حالاته: في ممارسة السلطة وفي الاستبداد وفي التعصّب الديني وفي غياب الحرّية وفي تأليه الماضي وتكريس العبوديّة والتعاطي مع البشر بصفتهم قطعانَ غنم. أيّ عيش هو هذا العيش؟ وهل تظنّ أنّ فعل القراءة والكتابة داخل هذه النيران المشتعلة أمر سهل وممكن؟

(*) لكن الكتابة تأتي من مكان آخر مناقض لهذا الواقع...
- صحيح. الكتابة الفعلية مرادف للخروج من المسلّمات ومن منطق الحلال والحرام. لن يدخل العالم العربي في العالم الحديث، ولن يكون له موقع في العصر، من دون تغليب العقل وبناء دول مدنية ديمقراطية. أما الواقع العربي اليوم فيعمل على تجريد الإنسان من إنسانيّته بالتواطؤ مع دول عظمى لا تعنيها سوى مصالحها وحساباتها الخاصة.

والعنف في العالم العربي لا يقتصر على عنف السلطة السياسيّة وحدها وأدواتها ومحاربة من يعارضها واللجوء إلى تصفيته الجسديّة في أحيان كثيرة. إنه أيضاً عنف الناس ضدّ بعضهم بعضاً وضد المثقفين والطوائف والعائلات والعشائر. من يختلف معنا في الرأي لا نعاديه وحده فقط بل نلغي نتاجه. يفقد في عيوننا بُعده الإنساني ويصبح تحطيمه جائزاً. نبرّر إلغاءه من الوجود. 

(*) نلاحظ أيضاً في مجموعة "ما سوف يبقى" أنها تتألّف من أقسام وأنّ عناوين القصائد ما هي إلاّ عناوين فرعية لقصيدة طويلة واحدة. تحت أيّ معيارٍ يأتي تقسيم الكتاب لديك؟
- صحيح، هناك خيط واحد يجمع بين القصائد ويوحّدها فتبدو كأنها قصيدة واحدة غير مجزّأة. البنية الفنية واحدة والإيقاع العميق واحد.


(*) "أموت ولا تدري وأنت قتلتني"، بهذه الكلمات لأبي نواس تفتتح القسم السادس من الكتاب وعنوانه "موسيقى مرئية". هل في علاقتك، كشاعرٍ حداثي، بالتراث استناد إلى النظرية الداعية إلى تحديث التراث ليواكب النهوض الحاضر، أم استناد إلى النظرية التصوّفية القائلة بالارتحال في التراث لفهم الحاضر؟
- يعيش العالم العربي اليوم في الجانب المظلم من الماضي ومن التراث. هناك انقضاض قلّ مثيله على الجوانب المضيئة في هذا التراث وتتمثّل في البُعدين العقلاني والجمالي. المنضوون في حركات الإسلام السياسي لا تعنيهم هذه الجوانب بل يتضايقون من وجودها لأنها لا تتلاءم مع تكوينهم بالذات، ولأنّ هدفهم الأعلى أسلمة كاملة للمجتمع تطال الثقافة والفكر والفنّ والتربية والتعليم، بل وسبل الحياة بأكملها. وجود هؤلاء لا يأتي من عدم، بل له ظروف داخلية ذاتية من جهة، وخارجية موضوعية من جهة أخرى.

من الظروف الذاتية، مسؤولية الأنظمة الحاكمة التي لم تهتمّ بالعلم ولم تضع سياسة تعليمية حديثة تواكب تحدّيات الزمن الحديث ومتطلّباته، بل إنّ بعضها لاحق المتعلّمين والمفكرين التنويريين وصادر كتبهم واعتقلهم، أو قتلهم، أو دفهم دفعاً إلى الهرب. هذه الأنظمة ساهمت في تهيئة المناخ اللازم للتطرّف ورفض الاختلاف. على صعيد آخر، الحداثة لا تنحصر في زمان ومكان محدّدين. تطالعنا الحداثة، أحياناً، في نصّ شعري كُتبَ منذ ألف عام أكثر ممّا تطالعنا في نسبة كبيرة من الشعر الذي يُكتَب الآن. بهذا المعنى، أبو نواس شاعر حديث. لا ينطبق هذا الكلام على الشعر وحده، بل على كافّة الفنون. جولة في متاحف العالم تُظهر لنا حداثة بعض الأعمال الفنية التي وصلتنا من حضارات بعيدة، وقد تركت أثرها البيِّن على الكثير من روّاد الفنّ في زمننا الحالي.

(*) هناك بروز واضحٌ لدور الذاكرة في عالم المجموعة الشعري، بدءاً من العنوان "ما سوف يبقى" حتّى: "إلاّ موجة واحدة ستظلّ تصعد أمام ناظريك إلى ما لا نهاية". تحت أيّ مسمّياتٍ يمكننا الحديث عن ذاكرة المغترب الشاعر وأثرها على شعره؟
- قد يكون طعم الغربة داخل الأوطان المعتلّة أكثر حدّة منه في مجتمعات تحترم حقوق الإنسان وحرّيته. مع تطوّر وسائل النقل والمواصلات، لم يعد للسفر المعنى الذي كان له في السابق. السفر بما هو انتقال من مكان إلى آخر ليس دائماً مصدر غربة، بل مصدر ثراء. "فاغترب تتجدّد" يقول أبو تمّام. وممّا يقوله ريلكه: "لكي تكتب بيت شعر واحد، ينبغي أن تكون قد شاهدتَ الكثير من المدن والبشر والأشياء. أن تعرف الحيوانات وترى كيف تطير الطيور. أن تدرك حركة الأزهار الصغيرة وهي تتفتّح في الصباح. ينبغي أن تكون قادراً على التفكير من جديد في مسالك المناطق المجهولة وفي لقاءات غير متوقّعة. ينبغي أن تتذكّر ليالي حبّ كثيرة لا تشبه الواحدة منها الأخرى. ولا يكفي أن تمتلك ذكريات، بل عليك أن تعرف كيف تنساها عندما تكون كثيرة، وعليك أن تتحلّى بالصبر الكبير لتنتظر عودتها. لأنّ الذكريات لا تكتمل فعلاً إلاّ عندما تصبح دماً يجري فينا، نظرة، حركة. عندما لا يعود لها اسم ويتعذّر التمييز بينها وبيننا. عندئذ، فقط، يمكن أن تستيقظ منها، في ساعة نادرة جداً، كلمة الشعر الأولى". ألسنا محصّلة الأسفار والقراءات وكلّ ما نراه ونسمعه، كلّ ما يتدخّل في بلورة مشاعرنا وحتى في طريقة التعبير عنها؟

 (*) بعد مجموعة "عزلة الذهب" كتبتَ ثلاثة كتب بأسلوب تتلاشى فيه المسافة بين النثر والشعر، وهي على التوالي: "عين السراب"، "رسالة إلى الأختين" و"مدينة في السماء"، لكنك عدتَ في مجموعتك الأخيرة "ما سوف يبقى" إلى كتابة القصيدة المكثّفة، كيف تفسّر هذه العودة؟
- بالنسبة إليّ، لا يكمن الفرق في شكل التعبير بقدر ما هو في الهاجس الذي يقف وراءه. في الكتب الثلاثة الماضية كان النصّ حرّاً يزاوج بين الشعر والحكاية والسيرة الذاتيّة والتأمّل الفلسفي. أمّا في الكتاب الجديد فكان يسعى إلى القبض على اللحظة الشعريّة المكثّفة فحسب.

الشعرية
(*) يُعرّف تزفيتان تودوروف الشعرية على أنّها مرتبطةٌ بكافة أشكال الأدب شعراً ونثراً وسرداً. أيصحّ القول إن الظواهر الأدبية اليوم اعتراف بنظرية تودوروف؟ كيف يمكن الحديث عنها في ضوء تجربتك؟
- سبق أن حَضرَت هذه الشعريّة في نصوص مفتوحة كثيرة، من الأساطير إلى بعض النصوص الدينية. وتحضر في الكتابات الأدبية، ماضياً وحاضراً. مواقف النفّري ومخاطباته، مثلاً، أو النصوص المسرحيّة للشاعر اللبناني باللغة الفرنسية جورج شحادة، كأن نسمعه يقول في إحداها: "وحده الأبديّ لون العصافير". الشعريّة موجودة أيضاً في سائر الفنون، كما سبق أن ذكرنا. إنها المناخ الذي يشيعه هذا العمل الفنّي أو ذاك. وهي، بمعنى ما، روح العمل ونواته الصلبة. إنها الطريقة والمنهج والرؤية.

(*) معروفٌ عنك خوضك في الترجمة من عدّة بوابات، فما هي نظرتك إليها من زاوية تصارع اللغات؟
- تستقيم الترجمة في تفاعل اللغات فيما بينها. يقول أومبرتو أيكو إنّ "لغة أوروبا هي الترجمة". لغة المترجم هي ثقافته أيضاً وقدرته على إبداع النصّ في معادلات لغوية تحاكي الأصل. ومن المعروف أنّ الترجمة الأدبيّة تختلف عن الترجمة العلميّة، وحتى عن ترجمة العلوم الإنسانيّة.

ترجمة القصيدة مثلاً تقتضي معرفة عميقة باللغتين، وقدرة على التقاط الإيقاع العميق الذي ينطوي عليه النصّ الشعري، مثلما تقتضي ترجمة الفكر معرفة فكرية وترجمة العلوم معرفة علمية. مناقشة هذا الموضوع تحتاج إلى حيّز أوسع. فمثلاً ترجمتي لمسرحيّة "مهاجر بريسبان" كانت بمثابة تحدّ لا يخلو من شعور بالذنب، لأنّ كاتبها جورج شحادة لم يكن يحبّذ ترجمة نتاجه الشعريّ، وهو شاعر في كلّ ما كتب.

(*) هناك عدد من كتبك ونصوصك النثريّة والشعرية صدرت ترجمته في لغات عدّة منها الفرنسية والإنكليزيّة والإسبانيّة. ما هو تقييمك لهذه الترجمات وأنت تعرف بعض اللغات التي نُقلت إليها؟
- فعل الترجمة ينطوي على تحدّ كبير، وهو فعل إبداعي قائم بذاته. كان لكتبي الحظّ في أن ينقلها إلى اللغة الفرنسيّة مثلاً كلّ من جمال الدين بن شيخ ونبيل الأظن وعبد اللطيف اللعبي وفيليب فيغرو. ولقد تمكّن هؤلاء من تقديم نصوص تحاكي الأصل وتتماهى معه. يولد الكتاب من جديد مع انتقاله، كلّ مرّة، من لغة إلى أخرى.

(*) صدرت منذ مدّة وجيزةٍ الطبعة الثانية من دراستك "الأحلام المشرقية- بورخيس في متاهات ألف ليلةٍ وليلة". لماذا بورخيس بالتحديد، وما الذي أردت إيصاله من خلال هذا الكتاب؟
- بعد أشهر من وصولي إلى باريس، التقيت بورخيس وكان آتياً من إيطاليا. جئت إليه لأرى من يكون هذا المؤلّف الذي كتب بهذه الغرابة وبهذه القدرة على استيعاب الثقافات العالمية وآدابها، ومنها الموروثان الثقافيان العربي والإسلامي. كتابي عنه مدخل متواضع إلى عالمه الأدبي وإلى ثقافته الموسوعيّة، وكذلك إلى تفاعله مع حكايات "ألف ليلة وليلة" وكتابات ابن رشد وغيره من الفلاسفة والكتّاب. كان الكتاب أيضاً مناسبة لنقل بعض نصوص بورخيس من أصلها الإسباني إلى اللغة العربية. الطبعة الأولى من هذا الكتاب كانت قد صدرت عن "دار النهار للنشر" في بيروت، أمّا الطبعة الجديدة المنقّحة، فصدرت عن "مؤسّسة بتانة الثقافية" في القاهرة. بورخيس الذي ينتمي إلى سلالة الكتّاب العميان (هوميروس والمعرّي وميلتون) ظلّ حتى نهاية حياته يقتني الكتب ويملأ بها مكتبته ويتخيّلها متسائلاً: "كيف لا تمتزج في الليل حروف كتاب مُغلَق؟".

عيسى مخلوف و إيتيل عدنان 


















كورونا..
(*) عندما بدأنا هذا الحديث، لم يكن انتشر بعدُ فيروس كورونا. هذا الفيروس الذي يقضّ مضجع العالم، كيف تنظر إليه وكيف تعيش هذه التجربة؟
- أعيشها مثل الجميع، بحذر وترقُّب. ظنّ الناس أنّ الأوبئة القاتلة تنتمي إلى الماضي البعيد، مثل الطاعون الأسود الذي قضى على نصف أوروبا خلال القرن الرابع عشر، و"الإنفلونزا الإسبانية" التي انتشرت عقب الحرب العالمية الأولى وأودت بحياة عشرات الملايين. إنّ تَقدُّم العلم والطبّ سيرورة دائمة لا تنتهي، ولذلك لا يمكن الحديث عن سيطرة مُطلقة على الأمراض والجراثيم، ولا نعرف أصلاً ماذا يختبئ في جعبة الطبيعة.

من هنا، ضرورة التركيز على التعليم والبحث العلمي والمختبرات العلميّة والطبية وإعطاء هذا المجال الحيوي الاهتمام الأكبر. آمل أن تكون هذه المحنة التي نتعرّض لها اليوم حافزاً لوعي عميق ولتغيير جذري ينعكس على مستقبل البشريّة جمعاء، بعد أن أصبح كلّ شيء مباحاً من أجل خدمة رأس المال، حتى لو اقتضى الأمر التضحية بالأرض نفسها. سفينة التايتانيك كانت فتحاً تقنياً وكانت السفينة الأكثر سرعة في زمانها، ومع ذلك أراد المشرفون عليها أن يزيدوا من سرعتها فغيّروا الوجهة المعتادة للوصول إلى نيويورك، وأخذوا طريقاً أخرى أوصلتهم إلى جبل الجليد. اليوم، ومع التكنولوجيات الجديدة، ضاعف العالم من وتيرة سرعته، لكنها سرعة مجتزأة ومتفاوتة تنحاز إلى المردوديّة المادّية التي أشرنا إليها في بداية هذا الحوار، وليس إلى القضاء على المجاعة والأمّيّة والعبودية والإقصاء والاستغلال والظلم. الربح هو المعيار والقيمة. القيمة المادية للّوحة الفنية أهم من قيمتها الجماليّة. قيمة لاعب الفوتبول تجاوزت قيمة أينشتاين، وأصبحت عارضة الأزياء وصانع العطور وبائع الأوهام أكثر حضوراً وثقلاً من كبار المفكّرين والكتّاب والموسيقيين على العموم.


(*) ألا تظنّ أنّ ما يحدث الآن قد يفرض واقعاً جديداً لم نعهده من قبل؟
- غداً، بعد أن تنتهي عاصفة الكورونا، ويتمّ درسها وتقييم الخسائر وتحديد طُرق مواجهتها، إمّا أن يعاد النظر في أسس المجتمعات والدول، وفي التعامل مع الإنسان والبيئة، ضمن رؤى مستحدثة تأخذ في الاعتبار المصير المشترك للثقافات والشعوب، وإمّا أن تستمرّ حفلة الرقص على حافّة الهاوية المعروفة نتائجها مسبقاً. نعم، ستنتهي العاصفة كما ينتهي كلّ شيء. ولعلّ هذه التجربة ستجعلنا ننتصر لحياة أفضل. لعلّها ستدفعنا إلى تأسيس عالم جديد يكون أكثر إنسانيّة وأكثر رحمة.

(*) ماذا ترغب أن تقول ككلمة ختاميّة؟
- أن نتمسّك بلحظة البرق مهما اشتدّ الظلام وتراكم الخوف، أن ننتصر للعقل في ضبط الغرائز، وألاّ يتوقّف الطائر عن الطيران، والعازف عن العزف، والكاتب عن الكتابة، والقارئ عن القراءة. بذلك فقط قد نستطيع أن نواجه ما حولنا وما فينا من عنف ودمار وخواء، بل أن نحوّل الخواء ونجعله شيئاً آخر. ألم يقل نيتشه في إحدى إشراقاته: "ينبغي أن نحمل في داخلنا سديماً لنتمكّن من إنجاب نجمة ترقص"؟