Print
أسعد الجبوري

بريد السماء الافتراضي.. حوار مع الشاعر الصوفي ابن الفارض

16 يونيو 2020
حوارات
حسب ما اتفقنا عليه عبر الشبكة العمومية لاتصالات الأرواح، كنا على موعدٍ معه في الطبقة الأولى من تلك السموات. لذا، وما إن حطّ طائر (التوكو النفاث) بنا الرحالَ هناك، وإذا بالشاعر عمر ابن الفارض على مسافة أمتار منا. رأيناهُ واقفًا في طابور طويل لا نهاية له، وهو ينشدُ على مسامع أقوام من العرب والعجم مقاطع من كلمات مَشْحُونَةٍ بأنفاس الصَبابَة والتأسي.
ولمّا استفسرنا عمّا يفعله الواقفون في ذاك الطابور المهول، أجابنا أحدهم: وإنما هؤلاء صوفيون على لائحة الانتظار، لا يبتغون إلا التبرك بالعطر الإلهي.
اقتربنا آنذاك منه قليلًا، لنُعلِمَ ابن الفارض بوصولنا حسب موعدنا في المكان والزمان. وما إن شاهدنا منتظرين، حتى استأذننا على قضاء بعض الوقت لينهي إنشاد ما لديه أمام كورس من متدربين على أعمال التقشف والصبر والابتهالات الوجدانية، لينضمَ إلينا بعد ذلك وهو في لباس فضفاف لون قماشه من البنفسج.
هكذا سمعناه يطلق ما في جوفه مناجيًا ومبتهلًا وهو يقول:
يا مالكَ العرش والقوة وجواهر البيان. يا صانعَ المجرات والأبحر والأكوان. أتيتك هائمًا من جرح شمسي. أبتغي غفران ما جرى من سوء لنفسي. أنا من حملني إليكَ الريحُ من أول الزمان. أنا المقيدُ بمجدك يا خالقَ ما قبل الإنسان من معارف العرفان.
أنا الذي مهما تسلّقتُ سلالّم الدنيا لا ينتهي بحكمك مطافي. ولا وصلتْ روحي القطرةٌ لبحرك الصافي. فأنت مطهري من كل أثم عميق بربري. يا من مَوّجَ النبض بقلبي وصبّ الحديد بعمودي الفقري. يا موقد النارَ بخيالي الشاعري. ومحرك نشوةَ النعيم بباطني وظاهري. فكيف يكون المقامُ بمجرى عشقك العبقري. يا عارفًا ما بنفسي من حقول وغابات وجبال. ومبرمجًا ما في الرأس من خيال. يا عاليًا ما بعدهُ علو في مقام. يا مدركنا في النوم والرعشة والخوف والهيام. أنت الذي ترصدُ خطانا نهارًا وتحت خط الظلام. يا مؤسسَ البلاغة في عقول المجتهدين. وخاذلُ التائهين من لصوص وأميين. إلهي يا ماسكَ دفتر الذنوبِ والذكريات. يا مصححَ العقول والفنون والمصطلحات. أنت يا راسمَ خرائط الوجود والعدم. أنا محضُ نملةُ لك في جيوش الخدم.
أعوذُ من برهة استغفال جبروتك المشرق في مسلّة الأسماء. يا إله الماء والكهرباء.
وما إن انتهى عمر بن الفارض من نشيدهِ الابتهالي، حتى هرع نحونا. غمرنا بالأحضان، ثم قام باصطحابنا إلى قلعته المرتفعة على جبل التبر الأزرق، هناك جلسنا نتناولُ الكرز مع الجعة، لندخل من بعد ذلك في موقد هذا الحوار. قلنا له:

 

 

(*) كم من الأبواب للأرض كما تعلمُ يا ابن الفارض؟
كما يُشيرُ لي عقلي، هي أبواب لا تُعدّ ولا تحصى. فكلّ قبر في الأرض له بابٌ يفضي إلى الله.


(*) أهي أبواب مشتركةٌ يخرج منها المؤمنون أسوةً بالكفار من المكان ذاته؟
لا أظنُ ذلك. الكافرون يصعدون كما النفاثات إلى السماء، فيما يتسلقُ المؤمنون الحبالَ وصولًا إلى الجنة، حيث لا يؤمنُ أحدهم بضرورة التزود بالمحروقات التي تنفثُ بها المركبات، مدعومين بضلالة أن من قام بحفر آبار النفط هم عظماء الملحدين من الغرب.

(*) وكم من باب تفضي إلى السموات بعلمِ ابن الفارض؟
ليس غير باب واحدٍ هو النفس.

(*) وما العمل؟ على حدّ قول لينين، فيما لو كان باب النفس ضيقًا، أو مواربًا، أو مقفلًا، أو كان بابًا بلا دَرَفات؟
إن كان البابُ ضيقًا، فسيوسعُ الله الطريق في رأس العابر. وإذا وجدَ أحدٌ مِصْراعَي الباب مُحَطَمًا، فستكون رحلة الروح متعثرة، وقد لا تصلُ إلى مبتغاها بملايين السنين. أما الباب المغلق، أو باب الآخرة، فصاحبهُ بنومٍ عميق، وتسكنه الراحةُ.

(*) تعني أنه يفضل النومَ قيلولةً تحت التراب، قبيل التحليق الضوئي في مجرى البرزخ؟
بالضبط. وذلك خيارُ من يخرج من البَرزخِ، حاملًا بنفسه حجابًا، يضعهُ حاجزًا ترابيًا ما بين الموت والبعْث إلى يوم الدين.

(*) هل تعتقد بأن من نشأ في جبّة والده يستطيع التحكمَ بنمو بنيته على حسابه الشخصي، وبنفسه، كما تعلمت أنتَ الفقه، وسواه، على يدي والدك؟
أجل. علّمني والدي كثيرًا من العلوم. وعندما شعرتُ بقدرتي على النمو الفرديّ، سرعان ما 

انفصلت عنه مغادرًا عالمه إلى منابع أخرى.

(*) هل تقصد منابعَ ابن عساكر، أبو محمد القاسم؟
أجل. فهو الذي أغواني، وفتح لي الطريق إلى علم الحديث والفقه، حتى صعدتُ على سلالم التصوف، فتصوفت.

(*) هل التصوفُ مادةٌ خام؟
كلُّ طريقة لتفريغ الذات من الشوائب تحتاج مادةً سريعة الاشتعال. ولم يكن الصوف بعيدًا عن تأجيج نيران تلك المحرقة بالتأكيد.

(*) ومتى كان التصوف من اشتقاقات ذلك الصوف ليبلغَ واحدةً من درجات النار؟
الرقصُ هو الأصل.

(*) هل تعني إن الرقص الصوفي هو الدرجة الأولى من تراتبيات تلك الفلسفة التي تجمع المتصوف بالله؟
أجل. فهي واحدة منها، لأنها تفتح برقص المتصوفة بابًا ما بين الوجود والعدم.

رقص المولوية الصوفي المنسوب إلى جلال الدين الرومي (busy.org) 

(*) بصحبة قلق وجودي، أم بحكمة أخرى في الرأس؟!
لا يمكن لي أن أستفيض بالشرح، فأجنحَ مثل سفينةٍ في ميناء متلاطم.

(*) تعني إن صراعات سريّة حادّة تجري ما بين مدارس اللاهوت، وما بين موظفي الناسوت، وكلها تتفاعلُ تحت جنح الظلام؟
أجل. فكلما استنبتَ الطاغوتُ نجمةً سوداء في سماء اللاهوت، سرعان ما وجدتُ له ظلًا أحمرَ في الناسوت. وما عليك إلا أن تُدرك ما يفيضُ في الأنفس من غبار أهوج، وما في الرؤوس من أحلام شائكة على مناضدَ مُحطَمة.

(*) كيف وجد ابنُ الفارض الحبَّ على تلك الأرض؟
كان الحبُ طريقًا بموازاة طريق الحرير، ولكن برائحة أخرى.

(*) ألا تشترك رائحة الحب بما للحرير من روائح كما تظنُ أنت؟
لا أعتقد أن رائحةً تشبه عطر الحب، أو تشترك معه في المواصفات. ثمة فرادةٌ لموادَ نادرة

تساهمُ بتشكل تلك الرائحة.

(*) هل تشير إلى ما في الزهور من عطر؟
أبدًا لا. فرائحةُ الحبّ مزيجٌ مما في بعض المعادن من صفاتٍ تتجانسُ مع ما في الحواسّ من أزاهير البيولوجيا الجسدية.

(*) ولكن أيهما الأعظم في الحبّ، عطرُ الحواسّ البيولوجية، أم روائحُ تلك المعادن التي تحدثتَ عنها كشريك في صناعة عطر الحب؟
من المؤكد أن جسد العاشق بوتقةٌ تختلطُ فيها مختلف الروائح، بما في ذلك رائحة السّم.

(*) السّم لقتلِ منْ؟
لقتلِ الشهواتِ الطارئةِ التي عادةً ما تجتاحُ الجسمَ، فتغيّر من جرائم الحبِ وطبائعَ المحبوب.

(*) والشاعرُ عمر ابن الفارض، هل تجرّعَ ذلك السّم يوماَ ما، لكبحِ جماحِ ما تطرّفَ عنده من شهوات على سبيل الافتراض؟
أنا عشتُ مراهقتي في الفقه والحديث، ولذلك كنتُ مبتعدًا بجسدي عما كان يعتملُ بداخله من حرائق.

(*) ومتى يخشى المرءُ على نفسهِ من شهوات جسمهِ يا ابن الفارض؟
عندما تَستفردُ به الرغبةُ، فلا يجد الشاعرُ من مُعين له على إطفائها سوى الشيطان في الميدان.

طابع بريدي مصري يحمل صورة ابن الفارض إلى جانب أبيات مختارة له 

(*) أي ميدان من ميادين أهل الإيمان يا ابن الفارض؟!
ليس غير ميدان أهل الذّمة: الحيامن.

(*) ولكنها نطفٌ، أو حيوانات منويّة، كخلايا مشيجية يضعها الربُ في جُسوم عبادهِ للتكاثر بعد تحقق اللذّة. فأين المُحَرماتُ في ذلك؟
لا تقوم المُحرماتُ بمخلوق، أو تتعالى عليه سموًّا، إلا إذا اشتهى من النساء امرأةً، فتمنعتْ عليهِ، ولم يحصل من جسدها على موطأ ثمينٍ تمنيًا بتَلّمس نارها.

(*) أهذا هو العشقُ الإلهي، أو ما يمكن أن يُسمّى بدارة القمر، أو هالة المتصوفين؟
كلُّ خليةٍ بمتصوفٍ شهوةٌ، ظاهرُها إلهي بالعشق الميتافيزيقي، وباطنها لبديوي يستثمرُ المتعةَ في الغريزة الجنسية حدّ الإثارة والانتشاء. وبقية التفاصيل تأملٌ في العتمة.

(*) أهذا ما خلصتَ إليهِ في مصر، أم هو ما نلتهُ بعد الحج إلى مكة والإقامة فيها هناك؟
لقد قضيت 15 عامًا معتكفًا مع نفسي بوادٍ في مكة. وكانت عُزْلتي دليلي إلى ما في الأرضِ، وإلى ما في منازل الأعالي من تجلّيات. غرقتُ مع ثمارها في مياه الربّ وحدةً وتوحيدًا، من دون توطئة، أو نقاش.

(*) هل أنتَ منْ وصلتَ إلى الله يا ابن الفارض، أم سبقكَ خيالُك لحفلةِ السباحة في بحور الملكوت والإقامة الأبدية في التسبيح؟!!
كنتُ مَذْهولًا في فكرتي، كأن أكون رائيًا لموجودات الله الأولى قبيل رؤيتي للرب. فالتدرّج أحسنُ أحوالِ من هم على درجة الذَهِل والمُذْهول، خاصةً، وإن جلّ ما يخشاهُ الأخيرُ، أن يفقدَ عقلهُ ويوارى التراب فالعدم.

(*) ومن يُصرّفُ أعمالَ الربّ عند الصوفي، كما ترى أنتَ يا ابن الفارض؟
بعد الموت، ما من عاشق يُوارى الثرى. فما أشبهَ قبرَ الصوفي عند الله بجرابِ الكنغر. كلّما

أتاهُ ضجرٌ من العشرة السماوية على حين غرة، يأخذُ في ذلك الجراب قيلولةً للراحة، ليعاودَ بعدها الشراب والنكاح.

(*) هل زُرْتَ قبورًا لمتصوفةٍ، أو أئمةٍ، في جبل المقطم، الذي كنت تنامُ فيه من قبل؟
أجل. وكنت أشعرُ في أحايين كثر، آنذاك، أن قبرَ العاشق في جسمهِ. وهكذا كان ذلك المكان على امتداد الزمن الشعري قاطبةً.

(*) أهكذا علمتك العُزْلةُ خلال 15 من تلك السنوات التي انفصلت فيها عن البشر، وكأنكَ كنت مخلوقًا ضالًا، لم يعثرَ على نفسهِ حتى في مصباح علاء الدين؟!!
العُزْلةٌ منزلٌ من منازل السموات. وكنت هائمًا بها وقتما وقعَ عليّ قَدري فقَدّرني أن أكون غائبًا كما صورة الربّ المحجوب عن خلقهِ.

(*) كيف تجرؤ على قول ما ذهبت بك اللغةُ إلى قولهِ بمثل هذه الحرية يا ابن الفارض؟
قيمةُ العُزْلةِ في ما تنتجُ. وفيما تصيرُ نصوصًا عابرةً للأنفس والجغرافيات وللمدارس التي يتدرّب فيها الناسُ على النّسْيان.

 

(*) نّسْيانُ ماذا؟
نّسْيانُ ما ذهبوا به نحو الادعاء كونهم آلهة، فيما هم مخلوقاتُ صوفٍ، عادةً ما تصنعها المغازلُ من صوف الخراف ليس إلا.

(*) قيل إن الفشل العاطفي كان سببًا في خروجك من أرض مصر في اتجاه الحجاز. ولم يكنْ الحجُ هو الدافع. ما ردّك؟
العاشقُ الحقُ لا يفصحُ عما يتلظى في باطنه من حرائق. وقد فعلتُ ذلك خلال عزلتي التي امتدتْ طويلًا في وادٍ قرب مكة. كنتُ شريد نفسي بامتياز، أنا الذي وقفَ عقلهُ على باب فؤادهِ من دون أن تنالَ منه آلامُ النوستالجيا بسهم.

(*) حتى سهم كيوبيد يا ابن الفارض!
لم أنتمِ للميثولوجيا الرومانية، على الرغم من تأثري بما أنتجته الأساطيرُ من خرافات رائعة الصور والأحداث، ولكنني لم أستضعف روحي، فأترك ابن الفارض يُشابهُ نفسهُ مع ابن فينوس الطفل الصغير كيوبيد.

(*) تقصدُ إنك تتأثرُ بالأساطير، ولا تؤمن بها؟
أؤمن بكتابتها، لأنها أسهلُ الطرق التي ربما تربطُ الصوفي بالله. فكل أسطورة عبارة عن

مركبةٍ فضائيةٍ يمكنُ أن تخترقَ حاجزَ الصوت، وتذهبُ إلى حيث يتوقُ المتصوفةُ اللعب بما يقدرون عليه.

(*) قلت إنك فضلتَ العُزلةَ عن الناس، فسكنتَ المساجدَ المهجورةَ والخرائبَ وبعض كهوف جبل المقطم، وأطلتَ الإقامة في الوديان المحيطة بمكة أيضًا. هل كنت تبحث عن الله في تلك الأمكنة على سبيل المثال؟
كنتُ أريدُ لغتي كإنَاءٍ جَلّيّ، فذلك أفضل للمرحلة الثانية من حياتي. وهو ما حصل بالفعل، عندما انتقلتْ اللغةُ الأولى إلى ثانيةٍ مَصْقولة بفقه الخلوة، وما نتجت عنها من شعر وأحاديث في الزهد والتقشف وطرد الشرور عن الأرواح وعن الأنفس.

(*) ولكن الأخبار أشارت إلى غير ذلك تمامًا، ألا وهو تحوّلك من التقشف والزهد إلى عوالم الترف والجاه والأناقة والتمتع بطقوس الرومانسية، وفقًا لما نقل الرواةُ عن فترة وجودك على منبر الخطابة في الجامع الأزهر. أكان ذلك صحيحًا؟
نعم. وصلتُ إلى أن العقائد ليست بالقلائد. وإن ما يخصّ العامة قد لا يجلب للنفس السلامة. وأنا، كذات، ربما تختلف عن الآخرين في الحياة وفي الممات.

(*) وهل أسفتَ على التعايش مع أشباح الخرائب في عُزلتك الطويلة؟
لست آسفًا وحسب، بل أنا أذنبتُ بحماقةٍ قلّ نظيرها، عندما كنتُ أبحث عن الله في تلك الأمكنة المهجورة من خرائب وكهوف ووديان.

(*) وأين تراك وجدت الله يا ابن الفارض؟
وجدتهُ في نفسي، حيث الأبواب المشرّعة، والنوافذ الممانعة للغلق، أو الانغلاق. وكذلك أراهُ في كلّ نفس طاهرة غير أمارة بالسوء.

(*) هل مناجاة السموات بالموسيقى وبالغناء هي من فرضتْ عليك الانفتاح على حلقات حفلات الغواني، ممن كنّ يمارسنّ الغناء والرقص على الدفوف؟
كنتُ أحضرُ حفلاتهنّ مراقصًا ومشدودًا بالسماع للطرب. وكانت بعض الأعين تنظرني نظرات ريبة شذرَ مذرَ، وكأنني دخلت حلقات الفسق مُندَمِجًا بلذّات الدنيا، وناسيًا مواضعي الأولى في الدين والإيمان، بكل ما أنزلهُ الله على عباده في الأرض. تلك كانت خدعةٌ للتضليل والتحريف وتشويه صورتي في مرايا العباد.


(*) كأنك لم تُذنب في الدنيا يا عمرُ ابن الفارض!
لقد وضعَ اللهُ الخطأ إلى جانب الصواب في فاترينة العقل، أي في واجهته، وربما أراد كبير ملائكة الحكمة القول: يا عبدُ! ارفعْ عن رأسكَ السقفَ، لتختبرَ أيًا من الاثنين يفيض قبل الآخر. فإذا وجدتَ الخطأ يسبقُ الصوابَ، تَمدّدْ إلى جانب امرأةٍ في سريركَ لتَقْويم الاعوجاج.

(*) وفيما لو كان الصوابُ في المقدمة، ويفيض سيولًا تنزلُ من تحت قحف الرأس.
يكون على المؤمن الاتحاد بمن يُحب حتى التطابق والذوبان.

(*) هل تقصد الاتحاد بالبشري، أم بالإلهي؟
الاتحاد النسائي. ذلك هو الجوهر الذي أعنيه بالضبط.

(*) هل ذاك ما عارضك عليه ابن تيمية، عندما صنفك في قائمة الملحدين القائلين بالحلول، والاتحاد، ووحدة الوجود، كما كتب الحافظ الذهبي، مؤرخ أهل السنة، عنك؟
لكلّ صوفي عقدةٌ لا يحلها إلا الباري عز وجل.

(*) تعني أن الصوفي صاحب بطولات!!
بالضبط. وقد سبقنا الحلاج، والسهروردي شهاب الدين، فكانا في مقدمة من نالوا الشهادة العصماء من أجل الربّ.

(*) هل اتعظت أنتَ فلمْ تفعل ما فعلاه، فانكفأت مستهجنًا الارتقاء عبر سلالّم الصوفيين وصولًا إلى ربك بمثل الاستشهاد اللاعقلاني الذي ذهب بالحلاج حرقًا؟
أجل. فلم أكن متهورًا، أو منزوع العقل. فالصوفي راقصٌ في الباطن اللاهوتي، مطربٌ في التجلّي الناسوتي، حيث تضع الحكمة أوزارها في التيه، من دون أن تجد في وحدة الوجد ما يعبرُ عن حالة الخلق الجديد، فكلّ تكرار لفكرة الاتصال بالربّ عبر التهويلات المرافقة لأصوات الدفوف، إنما هي تقويض لكل معنى.

(*) ما هدف المتصوفة من فكرة الاتصال بالله، والذوبان في وحدانيته، أهو تمهيدٌ استباقي لنيل جوائز حور العين؟
تلك الفكرة لها ما يسندها في آيات الكتاب. ولذا فدوران الصوفي حول نفسه أولى محاولات بناء الطاقة لجذب انتباه الغائب المنتظر، والدخول في مداره المغناطيسي لتفجير الشهوات الكامنة في الأجساد.

(*) وفيما لو كانت مخلوقات الحور من المثليين. ما الحل في رأي ابن الفارض؟
آنذاك سنتخلى عنهم لمولانا جلال الدين الرومي، وشمس التبريزي، فهما الأقدر على الاندماج

بالمعقول واللامعقول في مسرح يوجين يونيسكو.

(*) إلى أية مدى يذهب شعرُ ابن الفارض؟
يذهبُ شعري إلى ثلاث مقامات: غناء الأرواح تحت التراب، ولذّة الطيران فوق المساجد، وكؤوس الشهوات المتفجرة بحبر الزمان على امتداد غيبوبة الأبد.

(*) ولا تؤمن بالبعث يا ابن الفارض.
ليس الآن. فأنا لم أغادر ذاتي الرسولية الملتصقة بي بعد. فكل ما أعرفهُ أنني اختلطتُ فاندمجتُ فولّدتُ متحررًا من نفسي الضيقة بالتجلّيات، وهكذا كنت حالمًا بالأزل في مجرى التاريخ الإلهي.

(*) قيل إن ابن الفارض، والرومي، وابن عربي، ثلاثي عشق. ما مدى صحة قول كذلك؟
ما إن يتقدمُ العاشقُ بتقرير عن نفسه، يكون كمن وضع قلبه على مشرحة في شارع، وصاح بالناس: هيا للفرجة على ما في قلبي من شجون ومفاتن ومخلوقات.
لذا فنحن الثلاثة، وإن لم نختلف في الإدراك الماورائي، إلا إننا اختلفنا عشقيًا بالنسب، وما فاضت به أرواحنا من أنوار. فمنا من امتلكَ شمعةً، ومنا من كان لديه فانوس، ومنا من فاض عقلهُ بالليزر، فتمكن من شق طريقه نحو السموات بأكثر ما للضوء من السرعات الفائقة فيزيائيًا.

(*) هل وجدت عند أحدهم تحوّلًا للحب من الإلهي إلى البذل في طاعة شهوات الجسد، والاستغراق بالشوق، وصولًا إلى كلّ ما هو مادي جنسيًا، مما قد يُعتبر انحرافًا في مبادئ الجوهر الصوفي؟
جلّ ما أفكرُ فيه أن لا يكون الله متسامحًا لكلّ ما قمنا به من تلك الأفعال القسرية التي غَلّبنا بها تعذيب النفس وتعنيفها على التمتع بخيرات الله من الطيب والأطايب. فما من أمرٍ للربّ بجواز أن يُمرّن المرءُ نفسه تجويعًا وتقشفًا وجلدًا وحبسًا، ولا بإيذاء النفس والضغط عليها بتهويل إقامة الصلوات، والانغماس في طقوس شديدة الوطأة على الأجسام، ربما تصل في بعض الأحوال إلى حدّ الهلاك.