Print
عماد الدين موسى

عبدالهادي سعدون عن إصابته بكورونا: أصعب من أي تخيّل

25 أبريل 2020
حوارات

أُصيبَ الكاتب والروائي والمُترجم العراقي عبد الهادي سعدون مؤخراً بفيروس كورونا، حيثُ كتبَ حول ذلك على صفحته في موقع فيسبوك، منوّهاً بتماثله للشفاء بعد معاناة/ مقاومةٍ امتدّتْ لأسابيع. سعدون- المولود في مدينة بغداد سنة 1968، والمقيم في إسبانيا منذ نهاية 1993- حاصل على الدكتوراه من كلية الأدب والفلسفة من جامعة مدريد- أوتونوما. يعمل بالتدريس والترجمة والنشر، وهو أستاذ محاضر في عدة جامعات عربية وأوروبية، مختص بالأدب واللغة الإسبانية.
نال جوائز أدبية مختلفة منها: جائزة أدب الطفل العربي 1997، جائزة أنطونيو ماتشادو العالمية للشعر 2009، جائزة مدينة سلمانكا الإسبانية للتميز الأدبي 2016، وجائزة الترجمة الأدبية باللغة الإسبانية (مارثيلو ريس) 2018.
وله عشرات الكتب الأدبيّة بالعربيّة والإسبانيّة، صدرت بين عامي 1996 و2020، نذكر منها: "كنوز غرناطة، رواية للأطفال (1997)"، "ليس سوى ريح، شعر (2000)"، "عصفور الفم، شعر (2006)"، "دائماً، شعر بالعربية والإسبانية (2010)"، "مذكرات كلب عراقي، رواية (2012)". "توستالا، قصص (2014)"، "3030 العودة إلى الأرض، رواية خيال علمي (2015)"، "تقرير عن السرقة، رواية (2020)".
هنا حوار معه:





(*) كتبتَ مؤخراً عبر صفحتك في فيسبوك عن إصابتك بجائحة (كورونا) ومن ثمّ عن شفائك؛ حبّذا لو تحدّثنا عن معانتك مع هذا المرض المرعب؟
- كما تعرف كتبت عن مشاعري في تلك الأيام في ذلك النص الذي نشرته في الفيسبوك لأقول لأحبتي إنني ما زلت حياً ولألوح لهم بيدي من الضفة نفسها.

والحقيقة أنه ليس النص الكامل ولا هي المشاعر المـتأزمة كاملة. فيروس كورونا يعشش لأيام طويلة قبل أن تظهر الأعراض على الواحد منا، ولا بد أنني قد أصبت به من مكان ما من محيطي اليومي، خاصة وأنني كثير التردد على الأماكن العامة والمقاهي وفي مجتمع متوسطي مثل إسبانيا كثير التلامس والاحتضان والتلاقي. على العموم الكورونا من الممكن أن يلقفك في أي حالة حتى تلك التي لا تتصورها. أمضيت الأسبوع الأول من 20 يوم تقريباً من الإصابة منطرحاً في الفراش، كل الأعراض المعروفة عن المرض اخترقتني بشراسة، ما عدا الحاجة لجهاز تنفس أو تطبيب عال، لهذا أمضيتها في البيت في غرفة حاولت فيها ان أكون منعزلاً عن أفراد عائلتي. الصراع مع الفيروس بتبدل الضربات من طبول الرأس حتى سعال الصدر القاتل إلى جسد منك لا قوة فيه، أو كلها مع بعض في توافق لعين لا تجعلك بقادر على فعل أي شيء ولا حتى فتح العينين. أعتقد أن شفائي ربما يعود إلى طاقة الجسد القوي وحتماً الإصرار على الحياة... ولما لا (لنتذكر الكبار من أهالينا) القسمة والقدر حتمت عليّ المرور به ومجابهته والخروج من المعركة منتصراً.. حتى اليوم!

 


(*) ما كتبته وثيقة تصف فيها لحظات الدفاع عن الحياة بـ(الموت)، أنت في (الموت) تجادله بـ(الحياة)؛ كيف صبرت؟
- ليس هناك من دافع أمام النهاية السريعة غير المجابهة ببهجة الحياة. مع الحياة وتشبثك بها ما يبقيك بعيداً عن شرك الشر الأكبر. الموت بحد ذاته ليس مخيفاً، المخيف أن تترك الحياة فجأة وما زال أمامك آمال ومشاريع وحياة مدهشة مع أهلك. المخيف كما قلت في النص هو مجابهة المجهول.

 

(*) كما قرأتُ في مدونتك، كُنْتَ تشعرُ- دعني أستعمل هذا التعبير- الأمل من أعماقك. هل الأمل هو من ربح المعركة؟
- بكل تأكيد، الأمل بأن هناك ما يستحق الإمساك به في هذه الحياة، أمل الصحبة والأهل والكلمات الطيبة. لا أعتقد أن هناك رابحاً حقيقياً في معركة الكورونا، لأنني وإن خرجت سالماً، فقد قضى على أحبة وبشر عرفتهم وأعرفهم، وهذا بحد ذاته خسارة وفاجعة مهلكة. الأمل هو أن تجد في روحك القوة الدافعة لإنهاض الجسد المنهك. وهو ما حاولته طوال تلك الأيام. العمر قصير بأية حال، وما يجعل من حياتنا معنى هو الأمل والرفقة الرائعة.

 

(*) أكثر من ذكرته وقوّى إحساسك بالحياة والتمسّك بها كان طفلتاك. فهل هما من شغلتاك؟
- بالطبع وهذا ما كررته وأكرره هنا. نحن البشر (على الاقل أنا) عاطفيون بطبيعة الحال، ولا أذكر أنني بكيت حرقة مثلما حصل معي تلك الأيام وأنا لا أستطيع احتضان ابنتاي أو تقبيلهما ورؤيتهما بشكل طبيعي، شيء لم يحصل معي منذ وفاة والدتي.  لكن مع ذلك لا بد من ذكر شيء مهم هنا، أن الواحد منا يتذكر الأهل والصحب والمناسبات الرائعة في الحياة في أشد اللحظات تأزماً وهذه طبيعة بشرية. نحن في النهاية كائنات عائلية نحِنُ للأقرب منا في العاطفة وفي القرب المكاني. على أية حال ابنتاي هما وريد حياتي الحقيقي. والنص في كل الأحوال ليس النص الكامل، بل مجتزأ منه كما ذكرت. لم أرد به تمجيد أحد عن أحد. أردت به تمجيد الحياة قبل كل شيء. والحياة في النهاية هي الأحبة كلهم بلا استثناء.

كورونا... معادلة أصعب من كل تخيلاتنا 

















(*) بدوتَ وجوديّاً لكنك اقتربت أو وطئت عتبات العدم، كيف تفلسف هاتين اللحظتين وأنت تصارع هذا الفيروس؟
- الحقيقة الحالة كلها تخرج من الواقع لتقع في حفرة العدمية، وإلا منْ يستطيع تفسير حالة تمر بها الإنسانية مع وباء الكورونا. كلها تفسيرات علمية وطبية، ولكنها خارجة عن المشاعر والوقائع وكلها تصب في العدم أو الخارق أو المجهول. صدقني ليس هناك أكثر مني واقعية وتشبثاً بروتينية الواقع الحياتي وفهمي له، لكن الحالة التي نمر بها (ومررت بها شخصياً ولو بشكل عابر لأنني لم أمت فيها) تكاد تمثل أكثر المشاهد الخارقة والعدمية في مسرحية البشر والآلهة الخفية!

 

(*) كنت تعرف وتقرّ في أعماقك أنّك ملاقٍ حتفك على يد هذا المتخفي الذي تسلل غدراً إلى رئتيك. هل كنت تلعب معه؟
- لا إطلاقاً، الكورونا لم يكن مستعداً للعب، وإلا لكنت أكثر استراحة ولم أحتج لمصارعة شديدة ولا حتى كتابة نص ولا كان هناك داع لهذه المقابلة مثلاً. أتصور المسألة بهذه الهيئة: هناك من يركب عليك بكل ثقله وعفشه وأشيائه الثقيلة ويطلب منك أن تمضي في حياتك.

هناك نقطة واحدة، وهي الاستسلام أو التحمل حتى تتخلص منه ومن أثقاله تدريجياً. الحقيقة أنني في لحظات معينة من رقاد السرير كنت توصلت بحالة من العبثية ومناداة غريبة أن تنتهي كل هذه الأوجاع حتى لو كان فيها النهاية المحتومة. لكننا، وهذا ما أدركته من حياتي الطويلة نسبياً، لا نسير في درب واحد (أقصد الجسد والروح) بل في مسارين متوازيين ولا بد من التوافق بينهما، ولا مجال لواحد منهما أن يمضي دون موافقة الآخر. المعادلة أصعب من كل تخيلاتنا، لأن الحياة والموت بحد ذاتهما معضلة البشرية كلها، منذ كلكامش والبحث عن عشبة الخلود حتى آخر واحد منا في هذا العصر وهو يبحث عن إجابة دقيقة لسؤال مُهلك.

نحن في النهاية كائنات عائلية نحِنُ للأقرب منا في العاطفة وفي القرب المكاني 

















(*) هي مواجهة، أو مبارزة غير متكافئة أو حرّة كما اعتبرت، ومع خصم بقدر ما هو ضعيف بقدر ما هو قوي. ماذا لو كان شخصيّة، أو أنه بطل لمشروع رواية، وأن الكتابة في مثل حالتك هي تجربة شخصية حية وليست (تخييلية) كما عند ألبير كامو في روايته "الطاعون"؟
- لا أعتقد ان كل ما نمر به من وقائع يصلح لأن نكتبه في نصوص روائية أو قصصية. لا أجدني اليوم مستعداً لذلك، ولكن قد يخرج في نص بعد سنين لسبب معين. الواقع ليس منبراً صالحاً لكل النصوص. تجربتي عندما كتبتها في هذا النص القصير، غرضه إثبات النجاة، مثل غريق سفينة في بحر ويصل الساحل ولا يخطر على باله سوى أن يخط على الرمل بكلمات النجدة والتذكير بخلاصه ووجوده في هذا الكون. على العموم الصراع مع الفيروس ليس حراً بالمرة، بل أشبه بمصارعة غير نزيهة بالمرة، لأنك طرف فيها دون إرادة ولا أمامك حلول معينة سوى الاستمرار بالنزال حتى النهاية.

 

(*) ألا تجد أنّ هناك فرقاً بعد هذه التجربة- الواقعة، بين وقائع مفترضة ومتخيلة، ووقائع/ صراعات عشتها بنفسك، كونها مع الموت وليس مع امرأة تعشقها، أو مع حاكم طاغية لأنك معارض له؟
- طبعاً، لكن الخيال يجبرك على النحت والتصور والخروج بأحكام وتصورات معينة. أما الواقع فلا يمنحك أكثر من تذكر الواقعة وأن تصبها وتكتبها بطريقتك دون خروج عن الواقعة. لهذا نكتب عن كل هذه النماذج البشرية والحالات بحرية مع خلط خبرة ومعلومات وإيقاع ونفس قصصي خاص. الواقع يجبرك على النظر بعينيه في كل اللحظات أنه لا يمكنك أن تطفر حواجزه لمجرد الرغبة. وواقع ما عشته من معاناة ونعيشه كلنا في هذه الأشهر من حصار كورونا، حالة يصعب تصورها خارج منظومة الواقع وظروفه ومناخاته.

 

(*) هل من فكرة عمل ما يراودك، بعد تجاوزك لهذه المحنة؟
- ما زلت حتى اللحظة أدور في مناخها لأنني لم أتجاوزها بالكامل. الفيروس لم ينته وما زلت جزءاً من مجتمع يعاني منه، ناس أحبهم وأحيا معهم الظروف يمرون بها الآن وسيمرون بها لسوء الحظ ولشراسة الفيروس. ليس في رأسي من عمل أدبي غير التمتع بلحظات الحياة الآن، أما ما سيأتي بعد ذلك فلا أتحكم به ولا أخطط له الآن.

سعدون: لا أعتقد ان كل ما نمر به من وقائع يصلح لأن نكتبه في نصوص روائية أو قصصية